إيطاليا تحتفل بمئوية شاشا... روائي الخصوصية الوطنية

ظل يفخر على الدوام بلقبه العربي

شاشا
شاشا
TT

إيطاليا تحتفل بمئوية شاشا... روائي الخصوصية الوطنية

شاشا
شاشا

تحتفل إيطاليا هذه الأيام بالذكرى المئوية لميلاد كاتبها الكبير ليوناردو شاشا (1921 - 1989) الذي أولى اهتماماً فائقاً بأرضه صقلية التي أحبها حباً جماً، وكانت ملهمته في كل أعماله الروائية، فهي مرآة عكس من خلالها الوضع البشري بقساة وألم شديدين، ونظر بوضوح وحياد إلى عيوبها وآفاتها المتمثلة بعصابات الإجرام المنظم (المافيا) التي لا تزال تعكر صفو الحياة في دوامة من الجرائم والعنف.
إحياءً لهذه المناسبة، ستقدم برامج وثائقية تلفزيونية وملاحق في الصحف والمجلات، وأفلام سينمائية مأخوذة عن أعماله الروائية تعرض في القنوات التلفزيونية الرسمية، وتنظيم لقاءات بعدد من ساسة البلاد، على رأسهم رئيس الجمهورية الإيطالية، وعدد من الأدباء والمثقفين الإيطاليين والأوروبيين، إضافة إلى معارض للصور والكتب الروائية على المنصات الافتراضية لوزارة الكنوز الثقافية الإيطالية.
منذ مطلع الستينات من القرن الماضي، استعاد الأدب الإيطالي مكانته المتميزة في تجارب كتاب أوروبا، حيث برز كتاب من طراز براتوليني، بافيزي، أومبيرتو إيكو، ألبيرتو مورافيا، إيلزا مورانتي، إيتالو كالفينو، إيناسيو سيلوني، دينو بوزاتي، وليوناردو شاشا، وعشرات غيرهم، بنوا فضاءاتهم الخاصة، حتى أصبح العديد من هذه الأسماء في طليعة كتاب العالم الغربي، حيث تشغل العديد من الروائيين في تلك الفترة المزيد من الموضوعات الجديدة التي لم تكن موجودة سابقاً ولم يواجهها آباؤهم، وتتجسد هذه المشاعر الجديدة بالرغبة والضياع، والوقوع تحت وطأة المتغيرات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية السريعة، الأمر الذي أدى إلى خلق أساليب مختلفة للتفكير لعل أهمها المسؤولية الإنسانية في عصرنا الحديث. وقد عبر شاشا الذي جمع بين حرفة الكتابة المتقنة، وتوقد الذكاء وطول الأناة والبحث والاستقصاء والتدقيق، عن الخصوصية الإيطالية بطريقة غير مسبوقة، لاقت استحساناً كبيراً من قبل النقاد الإيطاليين والأوروبيين. وقد جاءت هذه الأعمال في عصر كثر فيه النقد الاجتماعي الذي اعتبر أحد مقومات الفكر الإنساني الحي من حيث ممارسته وأساليبه. إنه أحد الروائيين الكبار الذي شرع الأبواب أمام أساليب متنوعة ومبتكرة في السرد، وبقدر كبير من الأصالة والجمال، والزهد التعبيري، والتحرر في مواجهة الواقع الإيطالي المليء بالمرارة.
لقد عاش شاشا، الذي كان يفخر على الدوام بلقبه العربي هذا، في بيئة قروية قريبة من مدينة أغريجينتو العريقة، واكتسب معرفة أساسية لواقع الجزيرة في فترة مضطربة من تاريخ إيطاليا التي شهدت الحرب العالمية الثانية وانهيارات نظامها الديمقراطي المسيحي.
بعد بضعة مؤلفات نثرية وشعرية يمكن اعتبارها من تمارين الشباب أمثال «خرافة الديكتاتورية» و«صقلية وقلبها» و«بيرانديللو وأسلوبه»، صدرت روايته التي أذاعت شهرته في البلاد ككاتب مقتدر ومتميز وهي «رعايا ريغالبيترا» عام 1956، ثم صدرت له «يوم البوم» و«لكل إنسان ماله». وكتب بعد ذلك مؤلفه الشهير «أعمام صقلية» أعقبه في بداية السبعينات بـ«البحر بلون الخمر»، وهما نوع من السرد التاريخي بأسلوب روائي.
وتوزعت أعماله الأخرى بين الرواية والدراسات الفكرية والتاريخية، التي تناول في بعضها العادات والتقاليد العربية التي وجدها لا تزال مستمرة في سلوك الكثيرين من أبناء قومه. وله كذلك العديد من الروايات التي هي أشبه بالتحقيق، أبرزها «مجلس مصر» و«موت محقق»، وتتسمان بلهجة فولتيرية ساخرة. إلا أنه ابتعد بعد ذلك عن الكتابة الروائية، كما في كتابه «الصافي»، ليرمي نفسه في خضم الحياة اليومية وتفاصيلها الدقيقة. وقد يكون، وهو ابن صقلية، من أكثر الكتاب الإيطاليين تناولاً لتنظيمات عصابات المافيا وتقاليدها الإجرامية وانغماسها بالأعمال الإرهابية والمخدرات والتجارة بالأعضاء البشرية والاغتيالات السياسية. كما ركز في كتاباته الجديدة وأبرزها وأشهرها «تودو مودو» على تحليل الإرهاب والإجرام المنظم.
ومن أعماله الأخرى، «موت مايورانا» و«قضية الدو مورو» و«أسود فوق أسود» و«الطاعنون بالخنجر» و«مافيا» و«الحبل المجنون» و«النطاق»، التي اعتبرت امتداداً لكتابات بيرانديللو وتوماسو دي لامبدوزا في روايته الوحيدة والشهيرة «الفهد»، التي توصل فيها إلى قناعة باستحالة إصلاح التدهور الأخلاقي الذي تجاوز صقلية ليشمل كل إيطاليا.
كما صدرت له ثلاث مجلدات، تحوي رواياته وأبحاثه ومقالاته الصحافية التي اشتهر بها في صحيفة «الكوريرا ديللا سيرا» عن جرائم المافيا ما بين عامي 1978 - 1988.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.