توثيق حضارة ماري عاصمة الفرات الأوسط

تعرّض موقع مملكة ماري التاريخي وأوابدها للنهب والتعدي من قبل عصابات سرقة الآثار، كما حصل لكثير من المواقع الأثرية السورية، بسبب الظروف التي تتعرض لها البلاد.
ويؤكد تقرير صادر عن مديرية الآثار السورية العامة قبل أشهر قليلة أن الاعتداءات تركزت ضمن القصر الملكي والبوابة الجنوبية والحمامات ومعبد عشتار ومعبد داجان ومعبد ربة الينبوع. وكانت عدد الحفريات غير القانونية في موقع ماري قد بلغ أكثر من 50 حفرية.
ومملكة ماري التاريخية التي تعود لـ5 آلاف عام مضت تتموضع على ضفاف نهر الفرات في محافظة دير الزور شرق سوريا، حيث ازدهرت خلال الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، وشكلت عاصمة الفرات الأوسط. وكان اكتشافها على يد عالم الآثار الفرنسي آندريه بارو قبل 80 عاما (في عام 1934) حدثا علميا تاريخيا مهما، أعطى معلومات هائلة عن الثورة العمرانية خلال هذه الفترة، وأوضح مفاهيم مهمة عن عمارة القصور والمعابد والأسوار وتخطيط المدينة والكتابة المسمارية والفن.. هذه المملكة التي تركت حضارة عمرانية رائعة من قصور وحضارة إنسانية لعلّ من أبرزها تقديمها لأول مغنية في العالم القديم (أورنينا)، وهي مغنية المعبد والفرقة الموسيقية المؤلفة من 26 عازفا، وهناك معبد ربة الينبوع الشهير. كما أن مملكة ماري وقبل 5 آلاف عام كانت تُعد عاصمة العطور في العالم.
كما اشتهر حرفيوها بتصنيع آنية المرمر «المعطرة»، حيث كانت الملكات والثريات يضعن عطورهن فيها، ووظيفتها حفظ العطر لفترة طويلة.
وعلى الضفة الأخرى المعاكسة تماما للأولى، وفي الاتجاه الآخر، هناك من يعمل على المحافظة على هذا التراث العريق، من خلال توثيق بعض مفرداته واستلهامها في أعمال إبداعية، ومن هؤلاء المصممة والتشكيلية السورية «نزهة عبد المحسن»، التي تعمل ومنذ سنوات على تصميم ملابس ومفردات حياتية مستوحاة من مجتمع مملكة ماري، لتبقي حضارتها الخالدة حيّة في نفوس وعقول الناس، وهي التي تنتمي بكل جوارحها وعواطفها وعقلها لمسقط رأسها مدينة دير الزور.
وكانت قد بدأت بتوثيق ملابس نساء بلاط مملكة ماري، والأنسجة التي كانت تصنع فيها من قبل حرفيين مهرة اشتهرت بهم، ومن ثم انتقلت لتوثيق ملابس وإكسسوارات ومجوهرات ملوك ماري وأعيانها وشيوخها ورجالها.
وتوضح نزهة لـ«الشرق الأوسط»: «قبل 5 سنوات قمت بعرض الأزياء الأول للمرأة، استوحيته من حضارة ماري، وكان في مدينتي دير الزور، وقررت أن أكمل البحث التاريخي في حضارة ماري؛ فقمت بإعداد مجموعة أزياء مستوحاة من لباس ملوك ورجال مملكة ماري.
وكانت التصاميم منوعة، منها أزياء الملك زمري ليم بعباءته الحمراء، وزي الملك ايكو شاماغان بتنورة جلد ذات قطع موصولة مع بعضها، الذي يشبه زي الملك لمجي ماري، وزي آخر مأخوذ من لوحة جدارية تمثل لوحة تنصيب الملك، وهو زي متعدد الطبقات من الأعلى للأسفل، ومتكرر في لوحة جدارية ملونة، وزي لرجل متعبد القسم الأعلى من جسده عاري ويرتدي تنورة موصّلة، وزي لجنود المملكة كذلك زي لأمير أوغاريتي كان يقوم بزيارة للملك زمري ليم يرتدي عباءة تشبه عباءة الملك زمري ليم ويختلف الزيان باللون اللافت للنظر في تصاميم رجال مملكة ماري تاريخيا أنها على الأغلب عارية الكتف الأيمن، ولها خاصية وهي وجود تنورة تغطي الركبة، كما يلاحظ وجود طبقات في أغلب الأزياء سواء عند الرجال والنساء في المملكة.
وحول الإكسسوارات التي كان يرتديها الملوك القدماء والكهنة والمواد المستخدمة فيها، التي عملت على تصميم نماذج منها توضح نزهة: من خلال اللقى الأثرية الموجودة في كل من متاحف دمشق وحلب ودير الزور لم يكن من الظاهر لي أثناء دراستي لها ومشاهدتي لجميع التماثيل المهمة الموجودة فيها أن رجال مملكة ماري، وخاصة في ما عثر عليه في معبد (نيني زازا كانوا يستخدمون شيئا من الزينة (خواتم وأساور) في أيديهم، ربما في الطقوس الدينية لا يلبسون حليا من منطلق الزهد، ولكن هناك ما يثبت بشكل موثق أن الملك زمري ليم ملك ماري كان يطلب من ملوك الدول المجاورة، وبحكم العلاقات التجارية للمملكة استيراد الأحجار الكريمة لصناعة الأختام الملكية المشهورة في ماري. وكان الملك على معرفة دقيقة ودراية وخبرة بالأنواع الغالية والثمينة لحجر اللازورد المستورد من أفغانستان فقد اعتبروا حجر اللازورد حجر الحكمة والسعادة العائلية، وكانت عيون التماثيل التي عثر عليها في المملكة مصنوعة من هذا الحجر الكريم، بالإضافة إلى العاج المستورد من الهند والعقيق المستورد من اليمن آنذاك، يوجد كثير من القطع الأثرية الثمينة مصنوعة، وهي على الأغلب حلي للنساء (أطواق من اللازورد والعقيق والذهب وأساور)، موجودة في متاحف سوريا.
وتوضح نزهة عن مصممي الأزياء والخياطين في مملكة ماري قبل آلاف السنين، وماذا كانوا يستخدمون في تصاميمهم وأدواتهم وأنواع الأقمشة وغير ذلك بقولها: «نعم، يوجد مصممو أزياء وخياطون، فمملكة بعظمة مملكة ماري عاصمة الفرات الأوسط وقتها، ومنذ 5 آلاف عام، تصنّع 7 أنواع من العطور، و11 نوعا من أنواع الزيوت، وقاعات قصرها التي بلغت شهرتها الآفاق؛ قاعة الموسيقى وقاعة الاحتفالات الدينية وقاعة المكتبة وقاعة المهن «الحياكة والغزل»، فآلة الحياكة المسمّاة «الجوما»، وكذلك المغزل البسيط ما زالت مستخدمة في ريف محافظة دير الزور حتى اليوم. ووجود معمل للسجاد فيه 9 عاملات نسيج يبين ما كانت عليه هذه المملكة من تطور وعراقة، ويؤكد وجود مصممين وخياطين مهرة.