مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

رصد حياة الناس خيالاً وواقعاً

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
TT

مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»

المخرج مايكل أبتد، الذي توفي في السابع من هذا الشهر، كان من بين السينمائيين الكثيرين الذين أنجزوا أفلاماً جيدة نالوا عليها مدحاً مُستحقاً، لكن كان عليهم البرهان على جدارتهم في كل عمل لاحق.
لم يكن صاحب مدرسة ولا حتى أسلوب فني لا يُضاهى، لكنه كان جيداً في معظم ما حققه من أفلام وكثير منها، في الثمانينات والتسعينات سجل نجاحاً تجارياً كبيراً كحال فيلم «العالم ليس كافياً” (The World is Not Enough) واحد من الأفلام الأربعة التي قام بيرس بروسنان فيها بأداء شخصية جيمس بوند، وذلك سنة 1999.
وٌلد أبتد في مدينة أيلسبوري في إنجلترا بتاريخ العاشر من فبراير (شباط) 1941. درس مايكل أبتد في البداية القانون والتاريخ في جامعة كامبردج، إنجلترا. لكنه عندما اختار العمل بدأ كاتباً لمشاريع تلفزيونية سنة 1963. في عام 1964 عمل مساعداً لمخرج تلفزيوني كندي اسمه بول ألموند على مشروع فيلم تسجيلي للتلفزيون بعنوان Seven Up الذي عمد إلى تصوير حياة 14 ولداً في سن السابعة. بعد ذلك قام أبتد بالعودة إلى هؤلاء الأولاد بعد سبع سنوات ثم كل سبع سنوات بعد ذلك، مما شكل حتى الآن تسعة أفلام وثائقية تلفزيونية تتابع مراحل نمو وحاضر كل فترة زمنية في الأعوام 1964 و1970 و1977 و1984 و1991 و1998 و2005 و2012 و- آخرها - 2019.
هي سلسلة غريبة الشكل في الواقع حاول المخرج الأميركي ريتشارد الاحتذاء بها في سلسلة روائية عرفت باسم The Befores وشملت Before Midnight وBefore Sunrise وBefore Sunset وذلك ما بين 2013 و2004.
لكن منحى أبتد التسجيلي كان أطول نفساً وهو يرصد التغيّرات الفردية والاجتماعية التي تنامت على مر العصور من عام 1964 إلى سنة 2019. وفي كل مرّة كان يضع مشاهديه أمام شغف متابعة شخصيات عادية مبيّناً ما حدث معها كل سبع سنوات.
أخرج أبتد حلقات روائية من السلسلة البريطانية الشهيرة ‫ «كورونيشن ستريت» بالغة النجاح (ما زالت معروضة على ذات نظامها الإنتاجي من 1960) تدور حول شخصيات متعاقبة في مراتب اجتماعية شعبية في الأساس وتعكس، طوال تلك السنوات من حياة المسلسل، تعاقب أجيال مختلفة في مشاكل عاطفية واجتماعية متعددة. من بين أعماله التلفزيونية الأخرى Haunted (‬«مسكون»، 1967) وDustbinmen («الزبالون»، 1969) وPlay for Today («مسرحية اليوم”، 1972). هذا المسلسل الأخير استمر حتى عام 1977 وشمل تقديم عدد كبير من المسرحيات على شاشة BBC البريطانية التي انتقل إليها من بعد عمله في محطة ITV المنافسة.

