عوازل كهربائية من «عجينة» الشمندر المهملة

باحثون مصريون وفروا بديلاً محلياً لمنتج يستورد بملايين الدولارات

TT

عوازل كهربائية من «عجينة» الشمندر المهملة

لجأت شركة الدلتا للسكر المصرية، بمحافظة كفر الشيخ (شمال القاهرة)، قبل نحو 8 أعوام، إلى المركز القومي للبحوث، للمساعدة على حل مشكلة تراكم العجينة الناتجة عن تصنيع السكر من الشمندر (البنجر)، والتي تعرف علميا باسم «كيك كربونات الكالسيوم» أو (filter cake). وقادت جهود باحثي المركز بالتعاون مع باحث يعمل بالشركة، إلى تصنيع أجسام «الأنورثيت السيراميكية»، التي تدخل في كثير من الصناعات، من تلك العجينة.
تتحول تلك العجينة عندما تجف إلى قطع صغيرة جدا تطير في الهواء، لتلوث البيئة في المنطقة المحيطة بالشركة، وكان الوصول إلى تصنيع أجسام «الأنورثيت السيراميكية» منها حلا مناسبا، لم تتمكن الشركة وقتها من تنفيذه بسبب بعض العوائق المالية والإدارية، غير أن الدكتورة سالمة أبو النجا، أستاذة السيراميك والحراريات بالمركز القومي للبحوث، لم تنس هذا الإنجاز، الذي حصلت به على براءة اختراع في أكتوبر (تشرين الأول) 2015.
ورغم مرور السنوات، إلا أنها وجدت في إحدى الحاضنات التكنولوجية التي سيطلقها المركز القومي للبحوث بمصر في فبراير (شباط) 2021، فرصة لإعادة طرح فكرة إنتاج أجسام «الأنورثيت السيراميكية» من نواتج صناعة سكر البنجر، حيث تدخل تلك الأجسام في صناعات السيراميك والزجاج والعوازل الكهربائية.
تقول أبو النجا لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون هذا المنتج، بالإضافة لمنتجات أخرى، ضمن الأفكار التي ستحظى بدعم الحاضنة التكنولوجية، والتي سيكون وجودها في المركز مساعدا للباحثين على إنشاء شركات خاصة، كترجمة لقانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار، والذي تم إصداره لائحته التنفيذية في مايو (أيار) من العام الماضي».
وبينما تفرض أزمة سد النهضة الإثيوبي على مصر التقليل من زراعات قصب السكر المستهلكة للمياه، واستبدال الشمندر السكري بها، فإن أبو النجا تتوقع أن يكون لتصنيع أجسام «الأنورثيت السيراميكية» من «كيك كربونات الكالسيوم» الناتجة عن صناعة السكر من الشمندر، فرصة جيدة للتطبيق، لأنه من المتوقع أن تزيد كمية زراعات الشمندر.
وتوقع تقرير صادر عن وزارة الزراعة المصرية ممثلة في مجلس المحاصيل السكرية، ارتفاع مساحة زراعة الشمندر عام 2021 لنحو 650 ألف فدان، مقابل 520 ألف فدان عام 2020.
وإضافة لهذا الدعم الذي فرضته الظروف لزراعة الشمندر، ترى أبو النجا، أن أجسام «الأنورثيت السيراميكية» التي يمكن توفيرها من ناتج تصنيع السكر (كيك كربونات الكالسيوم)، تدخل في كثير من المنتجات مثل الزجاج والسيراميك والعوازل الكهربائية، وهو ما سيجعل لهذه المنتجات فرص تسويقية كبيرة، لأنها ستكون أرخص، لكونها مصنعة من خامات محلية كان يتم إهدارها.
ويتم تصنيع أجسام «الأنورثيت السيراميكية» عن طريق خلط مسحوق كيك كربونات الكالسيوم، كمصدر لأكسيد الكالسيوم، مع مسحوق كاولين التيه، المستخرج من منطقة سيناء، كمصدر لكل من أكسيد الألومنيوم وأكسيد السليكون، ثم يتم تسخين هذه المساحيق لمدة ساعة عند درجة حرارة (1200 درجة مئوية) بغرض ربط وتجميع تلك الحبيبات لتشكيل هذا المنتج.
