أرمين لاشيت... هل يكون وجه ألمانيا الجديد أمام العالم؟

زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي مدافع عن نظام الأسد وسياسات روسيا والصين

أرمين لاشيت... هل يكون وجه ألمانيا الجديد أمام العالم؟
TT

أرمين لاشيت... هل يكون وجه ألمانيا الجديد أمام العالم؟

أرمين لاشيت... هل يكون وجه ألمانيا الجديد أمام العالم؟

حتى قبل أيام معدودة، لم يكن أرمين لاشيت إلا مجرد سياسي ألماني محلي. إلا أنه اليوم بعد فوزه بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي قادته أنجيلا ميركل لعشرين سنة، بات وجهاً يثير اهتمام العالم. فهو قد يكون «خلف» السيدة التي تحولت إلى وجه ألمانيا الحديثة، بعدما حكمت البلاد منذ 16 سنة وتغادر منصبها في سبتمبر (أيلول) المقبل بشعبية قد تكون الأعلى لزعيم يخرج من السلطة.
نهاية عهد هذه المرأة المعروفة هنا بـ«ماما ميركل» - أو «موتي» بالألمانية - يدفع كثيرين للتساؤل عن كيف ستكون ألمانيا من بعدها؟ ومن سيحكمها؟ وبما أن حزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، يحل أولاً في استطلاعات الرأي، فأمام لاشيت فرصة كبيرة بأن يكون هو مَن يحكم ألمانيا بعد ميركل، في حال تخطيه بضع عقبات إضافية أمامه.
في المقابل، فإن هذا السياسي، المعروف بقرب سياساته المتعلقة بالهجرة والتعاون الأوروبي وغيرها من سياسات المستشارة، يحمل أفكاراً خاصة في مجال السياسات الخارجية تخيف البعض، خاصة فيما يتعلق بروسيا والصين وسوريا. هذه الأفكار تناقض بشكل أو بآخر انفتاحه الكبير على التعدد الثقافي وعلى اللاجئين والمهاجرين لدرجة دفعت رفاقه في الحزب يلقبونه بـ«أرمين التركي»؛ بسبب تأييده الشديد دمج الألمان من أصول تركية داخل الحزب والمؤسسات الحكومية. ولكن من يكون فعلاً هذا الرجل الذي قد يصبح قريباً وجه ألمانيا أمام العالم؟
مع أن أرمين لاشيت البالغ من العمر 59 سنة، لم يتبوأ منصباً حكومياً فيدرالياً منذ انخراطه في العمل السياسي، فإن السياسة الخارجية كانت حاضرة في مسيرته. إذ إنه من منصبه الحالي كرئيس حكومة ولاية شمال الراين ووستفاليا - كبرى الولايات الألمانية الـ16 من حيث عدد السكان وأقواها اقتصادياً - يدير لاشيت العلاقات «الخارجية» لولايتها بما يخدم مصلحتها الاقتصادية.
وربما تكون هذه المصالح هي التي تتحكم بالكثير من آرائه السياسية التي عبّر عنها، خاصة فيما يتعلق بروسيا والصين. ففي شمال الراين ووستفاليا هناك قرابة 1200 شركة تعمل في روسيا، وعلاقات الولاية الاقتصادية مع الصين هي الأقوى بين الولايات الأخرى. وفي سياق متصل، فإن مقاربة لاشيت «اللينة» تجاه الدولتين دفعت بالبعض لاتهامه بأنه متعاطف مع «أنظمة أوتوقراطية».