خطوات أولى
خلال ذلك نقل أبتد خبرته الممتزجة بين الدراما والتسجيلي إلى السينما وحافظ عليها فحقق أفلاماً تسجيلية كما أفلاماً روائية. أول أعماله السينمائية كان روائياً بعنوان The Triple Echo («الصدى الثلاثي»، 1972) الذي وجد ردود فعل إيجابية مهدت له البقاء في العمل السينمائي منذ حينها ولو أنه لم يتخل كذلك عن تحقيق برامج وأفلام تلفزيونية كلما سنحت الفرصة.
في «الصدى الثلاثي (The Triple Echo) نجد زوجة اسمها أليس (غليندا جاكسون) أمّ زوجها الحرب العالمية الثانية الدائرة ولم يعد بعد وتشرف وحدها على المزرعة الصغيرة التي تملكها. ذات يوم تستقبل هارباً من الجندية اسمه بارتون (برايان ديكون) ولكي تخفيه تقترح عليه ارتداء ثياب نسائية. هذا التنكر يقود جندياً آخر (أوليفر ريد) للوقوع في حبه - حبها. لم يسع أبتد لخلق حالة كوميدية (ولا يوجد بين أفلامه إلا فيلمين كوميديين)، بل اكتفى بمتابعة الظرف الذي نشأ عن هذه الخدعة التي تنكشف بعد حين. فيلمه اللاحق Stardust (من بطولة المغني ديفيد أسكس، 1974) نوع من البيوغرافي المتخيلة ولم يترك أثراً يُـذكر لكن فيلمه الثالث كان أنضج وأنجح. عنوانه The Squeeze (تعبير إنجليزي شائع لوصف البوليس) حققه سنة 1977 من بطولة ديفيد همنغز والأميركيين ستايسي كيتش وستيفن بويد. بوليسي يتعامل مع حكاية فتاة شابّـة (كارول وايت) تم اختطافها لتكون رهينة بينما تدبّـر العصابة أمر سرقة شاحنة مصرفية. منحى المخرج التسجيلي يمكن ملاحظته هنا على كل الفيلم، خصوصاً في المشاهد المغلقة كالمشهد الذي يتم فيه التخطيط والاستعداد للعملية. توزيع الشخصيات وحركتها والتصوير غير المشروط بتقاليد كما مونتاج اللقطات داخل المشهد.
رابع أفلام أبتد كان الفيلم الأول له من إنتاج أميركي ولو أن التصوير بكامله دار في بريطانيا. الفيلم هو «أغاثا» (Agatha) ويدور حول مرحلة من حياة المؤلّـفة البوليسية أغاثا كريستي. ففي عام 1926 اختفت الكاتبة لأسباب ما زالت غامضة إلى اليوم قبل أن يُـكتشف وجودها في فندق صغير تحت اسم مستعار. يومها قيل أن خلافها مع زوجها الذي أقام علاقة عاطفية مع سكرتيرتها هو السبب. في الفيلم يتبرع السيناريو بتوفير مسببات وأحداث غير موثّـقة. فينيسا ردغراف رائعة كعادتها في أي دور، لكن دستن هوفمن أقل من جيد في دور الصحافي الأميركي الذي يتحرّى عن مكان وجود كريستي. المشكلة نبعت من تدخل الممثل في السيناريو واستسلام المخرج لذلك تحت ضغط شركة وورنر المموّلة. هوفمن أراد الفوز بنصيب أكبر من الظهور وكان له ذلك إنما على حساب الفيلم الذي قام بتصويره الإيطالي فيتوريو ستورارو.

