بعض الشهرة سوء فهم

بعض الشهرة سوء فهم
TT

بعض الشهرة سوء فهم

بعض الشهرة سوء فهم

هل الشهرة، أو بعضها على الأقل، نتيجة سوء فهم؟ يبدو أن الأمر كذلك في حالات كثيرة في التاريخ الأدبي، ويساهم الزمن والقارئ في سوء الفهم هذا. فقد اشتهر كثيرون لدورهم في نشوء حركات أدبية في فترات زمنية معينة، وليس بسبب القيمة الأدبية لنتاجاتهم ذاتها، كما حصل في الأربعينات والخمسينات مع ولادة الشعر الحديث أو الحر، وكما حصل أيضاً مع قصيدة النثر في الستينات. فقد تكرست أسماء ليست بذات القيمة الأدبية التي تتناسب مع شهرتها، ولو في الحد الأدنى، والتي ما كانت لتحققها في ظروف أخرى.
لكن الشهرة مثل كرة الثلج، تتدحرج من جيل لجيل، ومن زمن لزمن، ومن قارئ لقارئ، وخاصة في ظل ثقافة شفاهية، تستند إلى اللسان أكثر ما تعتمد على تقويم نقدي، يغرب هذا وذاك. ويزاد الأمر سوءاً مع الزمن، حين تتحول هذه الأسماء إلى مرجعيات ثقافية، ذات عصمة أقرب إلى العصمات الدينية التي لا يجوز التطاول عليها حتى مساءلتها. ثم، هناك أيضاً الأعمال التي تلامس «التابوهات» في مجتمعات مغلقة في فترات زمنية معينة، فتطلق شهرة أصحابها أو صاحباتها، الذين ينامون مطمئنين، مكتفين بهذه الشهرة الوهمية التي تتناقلها الألسن من لسان للسان، ولا داعي لتصديع الرأس بما يسمى بـ«الأدب الحقيقي»، وعذاب الأسئلة الفنية والجمالية والوجودية.
إنها ليست ظاهرة عربية فقط. في رواية «حياة الكاتب السرية» للروائي الفرنسي غيوم ميسو، ينجح روائي مبتدئ في اختراق السور الذي بناه كاتب مشهور حول بيته حتى لا يدخل أي طفيلي بعدما هجر الكتابة، واختار العزلة بعد نجاح أسطوري وهو بعد في منتصف الثلاثين من عمره. وسيزيد الغموض حول أسباب عزلته المفاجئة من شهرته، إذ أصبح سبب اختفائه وعزلته مادة مثيرة في الصحف والقنوات التلفزيونية، خاصة أنه لم يكن يتردد في إطلاق النار على كل من يحاول أن يقترب من بيته المبني على منحدر جرف شاهق، كما فعل مع الروائي المبتدئ، حين أطلق عليه رصاصتين أخطأتا هدفهما.
الرواية، كما هو واضح في تفاصيلها، تستلهم حياة الروائي الأميركي الشهير ج.د. سالنجر، تحت اسم «ناثان فولر». والمعروف أن سالنجر حقق شهرة أسطورية بعد صدور روايته «الحارس في حقل الشوفان»، بترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا. وما تزال هذه الرواية تحقق مبيعات كثيرة منذ صدورها عام 1915. ثم، فجأة، اعتزل بعدها، لتنمو أسطورته أكثر فأكثر، ويحل الشخص محل الكاتب. لقد لعب الزمن لعبته لصالح سالنجر. فقد صدرت روايته في تلك الفترة الحساسة الانتقالية من التاريخ الأميركي، طارحة أسئلتها حول الهوية والمستقبل الغامض، الذي ينتظر المراهقين والشبان، وأصبح بطلها هولدن كولفيد رمزاً للرفض والتمرد. ولكن هل هي فعلاً من أهم روايات القرن العشرين، كما تصنف عادة؟ هل تتناسب قيمتها الأدبية مع شهرتها، وشهرة كاتبها، التي غطت على كتاب مجيدين حقاً من جيله؟ من يستطيع أن يقرأها الآن سوى المراهقين والشبان، كما كان الأمر في زمن سالنجر؟
بعد أن ينجح الروائي المبتدئ بمقابلة الروائي الشهير، يسأله:
- لماذا اعتزلت الكتابة وأنت في عزّ شهرتك؟
فيجيبه ناثان فولز - أو سالنجر - :
- أي شهرة؟ إنها نتيجة سوء فهم كبير!
كم كان شجاعاً وصادقاً مع نفسه!



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.