جاءت الغارة الإسرائيلية الأخيرة على منطقة القنيطرة السورية التي استهدفت موكبا لـ«حزب الله» وأدت إلى مقتل 7 أشخاص من بينهم (جهاد 26 عاما) نجل القيادي الراحل في التنظيم عماد مغنيه، الذي قضى أيضا بتفجير غامض في دمشق عام 2008 نُسب بدوره إلى إسرائيل، لتسلط من جديد الضوء على مفهوم العقيدة القتالية لدى «حزب الله»، المفهوم الذي استطاع الحزب توظيفه في الحرب الأهلية السورية التي أخذت منحى طائفيا.
فعلى الموقع الإلكتروني لمحطة المنار التلفزيونية التابعة لـ«حزب الله»، كانت صور الضحايا الـ7 الذين قُتلوا في العملية الإسرائيلية تسبقهم عبارة «قوافل الضحايا تصنع النصر».
يشير نيكولاس بلاندفورد الخبير في شؤون «حزب الله» وصاحب كتاب «Warriors of God Hezbollah’s 30 year struggle with Israel» في حديثه إلى «الشرق الأوسط» تعليقا على الحادثة إلى أن «الغارة التي أدت إلى مقتل مغنية، والأهم منه القيادي الميداني محمد عيسى، المعروف بـ(أبو عيسى)، والقيادي الميداني الإيراني أبو علي طباطبائي هي اغتيال مستهدف، بالتالي سيكون على (حزب الله) أن يجد ردا موازيا من حيث حجم الخسارة التي تكبدها كي لا يُعد ضعيفا».
ويرى المحلل أن أمام الحزب عدة سيناريوهات، منها تحييد الأراضي اللبنانية، واللجوء إلى رد غير مباشر عبر منطقة شبعا أو الجولان من خلال قصف أهداف معينة أو اعتماد أساليب أمنية أخرى، غير أن الضربة الموجعة التي وجهتها إسرائيل ستجبر الحزب «على انتقاء أهداف نوعية يرى أنها تتناسب مع الخسارة التي تلقاها، مثل توجيه صاروخ على باخرة إسرائيلية مثلا».
وفي السياق نفسه، يقول قاسم قصير المختص بشؤون «حزب الله» في حديثه إلى «الشرق الأوسط» إن الحزب «سيحتفظ بحق الرد على العدو الإسرائيلي في الزمان والمكان والأسلوب المناسب لتوجيه ما يعده انتقاما لشهدائه، وذلك مرتبط بعوامل كثيرة».
إلى جانب التداعيات التي قد تخلفها العملية الإسرائيلية على كلّ من لبنان وإسرائيل، والرد المحتمل من «حزب الله»، فإن مقتل 6 عناصر من الحزب فضلا عن الجنرال الإيراني يجعلنا نتوقف عند ثقافة الشهادة المرسخة لدى «حزب الله». وهي الثقافة التي شكلت عامل قوة في القتال ضد إسرائيل، والتي عاد الحزب اليوم ليوظفها في حربه الطائفية في الأراضي السورية.
يشرح بلانفورد أن فكرة الجهاد أساسية في عقيدة «حزب الله»، الذي يفصل ما بين الجهاد الدفاعي والجهاد الهجومي؛ «فالحزب اعتمد الجهاد الدفاعي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد صرح نصر الله بأن على المقاومة محاربة (التكفيريين) في سوريا قبل أن يأتوا إلى لبنان، والغاية من الحرب في سوريا هي الدفاع عن مصالح الشيعة، وكذلك الدفاع عن (بشار الأسد) الذي هو جزء من المقاومة»، على حد وصفه، وهي الدعاية التي تجاوبت معها القاعدة الشعبية للحزب.
وبالنسبة لكثير من مقاتلي «حزب الله»، يُعد الصراع المجاور ضربة وقائية موجهة لعدو كان يرغب في تصدير الصراع السوري إلى لبنان، ويشيرون في هذا السياق إلى الطبيعة الآيديولوجية للمعركة في سوريا، حيث يعدون القتال هناك معركة وجودية ضد «تكفيريين» مدعومين وممولين من دول أجنبية.
وبحسب الموقع الإلكتروني لـ«حزب الله» فإن «غاية الجهاد هي الشهادة، شهادة الفرد والمجتمع، شهادة المجتمع تكمن في صيرورته حجة على المجتمعات الأخرى، بما يحمله من قيم ويمثله من مضامين، بحيث يحتج الله سبحانه وتعالى على الأمم الأخرى يوم القيامة. الشهيد عندما يصل إلى هذا المقام تُكتب له الحياة الأبدية السرمدية التي لا موت فيها أبدا، وهذا بسبب أنه اختار الموت بإرادته واختياره، وهو يتميّز بذلك عن باقي الموجودات والبشر».
ففي الضاحية الجنوبية، منازل الشهداء معروفة جيدا، ويجري سنويا تنظيم احتفالات تخليدا لذكراهم. كما يأخذ الحزب على عاتقه الاهتمام بأسرهم من خلال منظمة «مؤسسة الشهيد» التي تلبي احتياجاتهم المالية، وكذلك تهتم بتعليم أطفالهم «وترسل عائلات الشهداء لزيارة العتبات المقدسة في إيران أو العراق، وتجتمع العائلات مع السيد حسن ويعاملون باحترام وتكريم فائقين»، وفق قصير.