بطولات نسائية
في كل الأحوال، قاد هذا الفيلم مايكل أبتد لتصوير أول عمل له في الولايات المتحدة وهو «ابنة عامل منجم» (The Coal Miner‪’‬s Daughter) سنة 1980‪.‬ هذه المرة السيرة الغنائية ليست متخيلة بل مستمدة من الواقع: قصّة حياة لوريتا لِـن التي ولدت في مطلع الثلاثينات في بيئة اقتصادية جافّـة كابنة عامل منجم ثم تحوّلت إلى واحدة من أكثر مغنيات نوع «كنتري أند وسترن» نجاحاً. لعبت سيسي سبايسك الدور وأمّن أبتد للفيلم محيطه الاجتماعي المعاش وأجواء الفترة والمكان جيداً والأوسكار في السنة التالية كان من نصيب سبايسك عن دورها في هذا العمل.
من «أغاثا» و«ابنة عامل منجم» رعى المخرج بضعة أعمال من بطولة نسائية في محيط حاد البيئة. هو جيد في إدارة شخصياته النسائية كما في Gorillas in the Mist («غوريللات في الضباب»، 1988) و«طرفة عين” (Blink) مع مادلين ستاو في البطولة (1994).
لعبت سيغورني ويفر بطولة «غوريللات في الضباب» المستوحى من حياة العالمة دايان فوسي التي قصدت دراسة الغوريللات في أفريقيا ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها ضد الذين يؤذون حيواناتها المفضلة.
أما مادلين ستاو فقد أدّت دور امرأة عمياء تستعيد بعض بصرها وتشاهد شبح قاتل. هي الشاهدة الوحيدة والتحري (إيدن كوِن) لا يأخذ أقوالها على محمل الجد أولاً، لكنه لاحقاً ما يدرك بأنها باتت مهددة من قِـبل القاتل. يرمي المخرج نظرة بانورامية لمدينة باردة الأوصال (شيكاغو) ليضم هذه النظرة إلى حسنات الفيلم الأخرى.
يقف «غوريللات في الضباب» على مسافة قريبة من فيلم آخر لأبتد يتعامل والمرأة والغابة هو Nell («نل»، 1994). هنا حكاية فتاة (جودي فوستر) تم اكتشافها في بعض المجاهل المعزولة في إحدى الولايات تعني بها الباحثة باولا (نَتاشا رتشردسون) وتحاول نقلها من حياة همجية إلى أخرى مدنية.
ليس غريباً أن أحبّـت الممثلة جنيفر لوبيز منه التعاون معها في مشروع فيلم كتبه نيكولاس كازان، ابن المخرج الراحل إيليا كازان، تحت عنوان Enough («كفاية»، 2002) كونه يتحدّث عن امرأة تواجه خطر حدة طباع، ثم شرور زوجها (بيلي كامبل). كعادته في مثل هذه الأفلام التشويقية، أم المخرج العمل بعدته الكاملة من إجادة تنفيذ المشاهد ومنح الحكاية عناصر الحدث الذي تتطلّـبه.
لكن مشاكل المرأة على الشاشة لم يحل دون معالجته مواضيع أخرى وجدها تستحق الاهتمام على نحو متساوٍ في قضاياها وجدّيتها. أتحدّث تحديداً عن فيلمين مهمّين حققها المخرج في عام واحد (1992) هما Thunderheart وIncident at Oglala في «ثندرهارت»، الذي اشترك روبرت دي نيرو بإنتاجه نجد فال كيلمر (الذي هو نصف شيروكي في الواقع) يؤدي دور محقق هجر جذوره الهندية إلى أن يجد نفسه مطالباً بالتحقيق في جريمة قتل ضحيتها فرد من القبيلة التي ينتمي إليها (سيوكس). التحقيق نافذته صوب تاريخه وإدراكه بموقعه. لكن الفيلم فيه أكثر من هذا الخط إذ يتعامل مع الوضع المعيشي الصعب لسكان المناطق الممنوحة للقبائل وسط ظروف عيش مهملة.
أما «حادثة في أوغلالا» فهو تسجيلي عن المواطنين الأميركيين الأصليين قام روبرت ردفورد بالتعليق على ما يرد فيه. وهو يتعامل مع حادثة فعلية وقعت عام 1975 إثر خلاف بين محققين من الـ«أف بي آي» وأفراد من قبيلة سيوكس نتج عنها مقتل اثنين من المحققين. هذا تبعه مسلسل طويل من التحقيقات والمحاكمات ادعت فيها السلطات على ثلاثة مواطنين لكنها عمدت إلى إغفال حقائق عدّة من بينها استفزاز المحققين للقبيلة وسقوط أحد أفرادها. ما ينجح أبتد في الكشف عنه هنا هو الوضع الاجتماعي المتأزم لشعب وجد نفسه، بفعل التجاهل، خارج التاريخ والحاضر.

