احتفل المخرج الياباني هاياو ميازاكي بعيد ميلاده الثمانين في الخامس من هذا الشهر، إذ كان وُلد سنة 1941 وهو عمد إلى السينما مخرجاً وكاتباً منذ منتصف الستينات وما يزال يشغل نفسه بالعمل رغم أنه كرر القول إنه قرر التقاعد.
ربما يأتي قراره هذه المرّة كمرحلة جديدة يكتفي فيها بالنظر إلى أعماله المترامية خلال أكثر من ستة عقود. هو بالتأكيد أنجز لنفسه ولفنّه اسماً لامعاً وكبيراً كمخرج أول في السينما التي اختص بها وهي سينما الأنيميشن، أو كما نسمّيها بالرسوم المتحركة.
شغف بالتحليق
في هذا الإطار أنجز، إخراجاً وإنتاجاً، أفلاماً مختلفة عما نعرفه في مدارس الرسوم المتحركة. هو مدرسة بحد ذاتها أطلقت أعمالاً مثل Frotress in the Sky («قلعة في السماء»، 1986) وWhisper of the Heart («همس القلب»، 1995) Princes Mononoke («الأميرة مونونوكي»، 1997) وSpirited Away («سبيريتد أواي»، 2002) وصولاً إلى The Wind Rises («الريح يرتفع»، 2014) وعدد من الأفلام القصيرة والكتابات لأفلام طويلة قام برسمها آخرون تحت إشرافه.
وُلد هاياو لأب كان يعمل في شركة مُخصصة لتزويد القوات اليابانية بالوقود. الحرب كانت مستعرة ووالده كان طرفاً شبه مباشر في الجهود الحربية اليابانية ضد الولايات المتحدة آنذاك. كولد صغير، لم يأبه هاياو للحرب بحد ذاتها بقدر ما هام حباً بحركة الطيران والتحليق كلما اصطحبه والده معه من حين لآخر. وهذا الهيام صاحبه إلى اليوم، إذ تنظر إلى أفلامه تجد ترجمة فنية وخيالية حقيقية لهذا الوله بالتحليق. هو، في قراءة موازية، حلم في الانطلاق بعيداً عن شروط الحياة الطبيعية فأبطاله قادرون على هذا الفعل إنما من غير تلك السمات التي نجدها في أفلام هوليوود المستوحاة من الكوميكس («آيرون مان» أو «سوبرمان» وسواهما).
نجد ما يجسّد حب ميازاكي للطيران في «قلعة في السماء» وفي Porko Rosso سنة 1992 ثم، وعلى نحو أكثر تميّزاً في «قلعة هاول المتحركة» (Howl’s Moving Castle) الذي أنجزه سنة 2004 و«سبيريتد أواي» (2002)
هذا الشغف بالحركة الفضائية التي لا ترتفع كثيراً فوق سطح الأرض (كما حال الطائرات عموماً) لم يكن التأثير الوحيد الذي لازم ميازاكي طويلاً ولا العنصر الذي جعل من حكاياته عاكساً للعلاقات الإنسانية على نحو غير مألوف كثيراً عند سواه من فناني الرسوم. هناك عنصر البراءة والتضحية الذي يوليهما لبطلاته. وهذا العنصر بدوره مستوحى من تأثير عائلي خالص.
في الأربعينات، وكان لا يزال حينها دون العاشرة، تبيّن أن والدته مهددة بالموت في أي لحظة نسبة لإصابتها بالسل. لم تمت في حينه بل عاشت حتى عام 1981 لتموت في سن الحادية والسبعين، لكن هذا الوضع ومخاوفه وإعجابه بكفاح والدته ضد الموت وعزيمتها التي أجلت رحيلها لأكثر من أربعة عقود كان كله حافزاً لتصوير الإناث اللواتي يقدن أفلامه بمزيج من براءة طبيعية وقوّة داخلية. شخصياته النسائية شجاعة وذات عزيمة قوية. شخصيات لا تتردد في فعل الخير للدفاع عما تراه صواباً.
إنما في هذا الإطار ذاته، لا يمكن الخلط بين صورة المرأة في أفلام ميازاكي والصورة الأكثر شيوعاً في مجلات وأفلام الكوميكس الأميركية. هي ليست بحاجة للقتل لكي تبرهن عن جدارتها بالدفاع عن الحق ومواجهة الشر، بل هي أكثر انتماء للفتاة الطبيعية التي تعالج مهامها بلا عنف من أي نوع.
معالم وسمات
خارج هذا التأثير الواصل إليه من حياة والديه هناك الكثير في أفلام ميازاكي التي تثير الإعجاب وتشهد بالتميّز الشديد.
