رفيف الظل : صَمْتُهُ أكثرُ فصاحة

رفيف الظل : صَمْتُهُ أكثرُ فصاحة
TT

رفيف الظل : صَمْتُهُ أكثرُ فصاحة

رفيف الظل : صَمْتُهُ أكثرُ فصاحة

لا ذنبَ للماء أن نثروا عليه رفات أمجادهم، وليس على الصحراء إلا أن تكون الرحيل.
من نفقٍ سيخرج المنافق، في يده الثعبان وفي لسانه عسلٌ مسموم، وسوف يصدقه القضاة وماسحو الدم والملعونون منذ مهد فطامهم، لكن المتشبثين بالأعالي سيرمونه بحجر الشك، وسيفلق الشعراء رأسه لتعرية المصيبة.
مسكُ البداية نصٌ يفارق النص.
يستويان، الحزن والفرح في لون واحد، يتناسل ويبرأ ويتكشّف عن القصي من الروح الشريدة. وإن افترقا علنا، فإنهما متوازيان والثالث بينهما انتباهك. لكن لا أحد يصل.
الأفقُ أن تذهب إليه وحدك. ألوانك هناك. تصل إليه ولا تصل، بالثياب التي كستك عريا، كأنك على عتبة مفتوحة، عتبة تدور. حتى إذا تريثتَ وترويت واكترثت، فالمكان ليس لك، وليس هذا الزمان معك، فاذهب. أبوابك جدرانٌ وطريقك شكّ وشوك. ولا تقل هجرتني الوردة بسبب انحباسي وارتجاف يدي. ولا تقل فاقَ عزيمتي دأبُ من سبقوني مسترسلين في مديح العطر. وإن خرجت حيا بلا خدوش فهذه نعمتك. لكن دعْ خيطَ الحياة ينسرب في نسيجك الجديد، فهذا قميصك يليق بك ويَشْكُل عليهم. لغتك سربٌ وحدها وسماؤك أسمى.
أيها النسر في قفص الآفاق، مرّرْ جناحك على طفل محاصر، على امرأة وأد الفقر نهديها في الجفاف. قل لهؤلاء المنبوذين في الخوف: قوموا. آن للخطوة أن تنقسم وليبدأ الباقي.
السماء لا تساوِم. ومن يروم إسراء فليحفرْ في الورقة أولا، نبشا عن زمرد ما قيل في البدء، حين ولدت الكلمة من بطن الميزان ومالت كفة الخلق واهتزت مصائر من فيه. حين وشوشتِ الشجرة آدمَ، فتثاءبت الأحرفُ في سرير فردوسها، ثم صحتِ الكلمة. هبطتْ إلى الأرضِ، ففرّقتِ الناس. قتلَ أولهم نسلَ أبيه، وأحرقَ آخرون مُلهمَهم.
كل صباح، ترنو الكلمة إلى السماء، علّها تعود. لكن هيهات، ستمكث ما مكثَ الزبد في البحر. ستمكث الكلمة في عمق الحرائق، كيف تجفّف حناء الأكف المتضرعة، أنْ يا الله أطفئْ طريقنا، وأرشدنا ولو إلى سراب يبلل عطشنا المستديم. وترى الشمس إذا طلعت، تسألهم؛ ألا زلتم بفجوة منه؟ إنه كلبكم، باسطٌ نومَهُ على أذرعتكم، ينبحُ في نومكم، يسألكم؛ كم لبثتم في الذل والعار؟ كم مائة عام كان كهفكم ينمو بصمتكم؟ هيا، ابعثوا أحدكم بورقة موتكم، ولا يتلطفُ، فلا رزقَ لكم.
قصَصٌ عادلٌ قديم، صمتُهُ أكثر فصاحة من هذا الضجيج المهيمن. فإذا ابتهجنا في سرب التشظي، فذلك لأن الهواءَ يعتلّ بلا جامحين وتفسد غيومه وتصير قطنا. وهذه الأحلام تذوق فكاكها من واقع فظ؛ هل تكلم العيدُ يوما؟ هل لاكَ لسانَه وتنحنح يهمس أنه السعيد، وأن البشر في غرور تبرمهم يتغيرون لو جاءَهم ضاحكين في صبح الوجاهة، وقلوبهم خفقٌ كأن بياضَها عاد؟
إنهم عند اعتلال الظهيرة يتغيرون، متفرقين كما ولدوا، آحادا بعد لم، وفرادا بعد جمع، بلا رابطٍ سوى حدود الخرائط قبل محوها.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.