تواصل الجدل في الإعلام الروسي حول رسوم «شارلي إيبدو»

لافروف: الرسوم تفتقر إلى الذوق واللياقة.. وتخرج على المواثيق الدولية

«مليونية» جمعت ممثلي مختلف الأديان والتوجهات في العاصمة غروزني على وقع تعالي الهتافات والتكبير «الله أكبر.. الله أكبر»
«مليونية» جمعت ممثلي مختلف الأديان والتوجهات في العاصمة غروزني على وقع تعالي الهتافات والتكبير «الله أكبر.. الله أكبر»
TT

تواصل الجدل في الإعلام الروسي حول رسوم «شارلي إيبدو»

«مليونية» جمعت ممثلي مختلف الأديان والتوجهات في العاصمة غروزني على وقع تعالي الهتافات والتكبير «الله أكبر.. الله أكبر»
«مليونية» جمعت ممثلي مختلف الأديان والتوجهات في العاصمة غروزني على وقع تعالي الهتافات والتكبير «الله أكبر.. الله أكبر»

كانت موسكو ولا تزال من أشد الحريصين على عدم تكدير صفو السلم الاجتماعي والحفاظ على مشاعر ومعتقدات مواطنيها بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللون.
ضبطت إيقاع حركة المجتمع بعيدا عن «شطحات» مدعي الدفاع عن «حرية التعبير» و«حقوق الإنسان»، ممن يتناسون البدهية القائلة بأن حقوق أي إنسان تنتهي حيثما تبدأ حقوق الآخر.
هذا ما أوجزته موسكو الرسمية فيما صدر عنها من مواقف وتصريحات تؤكد ذلك، وإن خرجت عن «الصف» بعض القنوات الإعلامية مثل صحيفة «نوفايا غازيتا» وإذاعة «صدى موسكو»، وهما معروفتان بتوجهاتهما الليبرالية والشديدة التطرف.
عادت موسكو لتؤكد موقفها الرسمي من مسألة التطاول على المشاعر الدينية، وما يتعلق ضمنا بما نشرته المطبوعة الباريسية «شارلي إيبدو» من رسوم مسيئة للرسول.
وكانت العاصمة الروسية سبق وسجلت مثل هذا الموقف بما في ذلك تجاه هذه القضية أكثر من مرة وفي غير مناسبة. ولم يكن ما قاله سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية في مؤتمره الصحافي السنوي الذي عقده الأسبوع الماضي سوى تأكيد جديد على موقف قديم.
وقال لافروف ردا على سؤال لمراسل صحيفة «فيغارو» الفرنسية: «إن المواقف من قضية (شارلي إيبدو) ذات أبعاد متباينة؛ فالإرهاب وقبل كل شيء أمر غير مقبول في أي من صوره وبغض النظر عن المبررات أيا كانت. وذلك موقف قانوني دولي مسجل في الكثير من قرارات مجلس الأمن. أما فيما يخص الرسوم الكاريكاتيرية وبوجه عام سلوك الصحافيين تجاه ما يتعلق بمضامينه الدينية، وهنا أعبر عن رأي شخصي، أقول إنها تفتقر إلى الذوق واللياقة. لكن هناك موقف القانون الدولي الذي عكسته الكثير من المعاهدات والاتفاقيات، ومنها الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على أن كل ما من شأنه إثارة الكراهية القومية، أو العرقية، أو الدينية، أو أي دعوة تحض على التفرقة أو العداء أو العنف محظور بحكم القانون. وينص هذا الميثاق أيضا على أن حق التعبير عن الرأي يفرض بالتبعية التزامات خاصة ومسؤوليات محددة، وذلك يعني أن ذلك مرتبط ببعض القيود التي حددها القانون وتعتبر ملزمة لاحترام حقوق الشخصيات الأخرى ومكانتها، ولحماية أمن الدولة والنظام الاجتماعي وصحة المجتمع وأخلاقياته».
ومضى لافروف ليشير إلى «أنه لا يتفق مع زملائه الذين قالوا له إنه لا قيود على حرية الكلمة؛ فالقيود موجودة وتتعلق بعدم مشروعية، وكما قلت تتعلق بشكل مباشر بعدم مشروعية كل ما من شأنه الحض على التناقضات الدينية».
ما قاله لافروف يؤكد حقيقة لا مراء فيها، وهي أن «إرهاب المجتمع المعاصر هو نتاج طبيعي لمشكلات هذا المجتمع نفسه». وقد أكدت وقائع الماضي والحاضر أن هذه المقولة تتفق مع المقولة الفلسفية القديمة: «المقدمات تحكم النتائج». وهنا تسقط الأقنعة لتكشف عن واقع مرير يقول بمسؤولية من يرفع اليوم راية مواجهة الإرهاب وهو الذي كان حتى الأمس القريب أحد أسباب ظهوره قبل أن يتحول إلى واحد من أهم مصادر دعمه ورفده ماديا وبشريا، ليؤكد حقيقة جديدة مفادها أن الإرهاب لم يعد تهمة تنفرد بها الشعوب ذات التوجهات الإسلامية، ولم يعد قاصرا على أبناء الطبقات الفقيرة التي يدفعها العوز والحاجة إلى التمرد والالتحاق بكتائب الإرهاب.
«من زرع حصد».. هذا ما راحت تزعق به معظم وسائل الإعلام الروسية وعدد من أبرز ممثلي الأوساط السياسية ممن يقفون اليوم على طرفي نقيض من أصحاب شعارات الليبرالية والديمقراطية الذين لا يكفون عن التشدق بعبارات الدفاع عن «حرية التعبير» دون مراعاة تطاول مثل هذه «الحرية» على حقوق الآخر.
وكانت قضية «شارلي إيبدو» أشعلت الجدل بين صفوف الإعلاميين والسياسيين، الذين وقف أغلبهم في موسكو إلى جانب إدانة التطاول على مشاعر الآخرين ومعتقداتهم. وتحسبا لاحتمالات إغراق بعض المتدينين في العداء لكل من يتجرأ على التطاول على مكانة الرسول الكريم، وإهانة الرموز الدينية ليس للمسلمين وحسب، بل وأيضا لبقية أشياع الديانات السماوية والوضعية، وانطلاقا من قناعة ويقين بكل ما صدر من قوانين ومواثيق دولية تحظر التطاول على المعتقدات الدينية والمشاعر القومية، حرصت موسكو على المسارعة بإعلان موقفها من قضية الرسوم المسيئة للرسول، بموجب ما سبق وأصدرته من قوانين بهذا الشأن.
لم تخرج جماهير موسكو إلى مقر السفارة الفرنسية في مظاهرات ومسيرات شجب وتنديد كعهدها في سابق الأوان، حين وقعت أحداث مماثلة في مختلف العواصم والمدن الغربية. اقتصرت المشاركة على بضع عشرات معظمهم من الفرنسيين، في الوقت الذي كان فيه آخرون يرفعون اللافتات التي منها ما يدين إهانة الرموز الدينية. كما سارعت الشرطة الروسية باعتقال اثنين كانا يرفعان على مقربة من الميدان الأحمر لافتة تقول: «أنا شارلي»، في الوقت الذي غضت فيه الطرف عن حاملي لافتات تقول: «إن الجناة يستحقون ما جرى لهم».
إزاء مثل هذا التباين في الرؤى والمواقف وتحسبا لاحتمالات اندلاع مواجهات لا تحمد عقباها، رفضت سلطات العاصمة الروسية التصريح بمظاهرة لمسلمي موسكو في ساحة ساخاروف، الموقع المفضل لإقامة مظاهرات الليبراليين وذوي التوجهات الغربية.
ورغم عدم صدور أي إعلان رسمي بهذا الصدد اكتفت مصادر منظمي هذه المظاهرة بنقل ما جرى تسريبه من معلومات تقول إن العدد الذي كان من المقرر أن يشارك فيها كان يزيد على 100 ألف في الوقت الذي لم تجد فيه سلطات المدينة من منظمي المظاهرة من تتوفر له خبرات الحفاظ على النظام والتحكم في مسار المشاركين وتوجهاتهم.
على أن ذلك لم يمنع سلطات الكثير من جمهوريات شمال القوقاز إلى الخروج إلى الشوارع وميادين عواصم تلك الجمهوريات في مظاهرات حاشدة تزعمها رؤساء وقيادات تلك الجمهوريات احتجاجا على رسوم «شارلي إيبدو» وسياسات الكيل بمكيالين التي تنتهجها العواصم الغربية تجاه هذه القضية.
ومن اللافت أن الكثير من أجهزة الإعلام الروسية الرسمية وشبه الرسمية اتخذت موقفا مؤيدا لهذه المسيرات والمظاهرات في الوقت الذي اتسمت فيه تعليقاتها على مسيرة باريس التي شارك فيها عدد من زعماء البلدان الغربية وممثلو البلدان الأجنبية، بما فيها روسيا، بكثير من البرود، بل والسخرية من بعض المشاركين فيها دون الإشارة بالاسم إلى أي منهم، وهم المتهمون بالإرهاب، مثل بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية.
وراح الكثيرون من المراسلين ومحرري تلك القنوات التلفزيونية والصحف الروسية يستعيدون بعض مشاهد الماضي القريب الذي طالما شهد تمويل تلك البلدان، بل وغضها الطرف عن مشاركة مواطنيها في المنظمات الإرهابية، ومنها تنظيم داعش. وقد تصدرت القنوات الرسمية وشبه الرسمية حملة انتقاد الرسوم المسيئة للرسول من منطلق أنها تثير مشاعر العداء الديني والطائفي وتتطاول على حقوق الغير في معتقداته الدينية.
وفي هذا الصدد أكدت قناة «لايف نيوز» وصحيفة «كومسومولسكايا برافدا» المعروفتان بمواقفهما القريبة من الكرملين أن «لا أحد يملك حق إهانة مشاعر المؤمنين وأن الصحافيين الفرنسيين جنوا ما اقترفت أياديهم». بل ونقلت تساؤلات البعض حول احتمالات تورط عناصر خارجية في هذه العمليات الإرهابية، ربما استعدادا لحملات مماثلة لما سبق وقامت به واشنطن وحلفاؤها في أفغانستان والعراق وليبيا.
ومن هذا المنظور كشف الحادث الإرهابي الأخير عن حقيقة مواقف الكثير من الفصائل والمنظمات السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني في روسيا وتوجهاتها، بعد أن صار فرصة جديدة للكشف عن الخط الفاصل في المجتمع الروسي بين المنظمات اليمينية ومنظمات المجتمع المدني المعروفة بارتباطاتها الخارجية ومصادر تمويلها الأجنبية، إلى مواقف زعماء البلدان الأوروبية ممن تزعموا مسيرة باريس، وبين المتشددين القوميين، ورجال الدولة من المعروفين بتوجهاتهم المناهضة للغرب وضرورة التزام روسيا بما سبق وأصدرته من قوانين سبق وأشرنا إليها.
وننقل عن أرتيومي ترويتسكي الذي كتب في صحيفة «نوفايا غازيتا» اليمينية المعارضة يقول: «إن ردود الفعل على رسوم (شارلي إيبدو) أظهرت المجتمع الروسي وكأنه دولة إسلامية»، رغم علمانية الدولة، ومحاولات تصويرها بوصفها دولة تعتنق المسيحية الأرثوذكسية، على حد تعبيره.
ومن اللافت في هذا الصدد أن أيا من وسائل الإعلام اليمينية لم يتجاسر على المضي إلى ما هو أبعد من التأييد اللفظي لموقف «شارلي إيبدو» وتوجهاتها ومن ناصرها من مواطني وزعماء البلدان الغربية، حيث لم نجد أيا منها استجاب لدعوة الملياردير اليهودي ميخائيل خودوركوفسكي المقيم في الخارج بعد الإفراج عنه من سجون روسيا، حول «إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول التي نشرتها (شارلي إيبدو)» تعبيرا عن التضامن مع المطبوعة الفرنسية.
غير أن هناك أيضا من تجاسر وخرج على الملأ مرتديا قميصا (تي شيرت) مكتوب عليه بالفرنسية «جي سوي شارلي» (أنا شارلي) مثل ألكسي فينيديكتوف رئيس تحرير إذاعة «صدى موسكو» المعروفة بميولها الموالية للغرب ولإسرائيل، وعدد من موظفيها، في تحد صارخ للمجتمع ومسلميه، وللرئيس الشيشاني قادروف الذي اتهمهم بأنهم «صاروا بوقا معاديا لروسيا وللإسلام».
وكان الكرملين وقف مؤيدا في صمت لكل ما صدر عن ديمتري روغوزين نائب رئيس الحكومة الروسية والرئيس الشيشاني رمضان قادروف. وفيما كان روغوزين اكتفى بتغريدة على موقع «تويتر» يقول فيها: «الإرهاب شر، لا توجد مبررات له. لكن لا يجوز استبدال حرية الكلمة بحرية إهانة المشاعر العميقة للناس»، مضيى الرئيس الشيشاني إلى ما هو أبعد من تصريحاته التي ندد فيها ليس فقط بما صدر عن الغرب من تصريحات ومواقف، وأدان أنصار هذه التوجهات في الداخل ومنهم ألكسي فينيديكتوف رئيس تحرير إذاعة «صدى موسكو»، ليخرج على رأس «مليونية» جمعت ممثلي مختلف الأديان والتوجهات في العاصمة غروزني على وقع تعالي الهتافات والتكبير «الله أكبر.. الله أكبر»، معلنا أن مسلمي روسيا يعلنون أنفسهم مدافعين غيورين ضد كل من يتطاول ويسيء إلى مشاعر المسلمين ورموزهم المقدسة.
ونقلت وكالة أنباء «إيتار تاس» ما كتبه قادروف في موقع «إنستاغرام»: «حان الوقت لنعلن موقفنا من تصرفات الصحافيين الفرنسيين اللاأخلاقية. نحن نحترم الأديان كافة، إلا أننا لن نسمح لأحد بالإساءة للإسلام وإهانة الرسول الكريم، وسنتصدى لكل من يحاول التطاول على مشاعر المسلمين».



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.