واستخدمت أبو النجا وفريقها البحثي أجسام «الأنورثيت السيراميكية» في تصنيع عوازل كهربائية، وهو منتج واسع الاستخدام، وتم التفكير في استخدام أجسام «الأنورثيت» لتصنيعها لعده أسباب، أهمها الخواص الكهربائية لتلك المادة، والتي تتميز بأنها عازلة للكهرباء، هذا فضلا عن خواص تلك المادة الميكانيكية، والتي تم توثيقها في براءة الاختراع ودراسة نشرت في دورية «Interceram».
تقول الباحثة: «تمتعت الأجسام المحضرة باستخدام ناتج صناعة السكر من البنجر بقوة انحناء تساوي 25.33 ميغا بسكال، وكثافة نسبية 64.5 في المائة». وبالإضافة لهذه المزايا الميكانيكية والشكلية التي دفعت الفريق البحثي إلى إعطاء مزيد من الاهتمام لمنتج العوازل الكهربائية من أجسام «الأنورثيت»، فإن إعطاء مزيد من الاهتمام لهذا المنتج من شأنه أن يقلل كثيرا من تكلفة استيراد تلك العوازل من الخارج، كما تؤكد أبو النجا.
ووفقاً لتقرير أصدره البنك الدولي، فإن مصر استوردت عام 2018 عوازل كهربائية بقيمة 18 مليون و789 ألف دولار.
هذه المزايا التي ذكرتها أبو النجا، تجعل لمنتج العوازل الكهربائية المصنعة من أجسام «الأنورثيت» المحضرة من ناتج صناعة سكر الشمندر، فكرة صالحة للتطبيق عربيا، لانتشار زراعات الشمندر، كما يؤكد أحمد السيد عطية، الباحث بمعهد المحاصيل السكرية، التابع لمركز البحوث الزراعية. ويقول عطية، لـ«الشرق الأوسط»، إن زراعات الشمندر، تحظى بوجودها في عدة دول عربية، هي بالترتيب وفق المساحة المزروعة (المغرب، سوريا، تونس، العراق، لبنان)، وهو ما يجعل الاستفادة من نواتج استغلال الشمندر في صناعة السكر، أمرا مجديا من الناحية الاقتصادية.
ولا يختلف الدكتور خالد أبو زيد، المدرس بقسم الهندسة الكهربائية بجامعة أسيوط المصرية، مع الدكتور عطية في قيمة استغلال «كيك كربونات الكالسيوم»، كأحد النواتج الثانوية غير المستغلة لتصنيع السكر من الشمندر، لكنه يتساءل عن تكلفة المكونات الأخرى التي أشارت الباحثة إلى ضرورة ضمها لهذا الناتج الثانوي، مثل مسحوق كاولين التيه، المستخرج من منطقة سيناء.
يقول أبو زيد لـ«الشرق الأوسط»: «هل اهتمت الباحثة بحساب تكلفة نقل هذا المنتج من سيناء إلى محافظة كفر الشيخ، ومدى تأثير ذلك على سعر المنتج، وهل اهتمت أيضا بحساب تكلفة عملية الإنتاج، والطاقة المستخدمة في التسخين؟».
ولم تجرِ الباحثة دراسة جدوى دقيقة تمكنها من الإجابة على ما أشار إليه أبو زيد، لكنها تعتقد أن تكلفة النقل، تتضاءل إذا ما تمت مقارنتها بقيمة استيراد العوازل الكهربائية، وهي منتج واحد فقط، يمكن تصنيعه من أجسام «الأنورثيت» المحضرة من ناتج صناعة سكر الشمندر، كما أن التوسع في زراعات الشمندر بمصر، ربما يجعل هناك حافزا قويا لاستغلال هذا الناتج الثانوي.
وتقول «ربما أستطيع خلال الشهور القليلة القادمة تقديم إجابة أكثر تحديدا، فأحد أبرز مهام الحاضنة التكنولوجية التي سأشارك بهذه الفكرة فيها، هي مساعدتنا في إجراء دراسات جدوى».



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً