تابوهات ليلى سليماني

حققت مبيعات عالية على المستوى العالمي وتُرجمت أعمالها إلى 18 لغة

تابوهات ليلى سليماني
TT

تابوهات ليلى سليماني

تابوهات ليلى سليماني

تفضل ليلى سليماني، الكاتبة الفرنسية المغربية الأصل، أن تكشف الجانب الخفي من حياة البورجوازيين المنزلية: شخصياتها المخبوصة بحكاياتها الدرامية النفسيجنسية مدهشة بذات الطريقة التي تدهشنا بها كرة من الشَّعر تسببت في حجز الماء حين نظل نسحب ونجد المزيد مما تحمله، مقاومين رغبةً في التقيؤ. روايتا سليماني الأوليان: «في حديقة الوحش» (نُشرت مترجمة عام 2019 بعنوان «أديل»)، وروايتها الفائزة بجائزة الغونكور «الأغنية الحلوة» (نُشرت مترجمة عام 2018 بعنوان «المربية الكاملة»)، تعرضان، على التوالي، الشبق النسوي وقتل الأطفال، مع أنهما تَحدثان في مشاهد باريسية منزلية مريحة.
ليلى سليماني كاتبة حققت مبيعات عالية على المستوى العالمي –تُرجمت أعمالها إلى 18 لغة والمزيد قادم– ونشرت مطبوعات محترمة مثل «النيويورك تايمز بوك ريفيو» و«النيويوركر» مراجعات متوهجة حول أعمالها. ويمكنني أن أفهم لماذا يجد العديد من القراء هذه المتعة الكبيرة في قراءة سليماني: إنها تكتب رواياتها كما لو كانت أفلاماً؛ فهي مفعمة بتحكم عفوي بأنواع التحرك والترقب والصور المفاجئة التي تجعل مشاهدي السينما على أعصابهم.
وفي حين أن هذه مقادير مناسبة للنجاح التجاري، فإنها ليست معياراً للقيمة الأدبية. على الرغم من كل القوة والجسارة التي تتعامل بها سليماني مع الموضوعات التي «لا تقال»، فإن موهبتها تكمن في مجالين رئيسين: إقناع الآخرين بأنها أول مَن كسر حدود تابوهات مكسورة سلفاً، واختراع حبكات مثيرة تمنح القارئ كمّاً لذيذاً من الصدمات وتُنتج ما في الخطيئة من قشعريرة تتراوح بين المعتدلة والضخمة (حسب حساسيات القراء) وكلها نتيجة لإغراق معظم القراء في أفعال من المتوقع أنهم يتنكرون لها –مثلاً قلب عربة رضيع مملوءة برضيع ومشتراوات البقالة.
منذ فازت روايتها «المربية الكاملة» بأرفع الجوائز الأدبية الفرنسية (الغونكور) عام 2016، وسليماني تحتل الواجهة بوصفها أكثر وجوه الأدب الفرنسي حضوراً في المشهد (واللغة الفرنسية حيث عملت سفيرة الرئيس ماكرون للشؤون الفرنكوفونية، وهي وظيفة قَبِلتها بعد أن رفضت عرضاً بأن تكون وزيرة للثقافة). ومع الصعود المستمر لمكانة سليماني وتأثيرها، من المهم الاقتراب أكثر من أعمالها والتعرف على قيمتها سواء من حيث هي أدب ومن حيث هي تدخّل في السياسات النسوية الدولية، مثل الصراع ضد القوانين القمعية في المغرب التي تعاقب المثلية والجنس خارج الزواج.
هل الإثارة التي سبّبتها سليماني تستحق فعلاً التكريم (والمبيعات الضخمة) التي حققتها أعمالها؟ وإذا نظرنا إلى أن روايات سليماني وأعمالها غير السردية تتصل بالطبقة والجنس والجنسية، هل لكسرها التابو فعلاً تأثير يؤدي إلى تسوية التعقيدات الصعبة؟ أخشى أن أسلوبها المميز يؤدي في النهاية إلى تعميق، ربما دون قصد، الثنائيات والتقسيمات التي ستنتقدها سليماني بالتأكيد من حيث هي مثيرة للبغضاء.
لقد حصلت سليماني في فرنسا على تكريم مبهر: اعتُبرت ثاني شخص فرنسي في العالم من حيث التأثير (بعد مصمم الأزياء هيدي سليمان مباشرةً وقبل نجم كرة القدم كيليان مبابي)؛ وأُثنيَ على مناداتها الشرسة بحقوق المرأة (في المغرب بصفة خاصة)؛ وأُفردت لها صفحات المجلات البرّاقة التي تُظهرها تلبس الأزياء على طاولة مطبخها، وبأناقة آسرة.
كان صعود سليماني صاروخياً إلى درجة أن السياسي الاشتراكي مانويل فالز، حين أعلن ترشحه للرئاسة الفرنسية عام 2016 وضع سليماني على نفس المستوى الذي يقف عليه عمالقة الأدب: «روح فرنسا هي الثقافة، الإبداع، وتميزنا الرائع، إرثنا، مشاهدنا، إبداعنا، هي التقنية الفرنسية المعروفة في كل القارات، ولكنها أيضاً لغتنا، اللغة الفرنسية: لغة رابيليه، هوغو، كامو، سيزير، بوفوار، موديانو، أو ليلى سليماني».
تعمل اللغة بيدي سليماني على صدمة القارئ على مستويين: أولاً، بتقديم محتوى مثير يتضمن الجنس والقتل (بين موضوعات أخرى)، وثانياً، بسرد المحتوى بعاطفة ونغمة متماسكة على نحو درامي. نستطيع أن نرى ذلك النزوع إلى الصدمة في روايتي سليماني الأوليين.
تتضمن رواية «أديل» قصة صحافية باريسية تتسم بالشبق النسوي ولا تستطيع السيطرة على رغبتها في معاشرة الرجال دون تمييز، وبغضّ النظر عن الخطر الذي يمثله هذا الإدمان على حياتها البورجوازية المحترمة التي يشاركها فيها زوج جراح وابنهما الصغير. تمضي الحبكة إلى الأمام مثل سيارة تتحرك نحو حافة جبل وباتجاه نهاية غير سعيدة لا يحصل فيها أحد على ما يريد ويخسر فيها الجميع ما يملكون.
«المربية الكاملة» تقدم أيضاً نهايات غير سعيدة للجميع في حكايتها المرعبة التي تدور حول مربية بيضاء اسمها «لويس» تنضم أو تتسلل إلى حياة زوجين باريسيين من المهنيين الشباب (مريام شارفا، محامية متخصصة في قانون الجريمة، وزوجها، بول ماسي، مهندس صوت في بداية صعوده). «لويس» التي يطاردها ماضٍ بائس وما يبدو أنه اضطراب في الشخصية، تصل إلى نهاية تقتل فيها الطفلين اللذين في عهدتها.
رغبة سليماني في إحداث صدمة تتضح منذ السطر الأول لرواية «المربية الكاملة»: «الرضيع ميت». بتعبير أورسولا ليندسي، في مراجعة للرواية في «النيويورك بوك ريفيو»، «تملك سليماني القدرة على تعليق القارئ بمقدمات مثيرة توصلها بنغمة واقعية على نحو مرعب. نثرها الموجز يبدو لي –على الرغم من تصميمه على إحداث صدمة– حَذِراً ومحاطاً بطوق ضيق ولكنه مؤثر».
إذا كان نثر سليماني مؤثراً في سحب القارئ معه، فإن ذلك بالتأكيد نتيجة للواقعية الصارمة التي تروي بها أشياء مرعبة. هذا الإفراغ من العاطفة، الخلو الذي تتسم به الكتابة، أدى إلى مقارنات مع ألبير كامو وإرنست همنغواي. لكن تخلَّف نثر سليماني عن اللحاق بأسلوب أيٍّ من الكاتبين يتضح في كونه مصمَّماً لهدف واحد هو جعل القارئ يقف على قدميه.
التلقي النقدي الإيجابي شبه العالمي لأعمال سليماني يتكئ على نزعة قرائية باتجاه التماهي: يثير عملها أولئك الذين يقرأون ليقيموا في نص وفي شخصيات ذلك النص، ليتوحدوا بهم. تعبّر لورين كولنز، فيما نشرته في مجلة «النيويوركر» عن هذه الدينامية بدقة حين تصف مشهداً يطاردها أكثر من غيره في رواية «المربية الكاملة»: «إنك تشعر بغضب بول، بقدر ما تشعر بمقدار الصدمة التي لا بد أنه سبّبها للويس».
إذا كانت «كولنز» مطارَدة بمشهد يُظهر «بول» البورجوازي البوهيمي غاضباً من «لويس» البيضاء المنتمية إلى الطبقة العاملة لأنها أغرقت «ميلا» الصغيرة بالمساحيق، فإن ذلك لأنها تتماهى مع هاتين الشخصيتين المختلفتين جداً وتعيش عواطفهما كما لو كانت عواطفها هي. مقطع مثل ذلك لا يراه قارئ مثلي لا يقرأ نصاً لكي يصير شخصاً آخر. ما يحدث بدلاً من ذلك هو مشهد مصطنع، مشهد مصنوع بعناية للتعبير عن هوّة تفغر فاهاً في الطبقة والتعليم اللذين يفصلان «بول» عن «لويس» (اختلاف يتكرر المرة تلو الأخرى عبر الرواية وبأساليب مبالَغ بها). «لويس»، مثلاً، لا تستطيع أن تتقبل إتلاف الطعام (تطلب من الأطفال الذين تعتني بهم أن يلعقوا علب الزبادي حتى تنظف، وتستعيد هياكل الدجاج التي لا تزال عظامها مكسوّة ببعض اللحم). بالنسبة إليّ قراءة سليماني تشبه تجربة الدغدغة حين يكون المرء غير قابل لذلك –أي ليست تجربة ممتعة كثيراً، حتى إن كانت متعة للآخرين.
بنشر سليماني رواياتها ذات الطابع التلصصي الاستثاري، نجحت في إيجاد الانطباع بأنها محطِّمة للتابوهات. تقول كولنز: «تحت غطاء حبكة استثارية تتحدى سليماني موضوعاً ممنوعاً آخر: رغبات المرأة». وسليماني بدورها تقبلت هذا الدور، متفقة معه بسرعة ومعيدة إنتاج تأطير المرأة بوصفه تابوهاً أبدياً. بتعاملها المباشر مع جنسانية المرأة ونفسانيتها في «أديل» و«المربية الكاملة»، تتقمص سليماني دور «التي تكسر الصمت المحيط بالمرأة». ومع ذلك فإن السؤال: أي تابوهات انكسرت يا ترى في أيٍّ من الروايتين؟
وفي حين يبدو بدهياً أن البطركية لا تزال حية تُرزق في العالم، فإن سليماني أبعد ما تكون عن الأسبقية في تناول القلم ورفع الغطاء عن تجارب المرأة ورغباتها وجسدها. منذ وُجد الأدب والنساء يرفعن أصواتهن، منذ العصور الوسطى حتى الآن (انظر: كريستين دي بيزان وإيلواز في «إيلواز وأبيلارد» اللتين تقطر رسائلهما بالهياج الجنسي والرغبة). في القرن الأخير وحده، في الأدب الفرنكوفوني، نجد العديد من الأمثلة. رواية كاترين مييه «الحياة الجنسية لكاترين م» (2001)، التي حصلت على جائزة «بري ساد»، ورواية بولين رياج «قصة أو (o)» (1954)، على سبيل المثال، كلتاهما تتناولان موضوعات «التابو» الجنسية، بينما رواية «الأيام الحية» (2013) لأناندا ديفي تبرز امرأة تفضّل الجنس مع الأطفال.
تناوُل سليماني للجنس في «أديل» يبدو مروَّضاً إلى حد بعيد بالمقارنة. أما التابو المفترض فيما يتعلق بموضوع رغبات المرأة خارج مملكة الجنس، فليس ثمة نقص في الأعمال الأدبية التي تتحدث عن طموحات النساء، شعورهن بالقيود في المجال البورجوازي المحلي –فرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار تحضران إلى الذهن هنا. أو لو أخذنا موضوع قتل الأطفال: ذلك أيضاً موضوع مطروق منذ أمد بعيد على يد ميديا (في الأسطورة اليونانية).
لكن الواضح من أعمال سليماني غير السردية أنها وضعت ثقلها في الأعمال السردية التي تُظهر حياة النساء ورغباتهن بوصفها موضوعات ممنوعة. في حين أن أعمال سليماني السردية المثيرة قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن كتاباتها غير السردية المتسمة بالهدوء، فإن كلا اللونين من الكتابة يرويان ويؤكدان المرأة - التابو بطرق تضع سليماني كما لو كانت محطِّمة استثنائية للتابوهات: الكاتبة الهادئة المعنية بالجانب المثير والمظلم من حياة المنزل البورجوازية الأنثوية؛ المدافعة المتحمسة عن حقوق المرأة في كفاحها ضد السلطات البطركية القامعة والمبنية على الاحتفاظ بتابو المرأة ومحو تجارب النساء.
في عام 2017 نشرت سليماني كتاباً كاملاً بعنوان «الجنس والكذب: الحياة الجنسية في المغرب» (الذي تُرجم إلى الإنجليزية عام 2020 للأسف بعنوان «الجنس والكذب: حكايات حقيقية حول الحياة الحميمة للنساء في العالم العربي»، عنوان يمحو الخصوصية المغربية للكتاب). الكتاب مكرّس لمنح أصوات النساء منصة قد لا تُسمع تلك الأصوات من دونها. ليس لديّ شك في قوة مجموعة كهذه من الشهادات. لكن العمل لم ينشره ناشر مغربي أو يوجَّه إلى جمهور مغربي؛ نشره ناشر باريسي لجمهور فرنسي (والآن، بترجمته إلى الإنجليزية، يتوفر لجمهور أنغلو - أميركي).
بتناولها موضوعاً مغربياً وعينها على جمهور فرنسي، فإن سليماني تضع الخيط في إبرة تُعلي من شأن قيم التنوير الفرنسي (التي يُستشهد بها عدة مرات في الكتاب كما لو كانت قيماً كونية) وذلك بتصوير الكبت الجنسي المغربي على خلفية غرب أكثر حرية (دون أي نقد للوجوه التي تكشف أن فرنسا ليست فردوساً نسوياً، كما يتضح من ترقية متهم بالاغتصاب إلى أعلى مراتب الحكومة).
ترويج سليماني لقيم التنوير الفرنسي يتضمن نقداً لأولئك المفكرين الفرنسيين الذين قد يصفون مواقف كالتي اتخذتها هي –أنه لا توجد حرية جنسية في المغرب؛ أن الجنسانية في العالم العربي بؤس جنسي– بأنها نوع من الجوهرانية. إنها تتبنى موقع المؤيدة (تلك التي تمنح صوتاً لمن لا صوت له) في ممارسة خيرية مستجيبة لضمير حي ومنطلقة من امتيازها كفرنسية مغربية قادرة على التحرك بحرية بين كلا العالمين. إنني لا أشك في حسن نيات سليماني، ولا أشك في الحاجة إلى تأييد كهذا، لكن من الصعب ألا يرى المرء «الجنس والكذب» بوصفه عملاً يؤكد الاستثناء الفرنسي ويسمح بظهور الإسلاموفوبيا كما لو كانت اهتماماً بحقوق المرأة.
بعد فوز سليماني بجائزة «الغونكور» عام 2016، نشرت صحيفة «اللوموند» مقالة عنوانها «امرأة، شابة، مولودة في بلد أجنبي: ليلى سليماني، بروفايل غير معتاد بين جوائز الغونكور»، الأمر الذي يُبرز إلى أيِّ حد اختلفت سليماني، من حيث هي كاتبة مغربية وامرأة في ريعان الشباب، عن الرجل الفرنسي الأبيض الذي تذهب إليه الجائزة عادةً. أود أن أقول إن اختلاف سليماني عن النمط هو بالضبط ما جعل الجائزة تذهب إليها: استثمار الكاتبة في قيم التنوير (أي القيم الفرنسية) إلى جانب اختلافها العرقي والجنساني، يسمح للمؤسسة الأدبية والثقافية الفرنسية بأن تظل محافظة بينما تبدو كأنها تقدمية.
تدّعي فرنسا أنها أقل عنصرية من الولايات المتحدة، لكن سياساتها «المتعامية عن اللون» بصرامة هي سياسات تساوي نفور ترمب من اختبار «كوفيد». هنا يصبح منطق «إن لم نفحص لن تكون لدينا حالات» مساوياً لمنطق «إذا لم تقس العنصر، فلا عنصرية لديك». ومع ذلك، يُظهر نجاح سليماني أن فرنسا تستطيع أن ترى اللون ولا تخشى استعماله.
المصدر: «ببلِك بوكز» Public Books:
1 يناير (كانون الثاني)، 2021.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي