لماذا لم تنتج روسيا فلسفة بمستوى أدبها وموسيقاها؟

لوسكي يحلل أسباب خمودها الفكري حتى القرن الـ19

لماذا لم تنتج روسيا فلسفة بمستوى أدبها وموسيقاها؟
TT

لماذا لم تنتج روسيا فلسفة بمستوى أدبها وموسيقاها؟

لماذا لم تنتج روسيا فلسفة بمستوى أدبها وموسيقاها؟

عن «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة» بمصر، صدرت طبعة من كتاب «تاريخ الفلسفة الروسية»، بترجمة دقيقة سلسلة للمترجم الراحل فؤاد كامل، لكن لم تتم الإشارة إلى أنها طبعة جديدة من هذا المرجع الكبير الذي صدر لأول مرة عن «دار المعارف» بالقاهرة عام 1984. كما تم تجاهل معلومة أساسية، وهي أن الكتاب راجعه المفكر الراحل د. زكي نجيب محمود (1905-1993)، ولا يوجد أيضاً أي تعريف بالمؤلف نيقولاي لوسكي (1870-1965).
في هذا الكتاب، يطرح نيقولاي لوسكي سؤالاً محورياً: لماذا لم تنتج روسيا فلسفة تضاهي إسهامها في الأدب، كما أنتجت لنا إبداعات بوشكين وجوجول وتولستوي وتورجنيف ودوستوفسكي، أو الموسيقى التي قدمت لنا فيها ريمسكي كورساكوف وتشايكوفسكي، فضلاً عن الدراما والأوبرا والباليه؟
يجيب لوسكي عن هذا السؤال بإشارته إلى «بومة منيرفا»، وهي من ملاحظات هيغل البارعة، إذ إن هذه البومة لا تبدأ في الطيران إلا في غبش المساء. وهذه القاعدة -كما يشير- تنطبق على تطور الفكر الروسي الذي ظل خامداً حتى القرن التاسع عشر؛ أي بعد أن طوت الدولة الروسية ألف عام من عمرها. وكانت قرون الاحتلال التتري، ثم الانعزالية التي عانتها موسكو، سبباً في حرمان الشعب الروسي من التعرف على الفلسفة الأوروبية الغربية، فلم يتصل بالثقافة الغربية على نطاق واسع إلا بعد أن فتح بطرس الأكبر نافذة تطل على أوروبا.
ويشير لوسكي كذلك إلى أن ارتباط الفلسفة باللاهوت والدراسات الدينية في روسيا أدى إلى تأخر انطلاقها عقوداً طويلة، فضلاً عن تبعية الفكر الروسي في بعض الفترات للمدارس الفلسفية خارجه، مثلما حدث مع «المثالية الألمانية»، كما دعا إليها كانط وفتشه وشلنج. يضاف إلى ذلك أن اضطهاد الحكومة لرموز الفلسفة كان أحد الأسباب التي أدت إلى تأخر الفكر الروسي، حيث لم يجد الفلاسفة الروس مساحة الحرية والتسامح نفسها التي حظي بها نظراؤهم في بريطانيا وألمانيا وفرنسا. ويدلل لوسكي على ذلك بإعلان الأمير شيرينسكي شهماتوف (1850) أنه قد ثبت أن الفلسفة يمكن أن تكون نافعة، ولكنها قد تكون شيئاً ضاراً أيضاً، ولهذا فقد ألغى كرسي الفلسفة في الجامعات، ولم يسمح بغير تدريس المنطق وعلم النفس التجريبي وحدهما، على شرط أن يقوم بتدريسهما أساتذة اللاهوت.

صدمة فيلسوف

من رموز الفلسفة في القرن التاسع التي يتوقف المؤلف عندها إيفان كيرفسكي، المولود في موسكو (1806)، وكان والده من النبلاء أصحاب الأطيان، وقد تلقى تعليمه المنزلي تحت إشراف الشاعر زوكوسفكي، ثم تحت إشراف زوج أمه فيما بعد.
وظهرت مواهبه مبكراً، إذ كان لاعباً ممتازاً للشطرنج. ففي سنة 1813، رفض الجنرال الفرنسي الأسير «بونامي» أن يلاعبه خوفاً من أن ينهزم أمام طفل في السابعة من عمره، خاصة بعد أن تتبع الطفل لعدة ساعات في لهفة شديدة، فرآه يهزم دون عناء الضباط الآخرين من الفرنسيين. وفي سن العاشرة، كان على معرفة طيبة بروائع الأدب الروسي والأدب الفرنسي الكلاسيكي في لغته الأصلية. وفي الثانية عشرة، أتقن الألمانية إتقاناً تاماً، وشرع يتعلم اللاتينية في سن السادسة عشرة، في أثناء إقامته بموسكو.
وفي عام 1829، وقع كيرفسكي في قصة حب صدمته بعنف، وغيرت مجرى حياته، وخشي الأطباء أن يصاب بانهيار تام، فبعثوا به في رحلة إلى الخارج للتسرية عن نفسه، فأمضى عام 1830 في زيارة برلين ودرسدن وميونيخ. ولما عاد إلى روسيا، بدأ في إصدار مجلة «الأوروبي» العام التالي، غير أن هذه المجلة أغلقت بعد صدور عددها الثاني بسبب مقال نشره تحت عنوان «القرن التاسع عشر».
فقد قرأ الإمبراطور نيقولا الأول المقال، وقال بعدها إن الكاتب يدعي أنه لا يتكلم في السياسة، وإنما يتحدث في الأدب، غير أن نيته كانت تتجه إلى شيء آخر مختلف تمام الاختلاف، إذ كان يعني بـ«التربية» الحرية، وبـ«النشاط الذهني» الثورة، بينما لم يكن «الاتجاه الوسطي المصطنع» شيئاً آخر غير الحكومة الدستورية. وكان من المحتمل أن ينفى كيرفسكي من العاصمة، لو لم يدافع عنه زوكوفسكي. ولم يكتب كيرفسكي شيئاً تقريباً زهاء أحد عشر عاماً جراء هذه الصدمة.
ويقارن كيرفسكي بين الفكر الغربي والفكر الروسي، قائلاً: إننا نجد في الغرب لاهوتاً عقلياً مجرداً، هو عبارة عن إثبات الحقيقة بسلسلة من التصورات المنطقية. أما في روسيا القديمة، فنجد التطلع إلى الحقيقة يحدث عن طريق «السمو الباطني للوعي الذاتي». كما أن الغرب أنتج نظاماً للدولة قائماً على العنف والغزو، بينما نظام الدولة في روسيا القديمة قائم على التطور الطبيعي للحياة القومية.

الموالون للغرب

يوضح الكتاب أن كيرفسكي كان يمثل اتجاهاً قوياً في الفكر الروسي، هو الاتجاه القومي أو النزعة السلافية، عكس بيوتر تشادايف واتجاهه المناقض (المستغرب)؛ أي الموالي فكرياً للغرب الأوروبي. ويأخذ المؤلف على الاتجاه الأول إسرافه في تمجيد ماضي روسيا السياسي وطابعها القومي، ومغالاته في تقدير سماتها الوطنية، ثقافة وأسلوب حياة. والاتجاه الثاني، على العكس من ذلك، يؤمن بأنه ينبغي لروسيا أن تتعلم من الغرب، وأن تسلك عملية التطور ذاتها التي سلكتها أوروبا، لا سيما على مستوى العلم التجريبي وقيم التنوير الدنيوي.
كان بيوتر تشادايف ابناً لمالك ثري من ملاك الأراضي. درس في جامعة موسكو، ولكنه تركها قبل تخرجه، والتحق بالجيش، وشارك في حرب 1812، وفي الحملات الأجنبية التي أعقبتها، وعاش في الخارج من عام 1823 إلى 1826، والتقى في ألمانيا بالفيلسوف شلنج الذي راسله فترة طويلة، وفي فرنسا التقى لامنيه. وبحسب تشادايف، فإن هناك قوتين فاعلتين في حياتنا: الأولى ناقصة، وهي في داخلنا؛ والثانية كاملة، وهي في خارجنا، ومنها نستمد أفكار الخير والواجب والفضيلة والقانون، وهذه الأفكار يتلقاها جيل عن جيل بفضل التتابع المتصل للعقول التي تكون ما يسميه «الضمير الكلي».
ويعرج الكتاب على نيكولاي تشيرنشفسكي (1828-1889)، أحد المنفتحين على الفلسفة الأوروبية، قائلاً: «كان ابناً لأحد القساوسة، وقد تعلم في معهد ساراتوف الديني، إلا أنه تحول فيما بعد إلى أحد رموز الاتجاه الفلسفي الروسي، وكون تصوره عن العالم تحت تأثير المادية الفرنسية في القرن الثامن عشر، وفلسفة هيجل، وتعاليم بردون وسان سيمون وفوربيه وليرو، خاصة فويرباخ الذي قرأ له «ماهية المسيحية». وعندما بلغ العشرين، انقلب مادياً ملحداً وجمهورياً ديمقراطياً بسبب «ما يعانيه البشر عامة من آلام لا يستحقونها»، وكان إلغاء الملكية بثورة لا ترحم يقوم بها الفلاحون واحداً من أهدافه الرئيسية في الحياة، وأدى نشاطه الثوري إلى القبض عليه سنة 1826، وحكم عليه بالسخرة في سيبيريا، ثم بالبقاء فيها مقيماً. وفي سنة 1883، سمحت له السلطات بالعودة إلى روسيا.
ويدافع تشيرنشفسكي عن نظرية «الأنانية العقلية»، فالأناني العاقل برأيه هو من يدرك أن السعادة الشخصية تتفق مع الصالح العام، وقد عرض نظرياته الأخلاقية عرضاً قوياً في روايته «ماذا يجب أن نفعل؟». وفيها يقول أحد أبطال الرواية فيما يتعلق بتضحيته من أجل الآخرين: «لست من الناس الذين يقومون بالتضحيات، والحق أنه لا وجود لمثل هذا الأمر، فالإنسان يتصرف التصرف الذي يبعث الارتياح إلى نفسه».

هجوم على الماركسيين

يهاجم نيقولاي لوسكي الماركسيين وفلسفتهم «المادية الجدلية»، مشيراً إلى أنهم يقعون في كثير من المتناقضات، فهم يقولون إن تلك الفلسفة ترتبط بفلسفة هيغل، وبتصوره للمنهج الديالكتيكي بالذات، لكنهم سرعان ما يعودون ليؤكدوا أن فلسفتهم تختلف اختلافاً عميقاً عن فلسفة هيغل الذي يدافع عن المثالية، ويعتقد أن أساس العالم هو «الروح المطلقة»، بينما يقوم تصورهم عن العالم على أساس «الخبرة».
ويرى لوسكي أن الماركسيين ليسوا ماديين بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ولكنهم يجعلون تصورهم للعالم يبدو على أنه مادي، لأنهم يتركون أشياء دون أن تقال، أو يعلنون تصريحات غامضة تخلو من كل دقة، وهم يستمدون كثيراً من المعونة في هذا الصدد من كلمة «حركة» التي يطبقونها على تغيير الوضع في المكان من جهة، وعلى الأفعال الخلاقة التي تنتج صفات جديدة. ويلفت كذلك إلى أنهم ينتفعون كل الانتفاع بكلمة «طبيعة» التي كثيراً ما يستخدمونها، بدلاً من كلمة «مادة».
ويوضح الكتاب هنا كثيراً من المفاهيم الملتبسة حول العلاقة بين المثالية والمادية، كفلسفتين متعارضتين، قائلاً: «أما نظريتهم الخاصة التي يستعيرونها من ديالكتيك هيغل عن (تطابق الأضداد)، ومن ثم عن (تحقق المتناقضات)، فهي في الحقيقة تعبير ينقصه الدقة عن فكرة (وحدة الأضداد)».



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.