ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

طهران تعيد محيطها إلى ما قبل الدولة الحديثة

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟
TT

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

نوان البارز للدولة العراقية العاجزة والمضطربة، فهي علامة بارزة على الرجوع لما قبل الدولة الموحدة، والشعب الواحد والمصير المشترك. وهي التجسيد الفعلي لضراوة الحرب الأهلية وفتنها الطائفية، وهي كذلك فاعل رئيسي في مسار تفكيك الدولة العراقية، وربطها بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية التي ابتدأ مفعولها العملي منذ الغزو الأميركي سنة 2003.
هذه المنظمة لم تعد مجرد كيان عسكري عادي يخضع لقانون الدولة ومندرج ضمن مؤسساتها، بل يمكن القول إنها «جيش» طائفي منظم، إداريا وآيديولوجيا. وهو يستعمل القوة المسلحة المصحوبة بالحشد والتعبئة الدينية لتحقيق التفكيك المطلوب للعراق، وإعادة تركيب المفكك ضمن الدائرة المذهبية والاستراتيجية الشيعية الإقليمية ونظرتها للشرق الأوسط الجديد.

تمثل منظمة بدر الشيعية العوتعود أصول هذه المنظمة إلى بداية الثمانينات من القرن العشرين، حيث أسسها محمد باقر الحكيم، وساعده في بناء وتسيير التنظيم أحد رجالات النظام الإيراني المعتبرين وهو «محمود الهاشمي»، الذي يشغل حاليا عضوية مجلس القضاء بإيران. وتضم «بدر» في صفوفها ضباطا سابقين من الجيش العراقي، كما تتكون من سياسيين معارضين للنظام البعثي الصدامي، وشباب مسيس ويتبنى الآيديولوجية الطائفية؛ وهذا المنطلق جعل منها تنظيما مزدوج التكوين والولاء العقدي. فهي من جهة إيرانية الولادة وعراقية العناصر؛ ومن جهة ثانية تعتبر منظمة عسكرية ممارسة للسياسة، مما يجعل من العنف السياسي سلوكا ملازما للبدريين قبل وبعد احتلال الولاية المتحدة الأميركية للعراق.
كانت الرهانات والحسابات الإقليمية وراء إنشاء «بدر» باعتبارها فيلقا عسكريا، لذلك سهَّل عليها البلد المحتضن إيجاد إمكانيات مهمة على مستويي التنظيم الإداري السياسي والتدريب العسكري؛ فقد كان التنظيم يدور ضمن رؤية الحرس الثوري الإيراني التي تتطور بتطور الوضع الإقليمي والدولي. لذا انتقلت الاستراتيجية الإيرانية، منذ حرب الخليج الثانية، من تحدي الصدام المباشر مع العراق، ومحاصرة منظمة «مجاهدين خلق»، إلى بناء نفوذ سياسي وعسكري داخل العراق نفسه.
ومن داخل هذه الرؤية تحركت «بدر» باعتبارها ميليشيا مسلحة، للعب دورها الطلائعي الحساس في غزو العراق، سواء بتحركاتها ذات الصلة بالولاية المتحدة وبريطانيا، عبر عقد مؤتمرات دولية تدعو للغزو والاحتلال؛ أو بالداخل العراقي، بتعزيز وتنظيم صفوفها، وتعبئتهم على المواجهة المسلحة للنظام العراقي البعثي.
فقد كانت هذه الميليشيا الشيعية تعتبر الاحتلال الأميركي للعراق «فرصة ذهبية» من الناحية العسكرية والسياسية لإعادة ترتيب الدولة، وربط العراق مذهبيا بالجمهورية الإيرانية. ورغم بعض الخلافات الموجودة بين بعض مؤسسيها السياسيين حول درجة الاستقلالية وكيفية تحقيقها في ظل الارتباط بولاية الفقيه؛ فإن التكوين العسكري لقيادة «بدر» جعل ولاءها تاريخيا وإلى اليوم مرتبطا بالحرس الثوري والمرشد الأعلى علي خامنئي. وعلى هذا الأساس تجهر المنظمة بأنها «تجاهد» في العراق وسوريا بمبررات دينية محضة، مرجعها المرشد الأعلى بإيران، والمرجع الدين الشيعي علي السيستاني صاحب فتوى «الجهاد الكفائي» لسنة 2014.