هذا التمجيد لمفهوم الشهادة أعطى الحزب رصيدا استطاع أن يستغله لتبرير وفيات مقاتليه المتزايدة في سوريا. إن الاستشهاد والتضحية بالنفس فكرتان راسختان في الثقافة الشيعية، ويتم تجسيدهما سنويا في ذكرى عاشوراء. وقد تبنى «حزب الله» مفهوم الشهادة والمعاناة التي يمكن ردها إلى استشهاد الإمام الحسين، ورَبَطهما بحربه في سوريا. هذا وقد تم في الآونة الأخيرة تداول مرويات شعبية وسط الجماهير الشيعية حول الحرب الدائرة في بلاد الشام وارتباطها «بكتاب الجفر». إن «كتاب الجفر» هو عبارة عن مجموعة من الأحداث الرمزية القديمة التي تنبئ بأحداث مستقبلية ستقع قبل «يوم الحكم». وعليه ربط كثير من الشيعة الصراع في سوريا بما ورد في الكتاب، وبظهور المهدي الذي ينبئ بنهاية العالم. ومستندين على كتاب الجفر، صنف مقاتلو الحزب الحرب السورية على أنها مقدمة لظهور المهدي، وأن المعركة هي جزء من الحرب السنية - الشيعية التي يعود عمرها إلى 1400 سنة، والتي نشأت حول خليفة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
يبدو أن حزب الله قد نجح في استخدام هذه المعتقدات لتبرير وجوده المطول في سوريا والمكلف على صعيد قاعدته الشعبية في لبنان.
وعلى سبيل المثال، يرى مقاتلو حزب الله أن المصالح السلفية والمصالح الإسرائيلية تتلاقى في الحرب السورية، وقد اعتمدوا هذه الحجة في خطابهم لتفسير انخراطهم في الصراع المجاور، معتبرين أن سبب دخولهم إلى سوريا هو لحماية إخوانهم والدفاع عن لبنان ودينهم من المتآمرين الأجانب الذي يمثلون في هذه الحالة السلفيين الممولين من دول أجنبية.
من الواضح أن البعد الديني يحظى بأفضلية على الاعتبارات الأخرى في هذا الصراع. ففي حديث سابق مع محرر هذه السطور يؤكد «أبو علي»، أحد القياديين الميدانيين لحزب الله، الذي سبق أن قاتل في بلدة القصير أنه «حصل على تكليف شرعي للقتال عبر الحدود من رجال الدين في حزب الله».
ويضيف قائلا: «حاول المجتمع الدولي في الماضي مرات كثيرة تدمير الحزب، كما حصل مثلا عام 1996 في حرب عناقيد الغضب ضد إسرائيل، واليوم يستهدفون حزب الله من خلال شنهم الحرب على سوريا. بالتالي فإن خيار عدم القتال ليس متاحا. نحن بحاجة للحفاظ على كرامتنا ومعتقداتنا الدينية. نحن نواجه في سوريا الأعداء الذين نقاتلهم عندما نشتبك في حرب مع إسرائيل».
ويعتقد المقاتلون أن حزبهم تمكن من مواجهة العدوان الإسرائيلي بسبب ثقافة التضحية وقوة التحمل، وهو يعتمد الأسلوب نفسه في الحرب السورية. يقول أبو علي: «إذا متُّ في سوريا فسأذهب إلى الجنة. الكل أراد القتال عندما هاجمت المعارضة الموقع الديني للسيدة زينب. وهل هناك طريقة لتأمين مكان في الجنة أفضل من الموت هناك؟».
لكن بحسب رجل الدين الشيخ محمد حاج حسن رئيس التيار الشيعي الحر، وهو أحد الأحزاب المعارضة لحزب الله: «يخضع الجهاد في الإسلام إلى شروط قاسية، مثل الدفاع عن الدين والنفس والعرض. لكن الحرب في سوريا غير مشروعة دينيا، إنها سياسية».
إذ تؤكد مصادر مقربة من الحزب إلى الشرق الأوسط أن أكثر من 1000 مقاتل قضى في سوريا، ونحو 3000 منهم أصيبوا بجروح كبيرة تسبب معوقات.
إلا أن «حزب الله سيتمكن من تحمل هذه الخسائر، إن كان لديه (كما يزعم) 20000 مقاتل مدرب، علما بأنه لا يزال يجند الشباب، حتى وإن لم يكونوا بنفس فعالية سابقيهم»، وفق بلانفورد الذي يشير إلى أن الحزب كان حريصا للغاية في طريقة نشر مقاتليه، متفاديا تكبد خسائر كبيرة. «فالقاعدة الشعبية الشيعية قادرة على الاستيعاب إن وقعت الخسائر البشرية تدريجيا، وهو أمر مرتبط بالتفاني والتضحية الراسختين في الشخصية والمعتقدات الشيعية».
ولكن إذا كانت الأزمة مستمرة في سوريا، هل سيكون عدد وفيات مقاتلي الحزب نقطة تحول بالنسبة له ولقاعدته الشعبية؟ بلانفورد يعتقد أن «معظم أبناء الطائفة الشيعية يتشاركون رؤية خطاب نصر الله، لكن البعض أيضا ما زال يتساءل إلى متى سينجر حزب الله في مستنقع الحرب السورية؟»، على حد قوله.
* باحثة زائرة في معهد رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط