ترمب... رئيس لولاية واحدة يترك بلاداً تعيش حالة من الشك والغضب

الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب (أ.ب)
TT

ترمب... رئيس لولاية واحدة يترك بلاداً تعيش حالة من الشك والغضب

الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب (أ.ب)

كان دونالد ترمب يحلم «بأربع سنوات إضافية رائعة في البيت الأبيض» إلا أنه يغادره معزولاً بعدما تخلى عنه جزء كبير من معسكره إثر إجراءات عزل ثانية في حقه مرتبطة باقتحام الكونغرس، ووسط فوضى وغضب وانقسامات غير مسبوقة.
ويترك ترمب الذي أبرز حكمه انقسامات المجتمع الأميركي وزاد من حدتها، بلداً مجروحاً يعتريه الشك والغضب. وقد تلطخت صورة هذا البلد بشكل مستدام في العالم جراء ما حصل في الكونغرس.
وكتب ترمب (74 عاماً) من خلال الاستفزازات والإهانات والتغريدات الساخرة، فصلاً استثنائياً من تاريخ الولايات المتحدة، وفق ما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية. وعلى مدى أربعة أعوام شهد الأميركيون بحماسة أو ذهول أو خوف أحياناً، عرضاً غير مسبوق لرئيس وصل إلى السلطة بطريقة مدوية ولم يضع لنفسه أي رادع.
لكن للمفارقة سيبقى الرجل المهووس بالأرقام الذي يصنف الناس على أنهم «فاشلون» و«راجحون»، خلافاً لأسلافه الثلاثة المباشرين (باراك أوباما وجورج دبليو بوش وبيل كلينتون) رئيساً لولاية واحدة.
وأبرزت ولايته هذه هشاشة الديمقراطية الأميركية، فضلاً عن صلابتها أمام رئيس يرفض الإقرار بنتيجة صناديق الاقتراع ويلوح بفرضيات المؤامرة على أنها حجج قانونية.
فمشاهد مناصريه وهم يهاجمون عرين الديمقراطية الأميركية ملوحين بأعلام ترمب وأعلام الولايات الكونفدرالية وتاركين على الجدران رسوم غرافيتي تدعو إلى قتل الصحافيين، ستبقى بصمة لا تُمحى لمروره في البيت الأبيض.
وقال البرلماني الديمقراطي خواكين كاسترو خلال مناقشات في مجلس النواب لتوجيه الاتهام إلى الرئيس المنتهية ولايته: «دونالد ترمب هو أخطر رجل دخل المكتب البيضوي»، ومكتب الرئيس في البيت الأبيض.
وقد حاول الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة إعادة رسم حدود الديمقراطية الأميركيةم ما دفع البعض إلى الحديث عن محاولة انقلاب فعلية. وتحدثت الدبلوماسية فيونا هيل التي كانت لفترة ضمن فريقه للأمن القومي عن «محاولة انقلاب ذاتية» شُنت «ببطء» و«في وضح النهار».
واضطلع الجيش والشرطة والمسؤولون المنتخبون المحليون ووسائل الإعلام بدورهم وشكلوا رادعاً لذلك. وتؤكد هيل أن «النبأ السار هو أن هذا الانقلاب الذاتي فشل، أما النبأ غير السار فهو أن أنصاره لا يزالون يؤكدون الكذبة الكبيرة بأنه فاز بالانتخابات».
وفجر ترمب أكبر مفاجأة في التاريخ السياسي الحديث وعرف كيف يتوجه إلى أميركيين شعروا بأنهم «منسيون» لكنه رفض على الدوام أداء دور شخص يوّحد الشعب الأميركي.
وركزت جائحة «كوفيد - 19» التي أسفرت عن نحو 400 ألف وفاة في الولايات المتحدة أكثر من أي مرحلة أخرى، الضوء على هذا الموقف. فقد سخر ترمب من وضع الكمامة وانتقد ذلك مرات عدة. كما هاجم الطبيب أنطوني فاوتشي مدير المعهد الأميركي للأمراض المعدية وعضو خلية مكافحة فيروس «كورونا»، الذي عمل مع خمسة رؤساء سابقين ويُعتبر عموماً صوت الضمير العلمي في البلاد.
وقلل الملياردير الجمهوري من شأن التهديد الصحي مقدماً نفسه على أنه بطل خارق مثل «سوبرمان». وحتى بعد إصابته بالوباء، فوت الفرصة التي أتيحت له لإبداء بعض التعاطف مع المصابين.
ويجدر القول إن البلاد لم تشهد الانهيار الاقتصادي الذي توقعه البعض في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 يوم انتخابه المفاجئ، لا بل بقيت مؤشرات عدة وفي مقدمها مؤشر العمل عند مستويات مشرقة قبل آثار الجائحة المدمرة.
لكن في رئاسة شهدت عدة فضائح وتتناقض تماماً مع رئاسة باراك أوباما، ألحق ترمب المعروف بأنه يعشق مخالفة القواعد والاستفزاز، الضرر بهذا المنصب وهاجم قضاة ومسؤولين منتخبين وموظفين رسميين وصبّ الزيت على نار التوتر العرقي.
وفي الخارج عامل حلفاء الولايات المتحدة بخشونة وأبدى إعجابه بقادة سلطويين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وأوقف بشكل مفاجئ جهود مكافحة التغير المناخي.
ترمب المتبجح والمتلاعب الذي يستخدم بحسب تعبير الكاتب فيليب روث «مجموعة مفردات لا تتجاوز 77 كلمة»، أفقد معجبيه ومنتقديه على حد سواء الشعور بمعنى الأمور. وقال في أحد الأيام: «العرض يحمل عنوان (ترمب) والبطاقات تنفد دائماً... استمتع بذلك وسأستمر في الاستمتاع».
ونجح الملياردير الأميركي الذي يتميز بأداء قوي على منصات الحملات الانتخابية، في تنصيب نفسه ناطقاً باسم الأميركيين «المنسيين» أو «الجديرين بالشفقة» بحسب تعبير منافسته الديمقراطية عام 2016 هيلاري كلينتون.
عرف ترمب كيف يلعب على وتر مخاوف أميركيين، غالبيتهم من البيض والمتقدمين في السن عموماً، كانوا يشعرون بأنهم «مُحتقَرون» من «النُخب» على ساحل الولايات المتحدة الشرقي ونجوم هوليوود على الساحل الغربي. واعتمد الرجل الذي عرفه الأميركيون أساساً من خلال برنامج تلفزيون الواقع «ذي ابرينتس»، قاعدة بسيطة طبقها على الدوام وهو أن يشغل الساحة بأي ثمن.
وبسبب استخفافه بالعلم وتصريحاته غير المطابقة للواقع، اضطر فريق تقصي الحقائق من صحيفة «واشنطن بوست» إلى استحداث فئة جديدة للتثبت من المعلومات الخاطئة التي تتكرر أكثر من 20 مرة.
ومن جناحه الشهير في البيت الأبيض «ويست وينغ»، عمد رجل الأعمال السابق إلى توسيع الهوة بين المجتمع الأميركي المنقسم بين الجمهوريين والديمقراطيين. وبدلاً من إطلاق دعوات جامعة على غرار أسلافه، لعب ترمب على خوف الأميركيين. ولوح عند إعلان ترشحه في 2015، بشبح المهاجرين غير الشرعيين واصفاً إياهم «بالمُغتصِبين»، ونصّب نفسه في حملة 2020 الضامن الوحيد «للقانون والأمن» في مواجهة تهديد «اليسار الراديكالي».
وفي بلد يعشق اللحظات المؤثرة التي تعبر عن الوحدة الوطنية، لم يعتمد ترمب إلا نادراً لهجة تبلسم الجراح، حتى بعد حدوث كارثة طبيعية أو عمليات إطلاق نار دامية. واستخدم هجماته العنيفة على وسائل الإعلام التي دأب على وصفها بأنها «كاذبة» و«فاسدة» و«عدوة الشعب»، لكي يؤلب قسماً من الشعب ضد قسم آخر.
لكن ترمب يبقى الرئيس الوحيد في التاريخ الذي لم تصل شعبيته إلى نسبة 50 في المائة خلال توليه مهامه.
يتفق مؤيدوه ومعارضوه على نقطة واحدة وهي أن ترمب وفى بجزء من وعوده الانتخابية. فكما أعلن سابقاً، انسحب ترمب من معاهدات أو اتفاقات تم التفاوض بشأنها طويلاً، في مقدمتها اتفاق باريس حول المناخ الذي وقعته معظم دول العالم للحد من الاحترار المناخي. لكن هذا الوفاء بتعهداته ووعوده الانتخابية جاء عبر عمليات اعتبرت هدامة. وتبدو حصيلة مبادراته هذه هزيلة نسبياً. ويبدو ذلك جلياً على صعيد الملف النووي الإيراني، فهو مزق الاتفاق الذي تفاوض عليه سلفه لفترة طويلة وزاد الضغوط على إيران لكن بدون تقديم استراتيجية فعلية.
ويبقى مقتل زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 خلال عملية أميركية في سوريا، المحطة الأقوى في رئاسته. لكن تحركه الأكثر جرأة الذي فاجأ فيه العالم وخوله أن يحلم بنيل جائزة نوبل للسلام، لم يأت بالنتائج المرجوة. فقد انتهت القمتان مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون وزيارة ترمب التاريخية للمنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين و«الرسائل الرائعة» بينهما، من دون تحقيق نتيجة ملموسة. فالنظام الكوري الشمالي لم يقدم أي تنازل بشأن مسألة نزع الأسلحة النووية.
في الأجواء الجيوسياسية المعقدة والمتقلبة للقرن الحادي والعشرين، هاجم ترمب شخصياً رئيس وزراء كندا جاستن ترودو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي.
وفي سيناريو سياسي غير مسبوق لم يتوقعه أي محافظ، أقدم ترمب بقدرته على إشعال مشاعر قاعدته الانتخابية، على ترويض الحزب الجمهوري الذي كان قلل من أهميته في البداية أو حتى تجاهله.
وعبر بعض النواب الجمهوريين أحياناً عن معارضتهم لبعض قراراته مثل موقفه المتساهل بشكل غير عادي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن حتى الهجوم على الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 ظل الجمهوريون يشكلون كتلة واحدة وراءه، باستثناء بعض الأصوات المعارضة مثل السيناتور جون ماكين الذي حذر قبل وفاته في أغسطس (آب) 2018 من نزعة نحو «قومية غير منطقية ومضللة».
ويعتمد ترمب في الأعمال كما في السياسة، على مبدأ بسيط: معه أو ضده. وتحدث المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) جيمس كومي الذي أقاله الرئيس فجأة، في مذكراته عن رئيس يُخضع أوساطه لمعايير ولاء تذكره بموقف زعماء المافيا عندما بدأ حياته المهنية كمدع عام.
ولد دونالد جاي ترمب في كوينز في نيويورك وتلقى تعليمه في مدرسة عسكرية وانضم إلى شركة العائلة بعد دراسة الأعمال. وهو ليس «رجلاً عصامياً» خلافاً للصورة التي يريد عكسها عن نفسه. فبعد الحرب العالمية الثانية بنى والده فريد ترمب المتحدر من مهاجر ألماني، إمبراطورية في مدينة نيويورك من خلال تشييد مبان للطبقة الوسطى في الأحياء الشعبية.
وعندما كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» في صيف عام 2020 أنه لم يدفع سوى 750 دولاراً من الضرائب الفيدرالية على الدخل في 2016 وأن العديد من الشركات تكبدت خسائر، تلقت صورته كرجل أعمال ناجح ضربة.
لم يتوقف ترمب وهو أب لخمسة أبناء وُلدوا لثلاث زوجات مختلفات، وله عشرة أحفاد، عن الإشادة علناً بزوجته ميلانيا، عارضة الأزياء السابقة التي أصبحت «السيدة الأولى الرائعة».
لكن فضح علاقات يُعتقد أنه أقامها خارج إطار الزواج، وخصوصاً مع ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز، واتهامات بالاعتداء الجنسي موجهة إليه، لا تتناسب تماماً مع مديحه المتكرر للقيم العائلية.
إلا أن ترمب تجاوز كل هذه الفضائح مستنداً إلى دائرة عائلية صغيرة ومتضامنة، فضلاً عن «غريزة» دائمة الحضور.
وكما كان ترمب رئيساً مختلفاً سيبقى رئيساً سابقاً على حدة أيضاً. فلا يمكن تصوره مشاركاً مع رؤساء سابقين لا يزالون على قيد الحياة في صورة جماعية تعكس الوحدة الوطنية.
ويباشر دونالد ترمب حياة ما بعد الرئاسة معزولاً في مارالاغو في فلوريدا.
جدير بالذكر أن الرئيس السابق باراك أوباما حذر من أن رئاسة جو بايدن وحدها لن تكون قادرة على بلسمة جراح الشعب الأميركي قائلاً: «أنا أعرف أن انتخابات واحدة لن تكون كافية لحل المشكلة... فانقساماتنا عميقة».


