يوم اجتاحت الانفلونزا الإسبانية ديار مصر

كتاب جديد يكشف عن كوارثها بعد قرن من الزمان

يوم اجتاحت الانفلونزا الإسبانية ديار مصر
TT

يوم اجتاحت الانفلونزا الإسبانية ديار مصر

يوم اجتاحت الانفلونزا الإسبانية ديار مصر

منذ ما يقرب من 100 عام تقريباً اجتاح العالم وباء حصد أرواح ملايين البشر في العالم، البعض يقول إن عدد ضحاياه كان 20 مليون شخص، وذهب آخرون إلى أن الذين حصد الوباء أرواحهم تعدوا ذلك الرقم بكثير، وربما وصلوا إلى 50 مليون إنسان، توفوا جميعاً متأثرين بالتهاب رئوي، وكان بينهم ربع مليون بريطاني، و10 ملايين هندي، أما دول وسط أفريقيا فكان من نصيبها مليونا قتيل، ولم تكن مصر بعيدة عن ذلك الوباء، فقد قدمت أكثر من 180 ألفاً من أبنائها ضحايا لانتشاره في أراضيها، وقد كان اللافت للنظر أن معظم الوفيات من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 إلى 40 عاماً، وهو ما يخالف وباء كورونا الذي يجتاح العالم حالياً، ويصيب كبار السن.
كتاب الدكتور محمد أبو الغار الذي صدر حديثاً بعنوان «الوباء الذي قتل 180 ألف مصري» عن دار الشروق المصرية، يرصد تفاصيل ذلك الوباء، وما جرى منذ 100 عام أثناء انتشار الفيروس الذي عرفه العالم باسم الأنفلونزا الإسباني، رغم أنه لم يظهر في إسبانيا أولاً، وأغلب الظن أن ظهوره كان في الصين، أو في أميركا في كانساس سيتي.
يتكون الكتاب من 7 فصول، غطت كثيراً من الجوانب حول تطور النظام الصحي في مصر لحصار الأوبئة ومحاربتها، وتدهور الوضع الصحي والاقتصادي زمن انتشار الأنفلونزا الإسبانية واندلاع الثورة بقيادة سعد زغلول ورفاقه، كما تابع المؤلف وهو طبيب معروف، تغطيات أحداث الأنفلونزا الإسبانية في الصحف المصرية، وخلاله يعقد أبو الغار مقارنة بين فيروس الأنفلونزا الإسبانية، وما حدث من إجراءات عالمية أثناء انتشاره، وبين ما يحدث حالياً في ظل انتشار فيروس كورونا، كما يبحث الآثار الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية التي صاحبت تفشيه، وما أدى إليه من تغييرات على المستوى الدولي والمحلي، وقد كان من نتائج انتشاره في مصر، اندلاع أحداث ثورة 1919. ومطالبة المصريين بالاستقلال، وخروج المحتل البريطاني من أراضيهم.

وثائق إنجليزية رصدت انتشاره

اعتمد أبو الغار في تأليف كتابه على مجموعة وثائق ومستندات مكتوبة باللغة الإنجليزية، حصل عليها من جامعة تكساس الأميركية، عن طريق الدكتور كريستوفر روز الباحث في قسم التاريخ، وتغطي الوثائق الحالة الصحية في مصر بشكل كامل ومفصل بداية من عام 1914 حتى 1927. كما استفاد من نسخة التقرير العام الذي قدمه الدكتور ويلسون إلى لورد ملنر وزير المستعمرات البريطانية، الذي حضر إلى مصر، وأقام بها عدة شهور للتحقيق في أسباب ثورة 19. ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها المحتل البريطاني، وأدت إلى اندلاعها. ولم يكتفِ الدكتور محمد أبو الغار بهذه الوثائق، لكنه كان يحتاج أيضاً لوثائق محلية تصف ما جرى، وراح يبحث طويلاً، ولم يعثر على أي شيء يشير للوباء في كتابات مؤرخين مهمين، مثل عبد الرحمن الرافعي، وأحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي، ومدير عموم الأوقاف وقتها.
وفي ظل حرصه على الوصول لمعلومات محلية ترصد تفاصيل ما جرى في مصر، عثر المؤلف على بحث للدكتور كريستوفر روز يشير فيه إلى أن الوباء تسبب في إزهاق أرواح آلاف المصريين، كان بحثاً صغيراً لكنه فتح الطريق أمامه ليؤكد حقيقة أغفلها المؤرخون، فيما أشار بعضهم إليها بجملة أو عبارة خاطفة، مثل الشيخ عبد الوهاب النجار ضمن مذكراته عن ثورة 19. التي صدرت بعنوان «الأيام الحمراء»، وشفيق باشا الذي كتب في حولياته السياسية: «وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد، بانتشار حمى غريبة قاسية، أشبه بالوباء الفتاك، سميت بالحمى الإسبانية، وفتكت هذه الحمى بعدد كثير من الناس».

معلومات نادرة في كتب المؤرخين

إغفال المؤرخين الحديث عن وجود وباء الأنفلونزا الإسبانية في مصر، أدى حسب المؤلف، إلى أن كثيراً من دارسي التاريخ ظنوا أن المصريين لم يتعرضوا للأنفلونزا الإسبانية أصلاً، لكن أبو الغار استغل سطوراً متناثرة في كتابات المؤرخين، في فتح بوابة كبيرة من المعلومات عثر عليها في صحيفتي «الأهرام» و«المقطم» المصريتين، وقد اكتشف أنهما تابعتا بكثافة موضوع الوباء، وأظهرتا مدى خطورته، وآثاره على حياة المصريين، وكشفتا ما أدى إليه انتشاره من أضرار اقتصادية، وبشرية، فضلاً عن الآثار النفسية والعصبية العميقة التي لاحظها العلماء، وغيّرت من التصرفات الإنسانية.
وأشار أبو الغار إلى أن دول العالم عانت كثيراً من آثار ممتدة بعد انتهاء وانحسار الفيروس الإسباني، لكن حدة تلك الآثار زادت في الدول التي لم تكن لديها رقابة على الصحف، والتي راحت تتابع أخبار الوباء وترصد مناطق انتشاره، وامتدت تلك الآثار إلى الأطفال الذين ولدوا في تلك الأيام، وصارت قدراتهم في التعلم والفهم محدودة، فضلاً عن اعتلال صحتهم الجسمانية.
وفي الكتاب، يشير المؤلف إلى كيفية تعامل العالم مع وباء الأنفلونزا الإسبانية، ويعقد مقارنة بين ما جرى منذ 100 عام، وبين ما يقوم به المسؤولون في مختلف أنحاء العالم، وهم يديرون عمليات محاصرة فيروس كورونا الحالي (كوفيد 19)، وذكر أنهم استفادوا من التعامل معه باللجوء إلى عزل المصابين، وتنفيذ كثير من الإجراءات الاحترازية، كما كان يحدث عندما هاجم العالم فيروس الأنفلونزا الإسبانية.

مشاهير الضحايا

وتسببت الأنفلونزا الإسبانية في وفاة سير مارك سايكس، المستشار السياسي والدبلوماسي البريطاني، والذي كان مختصاً بشؤون الشرق الأوسط خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ووقّع عام 1916 على اتفاقية سايكس - بيكو عن بريطانيا مع بيكو، والرسام النمساوي الشهير جوستاف كليمت، ومواطنه إيجون شيلي، والأميركي جون دودج مؤسس مصانع دودج للسيارات، والاقتصادي العالمي ماكس ويبر، والكاتبة المصرية ملك حفني ناصف، والأمير أحمد عبد القادر نجل الخديوي عباس حلمي الثاني، والسياسي لبيب عبد النور الذي قام بدور كبير في جمع التوقيعات لسعد زغلول إبان ثورة 1919. أما عن المصابين، والذين تم شفاؤهم، فقد كان أحدهم الرئيس الأميركي ويلسون، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، وروزفلت الرئيس الأميركي فيما بعد، وكان وقت إصابته نائباً لوزير البحرية.
كانت حالات الوفاء جراء الأنفلونزا الإسبانية تحدث سريعاً، بعد ظهور الأعراض بيومين، حتى إن البعض ظن أن هذا يحدث نتيجة لحرب كيماوية، أو بيولوجية؛ حيث تزامن ظهوره مع أحداث الحرب العالمية الأولى، لكن الحقيقة أن المسؤول عن حصد أرواح كل هؤلاء الضحايا كان فيروس الأنفلونزا الإسبانية الذي كان الصحافيون الإسبان أول من تحدثوا عنه، وظل جاثماً على صدر البشرية مدة عامين، ثم بدأ يتوارى تدريجياً إلى انتهى تماماً بعد عامين من ظهوره، وقد تعدى عدد ضحاياه في مصر وحدها نحو 180 ألف نفس.
وقام أبو الغار بدراسة الوثائق التفصيلية والمعلومات المتوفرة في الصحف، كما عاد إلى الدراسات الاقتصادية التي ظهرت عن أحوال المصريين في فترة الحرب العالمية الأولى، وتابع حكاية تجنيد الفلاحين في الفيلق العمالي، وارتفاع الأسعار وقت المرض، وعلاقة ذلك بتدهور الصحة العامة لكثير من المصريين، وثورتهم قبل 100 عام، وكذلك دراسة ما حدث بعد انتهاء الوباء، ولفت إلى أن ذكراه المؤلمة ظلت محفورة في ذهن البشر لسنوات طويلة، وظل العلماء يفكرون فيه، ويحاولون معرفة أسبابه، وطرق محاصرته حال ظهوره مرة أخرى في المستقبل، وكان من بين تلك الوثائق التي عثر عليها المؤلف دراسات علمية أوضحت كيف اكتشف العلماء بعد عشرات السنين فيروس الأنفلونزا الإسبانية، ونوعه، وتركيبته، وكيف تمت دراسته. كما حاول المؤلف معرفة أسباب عودة الوباء بشدة مرة أخرى في 2020. ولماذا لم يستطع العلم الحديث تجنب كارثة حدوثه مرة أخرى، وذلك رغم وجود استعدادات كبرى، رأى المؤلف أنها لم تفعّل، وبالتالي لم يتوقف المرض.



الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم