الحكاية الشعبية.. لماذا تبقى طويلا؟

3 قرون على رحيل صاحب «سندريلا»

غلاف «كان يا ما كان..»
غلاف «كان يا ما كان..»
TT

الحكاية الشعبية.. لماذا تبقى طويلا؟

غلاف «كان يا ما كان..»
غلاف «كان يا ما كان..»

من منا لا يذكر «حكاية سندريلا»، لمؤلفها شارل بيرو التي تمر في مثل هذا الأيام 3 قرون على وفاته؟ سندريلا، تلك الفتاة التي تتمكن من تحقيق أمانيها بعد كل ما ذاقته من قسوة على يد زوجة أبيها، أو مغامرات الصبي اليتيم جاك، الذي يقايض بقرة، هي كل ما تملكه أمه، ببعض من حبات الفاصولياء التي سرعان ما تتحول إلى شجرة عملاقة تدر عليهما كنوزا من الذهب. هذه وغيرها من القصص الشعبية تبقى عالقة في أذهاننا حتى بعد انقضاء فترة الطفولة لننقلها بدورنا للأبناء والأحفاد. لكن ترى من أين جاءت؟ وهل نُقلت إلينا بأمانة لشكلها الأصلي؟ أم أنها وصلتنا بعد عملية طويلة من إعادة الإنتاج والتدوير عبر أجيال من الرواة؟
للحكاية الشعبية قدرة هائلة على اجتياز الحدود والقارات، إذ ليس بوسع الحواجز القومية أو الإثنية أو اللغوية أن تقف عائقا أمام انتقالها الجغرافي. تصاحب عملية الانتقال سلسلة من الإضافات والتعديلات التي تطرأ على شخصيات وخط أحداث وبنية الحكاية الدرامية، لتحمل أثر الثقافات التي تمر عبرها؛ أي إن الحكايات الخرافية التي نعرفها اليوم هي نتاج تحاور وتلاقح بين الشعوب والثقافات، يقتات على عملية قوامها السرد وتكراره. وفي كل مرة يعاد إنتاج قصة من القصص، سواء كان السارد جدة تشحذ مخيلة أحفادها أو صانع أفلام هوليوودي محترف، تزداد القصة الأصلية ثراء.
هذه إحدى نظريتين نقديتين تحاولان تفسير تاريخ ظهور الحكاية الخرافية، وتعرف بنظرية «الانتشار الثقافي» (trans - cultural diffusion). على الضفة المقابلة تحضر مدرسة نقدية تعنى بشرح أوجه الشبه، لا مواطن الاختلاف، بين الحكايات، وتعرف بـ«المدرسة الكلية» (universalist)، فمن وجهة نظر هذه المدرسة، ينتظم السرد الشعبي 7 بنى رئيسية، تتخللها بعض التنويعات الفرعية. من أنصار هذه النظرية يأتي نقاد «المدرسة الشكلية الروسية»، من أمثال فلاديمير بروب، الذي وجد في كتابه «علم تشكل الحكاية» 31 وحدة وظيفية تتكرر بشكل لافت في القصص الشعبية الروسية، ومنظرو «المدرسة البنيوية»، من أمثال الفرنسي كلود ليفي ستروس.
في كتابها الأخير «كان يا ما كان: لمحة موجزة عن تاريخ الحكاية الخرافية» الصادر في شهر أكتوبر عام 2014، تميل الباحثة والأكاديمية البريطانية مارينا وارنر إلى رأي «المدرسة النقدية» التي تقول بدور الانتشار الثقافي في تشكل ملامح الحكايات الخرافية. كان لصدور الترجمة الفرنسية لحكايات «ألف ليلة وليلة»، من قبل المستشرق الفرنسي أنطوان جالان عام 1704، الدور الكبير في إثراء محتوى الخيال الشعبي الأوروبي. فثيمات الانتقام والسحر والعربدة وتحولات الشخصيات الجسمانية التي تشتهر بها «الليالي العربية» انتقلت بدورها إلى عدد من العلامات الفارقة في السرد الشعبي الأوروبي مثل قصة «اللحية الزرقاء» للكاتبة الفرنسية مدام دولنوي، على سبيل المثال. أما على صعيد البناء السردي، يحيل عدد من النقاد البنية المتراكبة لألف ليلة وليلة (ما يعرف بالقصة الإطارية حيث يؤدي الحوار بين شهرزاد وشهريار دور الإطار لبقية القصص) لمجموعة من القصص الخرافية للشاعر الإيطالي جيامباتيستا بازل، نشرت بعد وفاته بين عامي 1634 و1636 تحت عنوان «بينتاميرون».
تتسم الحكايات الخرافية بالسيولة وعدم الاستقرار على مستوى الشكل، لذلك تفتقد للخصائص التي تميزها عن غيرها من الأجناس الأدبية الرئيسية كالشعر، والمسرح، والرواية، والقصة القصيرة. هي في حالة تجوال مستمر بين وسائل التعبير المنطوقة والمكتوبة، نجدها على صفحات المجلات وبين دفات الكتب، وعلى خشبات المسارح وشاشات السينما والتلفاز. تقول وارنر: «لا تمتلك الحكاية الخرافية شكلا أدبيا محددا بدقة، وإنما هي مائعة كحوار يجري على مدى قرون».
فألف ليلة وليلة، على سبيل المثال، لا تكف إلى اليوم عن معاودة الظهور في أشكال أدبية وسينمائية مختلفة، وفي كل مرة يتم التعديل عليها، إما عن طريق إضافة أو إسقاط شخوص، أو تحوير مجرى الأحداث. في سبتمبر (أيلول) الماضي قامت الحكواتية المصرية - الفرنسية شيرين الأنصاري بتأدية عرض منفرد على خشبة مسرح الريتش ميكس في لندن، أعادت فيه سرد عدد من حكايات ألف ليلة وليلة، باللغتين العربية والإنجليزية مع توظيف لافت للغة الجسد والتفاعل المباشر مع الجمهور. الأنصاري لم تكتف بتقمص دور شهرزاد عبر روي القصص في شكلها الأصلي، وإنما أعادت صياغة الحبكة ومجرى الأحداث، مخرجة إياها من سياقها التاريخي لتحاكي مقتضيات القرن الحادي والعشرين.
يمكننا إذا أن نفهم خيبة الأمل التي أصابت الأخوين فيلهلم ويعقوب غريم، من مدينة كاسل الألمانية، عندما شرعا في أوائل القرن التاسع عشر بجمع أكبر قدر ممكن من الحكايات الشعبية التي تخص ثقافة بلادهما، كمحاولة لرد الاعتبار لمدينتهم التي لم تصمد في وجه جيوش نابليون التي كانت تحقق الانتصار تلو الآخر في القارة العجوز. فبعد أن جابا البلاد لاستقصاء وجمع وغربلة الحكايات الخرافية الألمانية بدأت الشكوك تساورهما حول نقاء جذورها الجرمانية، مما اضطرهما إلى حذف كثير من الحكايات بعد أن فشلت في اختبار الأصالة، ومنها: الحسناء والوحش، والقط ذو الحذاء، وغيرهما. تعتقد وارنر أن البحث عن الأصالة كانت مهمة مرهقة بالنسبة للأخوين، وقراءة مجموعتهما الشهيرة، التي ترجمت إلى أكثر من 150 لغة، تحمل معها أطياف لشخصيات وثيمات سبق وأن ظهرت في أعمال سابقة، مثل: ألف ليلة وليلة، ونتاج الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، وغيرهما.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