في المقدّمة هنا تواجهنا أعماله بحكايات تحث على الروحانيات كفاعل مهم ومحفّز كبير لتحريك لا الشخصيات وحدها بل الحكايات جميعاً. إنه، على سبيل المثال، لن يعمد إلى الاتكال على رسم تكامل الآلة، بل على تكامل الإنسان. طائراته قديمة وقد لا تطير جيداً، لكن أبطاله يحلقون جيداً بروحانياتهم الطبيعية.
في عام 1963 انضم لشركة Toei التي كانت تنتج الرسوم المتحركة. في الفترة ذاتها اكتشف أن العديد من أعماله هي نسخ منقّحة لفن الأنيميه المنتشر في ذلك الحين. وأن رسوماته متأثرة بما كان موجوداً حوله من أنماط. والحكاية التي تُروى عنه إنه حال إدراكه ذاك جمع أعماله وأتلفها وأخذ يبحث عن أسلوبه الخاص.
اكتمل تطوره في مطلع السبعينات ومن فيلمه المبكر «قبر الحشرات» (Grave of Fireflies) سنة 1971. لم يكن فيلماً كبيراً لكنه كان، ولا يزال، العمل الأول في مسيرته كمخرج والعمل الأول كتأسيس لأسلوبه الخاص. بذلك وجد ميازاكي معالم وسمات أسلوبه في التأليف كما في الرسم وما إن حقق «قلعة كاغليوسترو» سنة 1979 حتى كان امتلك كل ما يحتاجه من مفردات وتقنيات العمل الممكن أن يُنسب إليه وإليه فقط.
هذا الفيلم المذكور («قلعة كاغليوسترو») لم يَشِخْ وتبدو عليه علامات السنين مع مرور الزمن، بل يبدو اليوم شهادة لاهتماماته المجتمعة تحت سقف هذا العمل وكل عمل لاحق. ففي هذا الفيلم مزيج بين رعاية المخرج للثقافة اليابانية وانفراد طريقته الرقيقة في الرسم. ومن السهولة أن نجد هذا المزيج في كل أعماله اللاحقة على اختلاف قصصها. هي دوماً نابعة من التراث الثقافي والسلوكي للإنسان الياباني ومبهرة في أفكارها البصرية وطريقة تنفيذها.
في عام 1984 أخرج فيلماً بعنوان Nausicaa of the Valley of the Wind وفيه قدّم رؤيته لعالم مهدد بالتكنولوجيا التي ستحاول انتزاع الإنسانية من داخل البشر. التكنولوجيا، كما نرى في هذا الفيلم، لديها برنامج عمل يتعارض والقيم الروحانية وفكرة أن كل شيء حولنا في الطبيعية (وهذا يشمل الأشجار والطيور والحيوانات) يصبح مهدداً إذ تتصدّى التطوّرات الصناعية تبعاً لطبيعة رسالاتها لما هو مبدأي وأخلاقي وطبيعي في الحياة.
يتمثّل هذا الصراع أيضاً في «سبيريتد أواي» (2002) إنما على صعيد فلسفي. يتناول حكاية فتاة تجد نفسها غير قادرة على التحكم بمصيرها وسط غابة من الشؤون والغايات الأنانية. تكتشف أن هذا العالم الذي تعيش فيه هو عالم مخيف ومن إدراكها هذا يتولد في ذاتها ذلك العزم على الخروج من سطوة ذلك العالم والتحرر من تبعاته.
الفيلم مذهل في جودته الفنية على المستويين التفصيلي والإجمالي وكحكاية ذات مرامي فلسفية وانتقادية ضمن فانتازيا بالغة الجمال أفكاراً وألواناً. لا عجب إنه نال أوسكار أفضل فيلم في العام التالي (2003) عنوة عن أربعة أفلام أميركية نافسته لم يحمل أي منها أكثر من حسن تنفيذ تقني لحكاية مرتبطة بأفق ضيّق من المواقف والمفادات.
نجاحه قاد لرغبة ديزني التعاون معه (عبر شركة غيبلي التي أنتجت أعماله). وقّعت معه عقداً سنة 1996 تم فسخه سريعاً بعدما سمحت ديزني لنفسها تغيير نهايات أفلامه.
بالمقارنة نجد في أفلامه دعوة لعالم أفضل. تواصله مع الأطفال والأولاد الذين يشاهدون فيلمه قائم على إيفاد رسالات إيجابية خالية من العنف والرغبة في التوجيه لأي غاية مادية. طبعاً هناك رسالات إيجابية في أفلام الاستوديوهات الأميركية، لكنها غالباً ما نجدها مرتبطة مع مفادات ضارّة بعضها يتضمن العنف («كوكب الكنز») وبعضها الدعوة لقبول المثلية («إيجاد نيمو») والكثير منها ساذج في الطرح وغايته المباشرة مادية بحتة.