غوركي وبوند
هناك فيلمان آخران بارزان من بين مجموع أفلامه.
أولهما «غوركي بارك» الذي حققه سنة 1983 عن رواية وضعها مارتن كروز سميث بالعنوان نفسه ولاقت رواجاً كبيراً وأصبحت «بست سلر» في مدى أيام قليلة.
الفيلم، كما الرواية، حكاية من الغموض والتشويق البوليسيين لكن الأكثر جذباً هو أن أحداثها تدور في موسكو. في مطلع الثمانينات كان العالم يتغير ولن تمر إلا فترة سنوات قليلة قبل أن ينهار الحكم الشيوعي بأكمله. يضعنا الفيلم في الأجواء المتوترة قبل سنوات قليلة من ذلك الانهيار. بطله التحري الروسي رينكو (ويليام هيرت) الذي يتم استدعاؤه لكشف ملابسات ثلاث جثث وُجدت مطمورة قليلاً في ثلج الشتاء، وكل جثة منها تم محو بصماتها وملامح وجهها حتى لا يتسنى لأحد معرفة صاحبها. تقوده التحقيقات إلى الكشف عما هو أكبر من الجريمة المُـكتشفة: الجريمة المنظمة والموازية التي تُـدار من وراء الستار. عندما يبلغ التحري مستوى من التحقيقات تبدأ الضغوط عليه، لكن رنكو ليس من النوع الذي يتراجع وبقدر ما يُصـبح مهدداً بقدر ما يُـصبح تهديداً.
إدارة مايكل أبتد للأحداث تسير جيداً وبهدوء. لا يستعجل الحدث لكي يقع وعندما يقع لا يستعجل المضي عنه. لتحقيق هذا التجسيد ولتقديم مدينة ملبّـدة بالغموض، كان لا بد من خمسة عناصر عمد أبتد إلى تأمينها جيداً: تصوير رالف د. بود وتوليف دنيس فيركلر وتصميم مناظر بول سيلبرت وتمثيل ويليام هارت. وكل واحد من هؤلاء أمّـن ما ينشده أبتد المتأني في فيلم لا يزال يختلف عن أي فيلم آخر من حكايات التحري الذي لا ينصاع للأوامر. وموسيقى جيمس هورنر هي العنصر المهم الخامس الذي يتجلّـى في تغطية المدينة (تم التصوير في أوسلو) وأجوائها بموسيقى زاخرة وفي بعضها تعتمد على الأبواق النحاسية لتصوّر وحدة شخصيات الفيلم.
الفيلم الثاني في هذه المراجعة هو «العالم ليس كافيا» (1999)، الفيلم التاسع عشر في سلسلة جيمس بوند والفيلم الوحيد لمايكل أبتد في السلسلة والثالث للممثل بيرس بروسنان الذي يحاذي شون كونيري في حضوره وروجر مور في حذقه ويضيف عليهما تمكّنه من الجمع بين درامية الموقف وخطره وبين بلورته لما قد نسمّيه بالسخرية السوداء. كذلك هو ثاني إطلالة للممثلة جودي دنش في دور الرئيسة. بوند يحقق في ثروة يجمعها صاحب مؤسسة نفطية (ديفيد كولدر) لكن سريعاً ما يتحوّل التحقيق إلى شرير اسمه رينارد (روبرت كارلايل) كان خطف ابنة القتيل (صوفي مارسو) التي هربت واحتلت مكاناً متوسطاً بين بوند ورينارد في سلسلة من المواقف الغامضة.
أبتد، كما في غالبية أعماله قبل هذا الفيلم وبعده، برهن عن تلك الموهبة في الجمع بين الإخراج ذي الرؤية والتنفيذ الدقيق.
أبتد حقق آخر فيلم له سنة 2017 تحت عنوان «غير مُقفل» (Unclocked) من بطولة ناوومي راباس وأورنالدو بلوم. لم ينل النجاح الذي كان يستحقه لكنه فعلياً أحد أعمال أبتد المدروسة والمثيرة رغم إنه، كقصّة، لا يُضيف كثيراً فوق المعتاد في أفلام التجسس والإرهاب. ربما حان الوقت لإلقاء نظرة ثانية عليه… أو أولى على الأقل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».