تأييده نظام الأسد
لم تساعد تصريحات لاشيت المدافعة عن رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2014 برد هذه السمعة عنه، بل زادتها صدقية. ورغم أن تصريحاته عن الأسد قديمة، فهي عادت لتظهر بعد انتخابه زعيماً للحزب. ما يذكر أنه عام 2014، قال لاشيت - الذي كان يشغل يومذاك منصب نائب رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في مقابلة مع صحيفة «تاغس شبيغل»، إنه يؤيد أي ضربات جوية تستهدف «داعش» في سوريا وإن كانت تصب في مصلحة الأسد، منتقداً دعم الولايات المتحدة فصائل سورية معارضة. وتابع في حينه «أي دعم في القتال ضد (داعش) أمر ضروري ومرحّب به» ولو كان يساعد الأسد. وأضاف «سوريا في ظل حكم الأسد دولة أوتوقراطية، لكنها سمحت للديانات والمذاهب المختلفة مثل المسيحية والشيعة والعلوية واليهود مساحة للتنفس. ولو أطيح بالأسد، كما تريد بعض الدولة الغربية، لكان (داعش) في دمشق الآن، ليس بعيداً عن الحدود مع إسرائيل». على هذا الكلام ردت أورسولا فون دير لاين - التي كانت آنذاك منصب وزيرة الدفاع وهي اليوم رئيس المفوضية الأوروبية – بالقول، إن «المجتمع الدولي لن ينسى أبداً أن الأسد استخدم الغاز السام ضد شعبه».
مع هذا، عاد لاشيت فكتب عام 2018 تغريدة على «تويتر» تشكك في استخدام النظام السوري الأسلحة الكيمياوية وتتهم «داعش» باستخدامها. وقال تعليقاً على تقرير لقناة «زد دي إف» الألمانية حول اعتداء الغوطة عام 2013 «تنظيم الدولة الذي حرك أنيس العامري من سوريا، ما زال ناشطاً... استخدام الغاز السام أمر مقيت بغض النظر عن مستخدمه». وأنيس العامري هو لاجئ تونسي نفذ عملية إرهابية في برلين خلال ديسمبر (كانون الأول) 2016.
وقبل يومين عاد الصحافي ماتيو فون رو في مجلة «در شبيغل» ليذكّر بكلام لاشيت هذا، ويعلق «لاشيت شارك في دعاية النظام السوري الذي ساوى بين الجماعات المعارضة و(داعش)، وشارك هذه النظرية عبر (تويتر) بتحميل (داعش) مسؤولية الاعتداء الكيماوي في الغوطة التي تسيطر عليها المعارضة عوضاً عن اتهام النظام بذلك، علماً بأن (داعش) لم يكن موجوداً في الغوطة».

ودفاع عن سياسات بوتين
وقبل ذلك، في عام 2015، دافع لاشيت حتى عن الوجود الروسي في سوريا. إذ كتب تغريدة قال فيها «لماذا يعتبر انتشار روسيا ضد (داعش) مقلقاً بينما الضربات الجوية الغربية مفيدة؟ الحل الوحيد في سوريا هو مع روسيا»، غاضاً النظر بذلك عن الاتهامات الموجهة لروسيا باستهدافها المدنيين وضرب المستشفيات في سوريا طوال سنوات.
كل هذه التصريحات التي عادت لتطفو اليوم على السطح دفعت ساسة من أحزاب ألمانية أخرى لتوجيه انتقادات للاشيت. فقال النائب عن حزب «الخُضر» أوميد نوربور – وهو إيراني الأصل - إنه تلقى رسائل كثيرة من أصدقاء في أوروبا الشرقية ومن معارضين سوريين يعبرون عن قلقهم من آراء لاشيت. وأردف «كان الأمر سيئاً كفاية عندما كان يحمل هذه الأفكار وهو يقود إحدى الولايات الألمانية، ولكن إذا استمرت هذه الأفكار معه كزعيم لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فهذا الأمر يشكل خطراً أمنياً على ألمانيا وأوروبا». وحول الموضوع الروسي، فإن دفاعه عن روسيا يتخطى في الواقع وجودها في سوريا. فهو اشتكى مرة من «الشعبوية المعارضة لبوتين لأغراض تسويقية» التي تنتشر في ألمانيا. واقتبس عن هنري كيسنجر قوله «إن شيطنة بوتين ليس سياسة، بل حجة لغياب السياسة». بعدها، عام 2018، شكّك بمسؤولية روسيا عن محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا. وهو اليوم في طليعة المؤيدين لاستمرار مشروع «نورد ستريم2» الذي يوصل الغاز الطبيعي الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان عرضة لعقوبات أميركية بدأت في عهد دونالد ترمب ويتوقع أن ستستمر في عهد جو بايدن.
العلاقة الاقتصادية لولاية شمال الراين ووستفاليا، التي يحكمها لاشيت منذ 2017، مع روسيا قد تفسر مواقفه هذه من موسكو. فهو اعترف مرة بأن هناك قرابة الـ1200 شركة في الولاية تستثمر أو لديها علاقات عمل في روسيا. وتحدث أيضاً اعتماد الولاية الكبير على واردات الغاز الروسي الطبيعي. لكن، في المقابل، يقول أحد المقربين منه يقول بأن علاقته ليس مقربة ببوتين بالشكل الذي هي عليه علاقة رؤساء الولايات الأخرى مع الزعيم الروسي، بدليل أن لاشيت رفض زيارة موسكو حتى الآن. ويقول المقرب منه أيضاً بأن أفكار لاشيت فيما يتعلق بروسيا والسياسة الخارجية لا تختلف كثيراً عن أفكار ميركل. وقد يكون هذه الأمر صحيحاً فيما يتعلق بروسيا؛ كون ميركل تدافع أيضاً عن اتفاقية «نورد ستريم2».

أما لناحية علاقة لاشيت بالصين، فتأكدت أكثر بعد فوزه أخيراً. إذ رحبت الصين بانتخابه واعتبرت أن وصوله للزعامة وربما لاحقاً لقيادة ألمانيا يوحي بأنه سيكمل بالسياسة «الصديقة» للصين التي بدأتها ميركل وتوجت باتفاقية تجارة بين الاتحاد الأوروبي وبكين غير مسبوقة في نهاية العام الماضي عندما كانت ألمانيا تترأس الاتحاد لستة أشهر. ولاشيت، مثل ميركل، يعارض حظر شركة «هواوي» الصينية من المشاركة في المناقصة لبناء شبكة الـ«جي5» في ألمانيا. وكان قد وصف الصين في سبتمبر الماضي بعد لقائه سفيرها في برلين بأنها «شريك قريب مهم»، مشيراً إلى أن ثلث الشركات الصينية في ألمانيا موجودة في ولايته. وتحدث حينها عن المساعي لتعزيز التعاون الاقتصادي في مجالات عدة مع بكين.

كيف ستعامله واشنطن؟
مواقف كهذه قد تضع لاشيت في مواجهة مع إدارة بايدن العازمة على اتخاذ موقف متشدد من الصين، والتي كانت تراهن على التعاون الأوروبي للوصول لمقاربة مشتركة لمواجهة تمدد بكين. وقد تحرج هذه العلاقة لاشيت، المؤيد القوي لعلاقة شراكة قوية مع الولايات المتحدة. وهذا مع العلم أنه سارع لتهنئة الرئيس الأميركي الجديد بُعيد أدائه قسم اليمين، وغرّد «أهنئ الرئيس الـ46 للولايات المتحدة جو بايدن، وأتذكر أن الجنود الأميركيين هم من حرروا بلدتي في أكتوبر (تشرين الأول) 1944، وأمّنوا حرية برلين والعالم الحر. مستقبلنا تحكمه إعادة إحياء الصداقة عبر الأطلسي».
أوروبياً، يعد لاشيت من أشد المؤيدين للاتحاد الأوروبي، وكان قد أمضى 6 سنوات في بروكسل نائب في البرلمان الأوروبي بين 1999 و2005. وانتقد ميركل في السابق لترددها في أخذ ألمانيا بعيداً في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي. وفي «مؤتمر ميونيخ للأمن» العام الماضي «الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقدم اليوم اقتراحات، ولكن نحن نأخذ وقتاً طويلاً جداً للرد عليها»، في انتقاد مبطن لميركل التي لم ترد على اقتراح ماكرون لجعل أوروبا أكثر اندماجاً وتكاملاً بعد.

«أرمين التركي»
بعيداً عن السياسة الخارجية، فإن لاشيت يعرف بين محازبيه بـ«أرمين التركي»، بسبب دعمه وتأييده دمج من هم من أصول مهاجرة في الحزب ومؤسسات الدولة. وهو رغم سياساته المثيرة للجدل حول سوريا والأسد، يعد من أبرز المؤيدين والمدافعين عن اللاجئين السوريين في ألمانيا. وكان قد زار في الماضي مخيمات لجوء في اليونان وتركيا والأردن للوقوف على وضع اللاجئين فيها. وأيّد سياسة الباب المفتوح التي اعتمدتها ميركل لإدخال مئات الآلاف من السوريين عام 2015.
هذا الانفتاح الكبير على المهاجرين، قد لا يعجب البعض داخل الحزب، خاصة من بين اليمينيين المتشددين الذين يعتبرونه «ليبرالياً». وهؤلاء كانوا يأملون بأن يخلف ميركل في زعامة الحزب زعيم يحمل أفكاراً كأفكارهم، مثل منافسه الخاسر فريدريش ميرز الذي كان تعهد باستعادة الذين خسرهم الحزب لحساب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف في الانتخابات الماضية.
في أي حال، يتمتع لاشيت بقدرة لا بأس بها على توحيد الحزب. واختار التركيز على هذه النقطة في خطابه أمام المندوبين قبل التصويت على زعيم الحزب المقبل، وثبت بالفعل أنه خطاب فائز. وتحدث في خطابه عن والده الذي كان يعمل في المناجم واستلهم منه فكرة «التضامن» ليتحدث منها عن الوحدة داخل الحزب.

بطاقة هوية
يتحدر جدّا لاشيت من الأقلية الألمانية في بلجيكا، بينما زوجته من عائلته بلجيكية والونية تتكلم الفرنسية. ولاشيت نفسه يجيد الفرنسية والإنجليزية، ولقد نشأ في بيت كاثوليكي محافظ، وله من زوجته 3 أولاد.
درس القانون والصحافة بشكل متوازٍ في جامعتي بون وميونيخ، وعمل بعد تخرجه في الصحافة. وكان مراسلاً لقناة تلفزيونية وإذاعة راديو في بون، وعمل أيضاً رئيس تحرير لجريدة «كيرشن تزايتونغ آخن» وهي صحيفة كاثوليكية في مدينة آخن (إكس لا شابيل) الحدودية التاريخية العريقة.
دخل لاشيت عالم السياسة عام 1994، وفاز بمقعد في البوندستاغ حينها، وبعدما خسره في الانتخابات العامة التالية خاض غمار الانتخابات الأوروبي وفاز بمقعد بالبرلمان الأوروبي عام 1999. وعاد إلى ولايته عام 2005 ليبدأ مسيرته في السياسة المحلية وزيراً للعائلة والاندماج عام 2005. وفي عام 2010 ترشح لزعامة الحزب في ولايته، لكنه خسر أمام نوربرت روتغن، المرشح الذي خسر أمام لاشيت في انتخابات زعامة الحزب الأخيرة. عام 2012 عاد لاشيت ليتسلم زعامة حزبه بنجاح في ولايته إثر استقالة روتغن من المنصب. ومع أنه مُني في مسيرته السياسية بخسائر عدة، فإنه بقي مصمماً على التقدم، حتى وصل قبل أسبوع إلى زعامة الحزب.
مع هذا، حتى عند هذه النقطة لن تنهي معاركه. فأمامه معارك أخرى سيخوضها قبل الوصول إلى قيادة البلاد، وخلافة ميركل في منصبها الثاني، مستشاراً لألمانيا.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.