وتشير أغلب التقارير إلى أن عدد مقاتلي ميليشيا «بدر» يبلغ حاليا 100 ألف عسكري، يزاولون مهمهم القتالية بقيادة رئيسها هادي العامري وزير النقل السابق. وقد استطاع العامري المتزوج من إيرانية، والمجنس بجنسيتها، الرجوع إلى الأضواء بعد صراع مع آل الحكيم ومناصريهم.
وكان محمد باقر الحكيم قد قرر عقب احتلال العراق تحويل «بدر» إلى منظمة سياسية وحل جناحها العسكري، إلا أن اغتياله في أغسطس (آب) 2003 حال دون ذلك. كما أن خضوع المنظمة لقانون الحاكم الأميركي بول بريمر الخاص بدمج الميليشيات، حجم مؤقتا من دور العامري والدور الاستراتيجي الإقليمي لميليشيا «بدر».
فرغم التحفظات التي عبر عنها كل من قائد الميليشيا الحالي هادي العامري، والمستشار السياسي لمحمد باقر الحكيم الشيخ همام حمودي، وعالم الدين جلال الدين الصغير (صاحب نظرية القطار الشيعي الصاعد)، فقد لعبت ثقافة العوائل الدينية والسياسية دورا بارزا في تولية عبد العزيز الحكيم وراثة أبيه على رأس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، بينما عادت رئاسة منظمة «بدر» وهي الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي لهادي العامري.
اختار المجلس منذ بداية احتلال العراق 2003 الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان عبد العزيز الحكيم عضوا بمجلس بول بريمر الحاكم الذي عينته الولايات المتحدة للعراق. كما دخل في تحالفات سياسية تفيد برغبة ظاهرة للحكيم في إيجاد نوع من الاستقلالية عن كل من أميركا وإيران في الوقت نفسه؛ لذلك سعى منذ 2009 لتحالف سياسي مع كتلة شيعية تضم التيار الصدري، والدخول في منافسة مع رئيس الوزراء آنذاك نور المالكي وحلفائه، وفي الآن نفسه، إبداء حسنة نية بإمكانية التعاون مع كتلة «العراقية» التي تزعمها إياد علاوي لتنافس على منصب رئاسة الوزراء في الانتخابات التشريعية لسنة 2010.
وفي الوقت الذي أبدى فيه الحكيم هذا التوجه الانتخابي والسياسي المرن، عمل هادي العامري زعيم «بدر» على خلق تحالف يؤكد طبيعة عقيدة تنظيمه السياسية، ودوره الاستراتيجية، المرتبط بإيران، فدعم المالكي في ترشحه لولاية ثانية. فنشب صراع جديد بين المجلس والجناح العسكري، أدى لتوسيع رقعة الخلافات والخيارات الاستراتيجية بينهما، الشيء الذي انعكس على طبيعة التعبئة والتحريض التي أدت لإبعاد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي من الاستوزار، بينما أسندت وزارة النقل لغريم الحكيم الجديد هادي العماري. ومع استمرار الخلافات بين الجناحين السياسي والعسكري، أعلن الطرفان الفراق التام في مارس (آذار) 2012.
والحقيقة أنه من الناحية العملية، استطاعت ميليشيا «بدر» منذ سنة 2005 استرجاع مكانتها كرأس الحربة في المشهد العنفي الدموي الطائفي بالعراق؛ كما ظهرت باعتبارها قوة لها رصيد عسكري يمكن الاعتماد عليه من جانب كثير من الشيعة الطائفيين من جهة، وكذلك من قبل إيران في سياستها داخل العراق. ولأن هذه الدولة العراقية في حقيقة الأمر تتأثر بالميليشيات و«بدر» واحدة منها، فإن العامري تحول مع الصراع الدموي الطائفي بين السنة والشيعة لبطل قومي شيعي، كما أن المالكي وإيران جددا وكثفا من دعمهما لميليشيا بدر التي تحولت إلى «جيش» يتم تجهيزه لخوض المعارك بدل الدولة، خاصة تلك المتعلقة بتصفية أهل السنة وتهجيرهم، مما أدى لارتكاب «بدر» لجرائم ضد الإنسانية لقيت نوعا من التشجيع داخليا من طرف رئيس الوزراء نوري المالكي، وخارجيا من إيران، بينما نددت واستنكرتها منظمات وهيئات دولية مهتمة بحقوق الإنسان.
ولأدائها ودورها المحوري، ليس من الغريب أن نجد «بدر» ورجالها في كل مناشط الحياة العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية للدولة العراقية الحالية. هذا الأمر الواقع ليس صدفة، بل استراتيجية نمت مع التصور الإيراني المصّرف عبر حلفائها العراقيين الشيعة؛ وقد تجلى ذلك واضحا من الناحية السياسية في تعين حكومة العبادي في 8 سبتمبر(أيلول) 2014.
إذ ظهرت «بدر» مرة أخرى كمشروع لا يمكن التفاوض حوله، ولا يمكن تجاوزه، لما يمثله من رهان استراتيجي غايته إعادة بناء العراق المعاصر وفق رؤية إيرانية إلحاقية، تعيد رسم دوائر الصراع إقليميا في الشرق الأوسط.
فقد أعلن تعين حيدر العبادي رئيسا للوزراء الدخول في أخطر مرحلة يعيشها العراق، ورغم التدخلات الدولية المتعددة فقد خرجت ميليشيا العامري منتصرة، وفي «غفلة» أو عن قصد اكتسب مشروع الهيمنة بالقوة على الدولة العراقية، وإعادة تركيبها، شرعية دولية تحت مسمى حكومة توافقية.
ففي غياب الجيش العراقي المنظم، تحتل «بدر» مكانه وتؤدي الأدوار المركزية باسم الدولة، وتحول جزء من قيادتها العسكرية العليا إلى المناصب السيادية الأمنية والعسكرية للعراق اليوم؛ وهكذا أصبحت «بدر» تسيطر على أهم وزارة على الإطلاق بالعراق حاليا، حيث عين رئيس الوزراء حيدر العبادي 5 من «كبار قادة» ميليشيا «بدر» في حكومته، وهم وزير الداخلية العراقي محمد الغبان، الذي يعتبر هو وأبو مهدي المهندس أقرب المقربين للعامري وطهران في الوقت نفسه. وهو ما يفسر توزيع الأدوار يبن الثلاثة خاصة في ما يتعلق بإدارة «بدر» وعلاقاتها ببسط السيطرة، ودمج الحشد الشعبي فيها باعتبار «بدر» نواة الدولة الجديدة المرتقبة. كما عينت شخصية عسكرية «بدرية» أخرى في وزارة حقوق الإنسان متمثلة في محمد مهدي البياتي، وهو قائد سابق «للواء مصطفى» بـ«بدر».
وتدعيما لهذه السيطرة على الأرض، أسندت وزارة البلديات لشخصية عسكرية «بدرية» أخرى وهو عبد الكريم يونس عيلان المعروف بأبو مريم الأنصاري، في حين أسندت وزارة الرياضة والشباب لعبد الحسين عبطان وهو المسؤول السابق في قسم التموين والنقل في فيلق «بدر» ومعروف بعلاقاته المتشابكة مع إيران التي يحمل جنسيتها، ويعتبر المسؤول الأول عن مقتل المئات من القرويين النجفيين في معركة «الزركة». أما حسن كاظم الراشد الملقب بـ«أبو أحمد الراشد» وزير الاتصالات، فهو عضو سابق في فيلق القدس الذي انضم إليه سنة 1991، وهو كذلك عضو فرقة «محمد رسول الله» بـ«بدر».
عموما، يمكن القول إن منظمة «بدر» كانت دائما مشروعا ورهانا إيرانيا يتطور بحسب الظروف الداخلية والإقليمية للعراق، وإن الباحث في الشؤون الإيرانية وطريقة تصريفها لاستراتيجيتها في بناء النفوذ لا بد أن يلحظ تعدد الآليات والوسائل المستعملة لتحقيق الغرض؛ وما ميليشيا «بدر» إلا واحد من الأساليب المنبثقة عن رؤية الحرس الثوري، والتي تمزج فيها إيران بين الوظيفة السياسية والقوة العسكرية.
فإذا كانت قضية الحشد الشعبي (وهذه القضية تحتاج لدراسة مستقلة) هي الصورة الظاهرة إعلاميا، فإن الواقع الحقيقي يخفي وراءه تنظيما يبتلع شيئا فشيئا الدولة العراقية، ويستغل موجة الإرهاب لتكريس هيمنة تنظيم طائفي على المجتمع والدولة يستحيل اقتلاعه، تماما كما يستحيل اليوم اقتلاع «حزب الله» اللبناني، وميليشيا الحوثي اليمنية.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».