مقالات ذات صلة

تقرير: منظمة تطالب بالتحقيق في تكاليف حضور سياسيين أوروبيين عشاء ترأسه ترمب

أوروبا جلسة للبرلمان الأوروبي في بروكسل (أ.ب)

تقرير: منظمة تطالب بالتحقيق في تكاليف حضور سياسيين أوروبيين عشاء ترأسه ترمب

قالت صحيفة «غارديان» البريطانية إن منظمة الشفافية الدولية غير حكومية دعت إلى إجراء تحقيق مع خمسة أعضاء في البرلمان الأوروبي ينتمون إلى اليمين المتطرف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
تحليل إخباري الرئيس جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترمب في البيت الأبيض (د.ب.أ)

تحليل إخباري تداعيات استراتيجية لعودة ترمب «اللامتوقّع»

مع الفترة الثانية للحكم ستكون يد ترمب طليقة خصوصاً وقد سيطر حزبه الجمهوري على الكونغرس كله.

المحلل العسكري
الولايات المتحدة​ بيت هيغسيث خلال مقابلة سابقة مع ترمب في 2017 (رويترز)

فريق ترمب يراجع ترشيح بيت هيغسيث لمنصب وزير الدفاع

استُبعد هيغسيث من حفل تنصيب بايدن في عام 2021، بسبب وشم لشعار يرفعه متطرفون بيض.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ ترمب يصل إلى حفل «أميركا أولاً» في مارالاغو في 14 نوفمبر (أ.ف.ب)

اختيارات ترمب السريعة لأعضاء حكومته تفاجئ مستشاريه

بشجاعة وثقة بغرائزه وازدراء كبير لخبرة واشنطن، يعيّن ترمب الموظفين في أهم الأدوار في حكومته بسرعة خاطفة.

جوناثان سوان (واشنطن) ماغي هابرمان (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس المنتخب دونالد ترمب وكامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأميركية (أ.ف.ب)

متخصص بالتضليل الإعلامي: اليسار الأميركي يغرق في نظريات المؤامرة بعد فوز ترمب

بعد فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية، تراجعت مزاعم اليمين الأميركي بشأن عمليات تزوير على شبكات التواصل الاجتماعي، في حين باشر اليسار تشارك نظريات المؤامرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

لقاء بايدن وشي لا يبدد عدم اليقين بين القوتين العظميين

الرئيس بايدن يشارك في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)
الرئيس بايدن يشارك في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)
TT

لقاء بايدن وشي لا يبدد عدم اليقين بين القوتين العظميين

الرئيس بايدن يشارك في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)
الرئيس بايدن يشارك في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)

يلتقي الرئيس الأميركي، جو بايدن، بنظيره الصيني، شي جينبينغ، للمرة الأخيرة بصفته رئيساً للولايات المتحدة، السبت، على هامش أعمال منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو. لكن مسعى الزعيمين لخفض التوتر قبل تنصيب الرئيس المنتخب، دونالد ترمب، يواجه تحديات بسبب صراعات جديدة متعلقة بالجرائم الإلكترونية والشؤون التجارية والوضع في تايوان وروسيا.

الرئيس بايدن يصل إلى منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)

وسيلتقي بايدن مع شي لإجراء أول محادثات بينهما منذ سبعة أشهر، فيما يقيّم زعماء المنطقة الآثار المترتبة على عودة ترمب إلى السلطة في 20 يناير (كانون الثاني).

حذّر الرئيس الأميركي، الجمعة، من حقبة التغيير السياسي أثناء عقده آخر اجتماع له مع حليفين رئيسيين في قمة آسيا والمحيط الهادئ (آبيك). وقال بايدن أثناء لقائه رئيس الوزراء الياباني، شيغيرو إيشيبا، والرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، في ليما: «لقد وصلنا الآن إلى لحظة تغيير سياسي كبير»، ورجّح أن يكون هذا اجتماعه الأخير في إطار التحالف الثلاثي الذي رعاه على مدى العام الماضي ضد كوريا الشمالية والصين.

وأضاف الرئيس الأميركي أن التحالف الثلاثي «بُنيَّ ليبقى. هذا ما آمله وأتوقعه»، كما حذّر بايدن من «التعاون الخطير والمزعزع للاستقرار» بين كوريا الشمالية وروسيا، وسط مخاوف متزايدة من قيام بيونغ يانغ المسلحة نووياً بإرسال قوات للقتال في أوكرانيا.

الرئيس الصيني شي جينبينغ يشارك في أعمال منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ليما عاصمة بيرو (أ.ب)

من المتوقع أن يستخدم الرئيس الأميركي اجتماعه الأخير مع الزعيم الصيني لحثه على إقناع كوريا الشمالية بعدم تعزيز دعمها للحرب الروسية على أوكرانيا. ويقول مسؤولون إن بايدن سيتطلع إلى قيام شي بتعزيز المشاركة الصينية لمنع تصعيد لحظة خطيرة بالفعل مع كوريا الشمالية.

وكان بايدن قد أدان، الجمعة، قرار الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بإرسال آلاف من الجنود لمساعدة موسكو على صد القوات الأوكرانية، التي استولت على أراضٍ في منطقة كورسك الحدودية الروسية، ووصف بايدن هذه الخطوة بأنها «تعاون خطير ومزعزع للاستقرار».

بدوره دعا الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، الجمعة، إلى مزيد من التعاون مع بكين لتعزيز «السلام والاستقرار الإقليميين»، بعد أن التقى نظيره الصيني شي جينبينغ لأول مرة منذ عامين، حسبما ذكرت وكالة «يونهاب» للأنباء، ونقلت الوكالة عن يون قوله: «آمل أن تتعاون دولتانا لتعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة؛ رداً على الاستفزازات المتكررة من جانب كوريا الشمالية، والحرب في أوكرانيا، والتعاون العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية».

ملفات خلافية عدة

وتبادل بايدن وشي، مرات عدة، وجهات نظر متعارضة حول كيفية تنظيم علاقات بلديهما والعالم، وقال بايدن، الذي وصف شي بأنه «ديكتاتور»، إن الحفاظ على الديمقراطية كان «التحدي الحاسم لعصرنا»، في حين اتهم شي الولايات المتحدة بأنها «أكبر مصدر للفوضى» في العالم، وحذر من الأفكار الليبرالية الغربية الخطيرة.

تقول إدارة بايدن إن الرئيس يريد استخدام الاجتماع في بيرو؛ لتحدي شي بشأن القرصنة الصينية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والتهديدات ضد تايوان. لكن مع تراجع رؤية بايدن للعالم، حيث يغادر المسرح العالمي، وقد تضاءلت مكانته بعد أن صوَّت الأميركيون لترمب للعودة إلى السلطة، من غير المرجح أن يولي شي، الذي يشعر بالانزعاج من تلقيه محاضرات من الغرب، الاهتمام لحديث بايدن، في ظل التباين في مكانتهما السياسية. ويظل شي أقوى زعيم للصين منذ ماو تسي تونغ، غير مقيد بحدود المدة، ومحاطاً بالموالين. وقد ألقى باللوم في المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الصين على «الاحتواء» الأميركي.

رئيسة بيرو تستقبل رئيسة وزراء تايلاند (أ.ب)

التوسع في مناطق نفوذ واشنطن

ووسع نفوذ بكين في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دول أميركا الجنوبية، التي تعدها الولايات المتحدة مناطق نفوذها الخلفية، وهي النقطة التي أكد عليها شي هذا الأسبوع خلال افتتاح ميناء للمياه العميقة بتمويل صيني بقيمة 3.5 مليار دولار في بداية زيارته إلى بيرو.

وتشعر واشنطن بالغضب إزاء عملية اختراق مرتبطة بالصين لاتصالات هاتفية لمسؤولين في الحكومة الأميركية، وفي الحملات الرئاسية، كما أنها قلقة إزاء زيادة الضغوط من جانب بكين على تايوان ودعم الصين لروسيا.

رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا (أ.ب)

وكانت وكالة «رويترز» قد ذكرت، الجمعة، أن الرئيس التايواني، لاي تشينغ ته، يعتزم التوقف في ولاية هاواي الأميركية، وربما جزيرة غوام الأميركية، في زيارة من المؤكد أنها ستثير غضب بكين في الأسابيع المقبلة. وتنظر بكين إلى تايوان بوصفها إقليماً تابعاً لها، وأن الولايات المتحدة أهم داعم ومورد أسلحة للجزيرة، على الرغم من عدم وجود اعتراف دبلوماسي رسمي بها.

في الوقت نفسه، يواجه الاقتصاد الصيني ضربة شديدة بسبب الإجراءات التجارية التي يعتزم بايدن اتخاذها قبل مغادرة منصبه، ومنها خطة لتقييد الاستثمار الأميركي في مجالي الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات في الصين، وفرض قيود على تصدير الرقائق الحاسوبية المتطورة. وقال مسؤولون أميركيون إن كل هذه الموضوعات من المتوقع أن تتناولها المحادثات. وتنفي الصين باستمرار الاتهامات الأميركية بضلوعها في عمليات اختراق، وتعد تايوان شأناً داخلياً. كما احتجت على التصريحات الأميركية بشأن تجارتها مع روسيا. ولكن من غير الواضح بعدُ مستقبل السياسة التي انتهجها بايدن تجاه الصين، التي ركزت على التنافس دون الدخول في صراع وعلى حشد الديمقراطيات ذات التفكير المماثل لمواجهة بكين.

ومن المرجح أن يؤكد شي أن العالم كبير بما يكفي للقوتين العظميين، وأنهما بحاجة إلى التفاهم، في إشارة إلى الرئيس المنتخب ترمب، الذي يميل إلى المواجهة وتعهد بفرض رسوم جمركية بواقع 60 في المائة على الواردات من السلع الصينية ضمن حزمة من التدابير التجارية التي تتبنى شعار «أميركا أولاً».

ترمب يقلب حسابات الصين

ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن شين تشيانغ، نائب مدير مركز الدراسات الأميركية في جامعة فودان في شنغهاي، قوله إن الصين تعلم أنه «بعد تولي ترمب منصبه، من المرجح جداً أن يتم عكس عدد من الوعود التي قطعها بايدن، وعدد من السياسات التي تم تبنيها أو التدابير المنفذة تماماً»، وقال إنه مع تغير السلطة في الولايات المتحدة، أصبحت السياسة الخارجية للبلاد غير متسقة بشكل متزايد.

وبعد تولي ترمب الرئاسة، قد تصبح العلاقة بين البلدين أكثر تقلباً، خصوصاً مع اختياراته لمرشحيه للمناصب العليا في إدارته، بما في ذلك النائب مايكل والتز، مستشاره للأمن القومي، والسيناتور ماركو روبيو لمنصب وزير الخارجية، اللذان يبحثان منذ سنوات عن أفضل السبل للضغط على بكين وتغيير سلوكها.

وفي حين كان الصينيون ينظرون إلى ترمب خلال رئاسته الأولى بشكل ساخر، فإنهم الآن يأخذونه على محمل الجد أكثر بكثير. ومع تصاعد المنافسة بين القوتين العظميين، واحتمال اندلاع حرب أو أزمة اقتصادية، سعى شي إلى إظهار أنه يقوم بدوره في الحفاظ على السلام مع الولايات المتحدة من أجل الاستقرار العالمي.

ويطرح تولي ترمب السلطة أسئلة عمّا إذا كان يريد إقامة علاقات مستقرة مع الزعيم الصيني، لكن التوترات بشأن مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي وتايوان، فضلاً عن دعم بكين لروسيا، تجعل العلاقات بين البلدين حقل ألغام يمكن أن يُغرق العالم بسرعة في أزمة. وبالنسبة لشي، فإن رحلته إلى أميركا الجنوبية التي سيزور خلالها البرازيل أيضاً، فرصة للتأكيد على أن الصين قوة للاستقرار في مواجهة عدم القدرة على التنبؤ بسياسات ترمب. وقد لا يكون هناك مكان أكثر أهمية للصين لإظهار قوتها الجيوسياسية من أميركا الجنوبية، نظراً لقربها من الولايات المتحدة ومجال نفوذها.

رافعات عملاقة في الميناء الجديد المُنشأ بتمويل صيني قرب العاصمة البيروفية ليما (أ.ف.ب)

ويقول الباحثان كوش أرها، وجورن فليك، في تقرير نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بوصفهما الاقتصادين الحرين والمنفتحَين الوحيدَين القادرَين على مواجهة النزعة التجارية الصينية، هما شريكان لا غنى لأحدهما عن الآخر في التغلب على الصين.

ويضيف الباحثان أن حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أكبر قليلاً من حصة الصين، وتبلغ قيمة الاستثمارات المتكاملة عبر الأطلسي أكثر من 5 تريليونات دولار، مع أكثر من 2.7 تريليون دولار من الاستثمارات الأميركية في أوروبا، وأكثر من 2.4 تريليون دولار من الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، وتشكل اقتصادات ضفتي الأطلسي أكبر وأقوى تجمع اقتصادي في العالم، وتحتاج إلى الاستفادة من ميزتها الجماعية في مواجهة الخصوم العالميين المشتركين الذين يسعون بعزم إلى تقسيمهما.

ويقول الباحثان إنه ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توحيد جهودهما لتعزيز مصالحهما المشتركة، غير مبالين بمحاولات خصومهما المشتركين لإلهائهما. ويعكس التصويت الأخير لدول الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة التي تغزو الأسواق الأوروبية، إدراك التهديد الصيني والتحديات التي تواجه توحيد الدول الأوروبية المختلفة لاتخاذ إجراءات حاسمة.