«مفكّرة عابِر حُدود»... شهادة شخصية حول أوضاع المهاجرين

الكاتب الألباني گازْميند كابْلاني يصدر ترجمة عربية لكتابه بعد ترجمتين إنجليزية وفرنسية

لاجئون تحت رحمة البحر
لاجئون تحت رحمة البحر
TT

«مفكّرة عابِر حُدود»... شهادة شخصية حول أوضاع المهاجرين

لاجئون تحت رحمة البحر
لاجئون تحت رحمة البحر

ضمن «ضَفيرَة» تجْمَعُ بين المحْكِي السّردي والمقال التأمّلي، يُقدِّم الكاتب الألباني گازْميند كابْلاني، في «مفكّرة عابِر حُدود... سجلّ وقائِع العُبور»، وقائعَ حَيّة من تجربتِه الشّخْصية وتجربة مُواطِنيه الألبان، الذين وجدوا أنفسَهم مضطرّين في لحظة ما من التاريخ المعاصر، إلى خوض هجرة جماعيّة خارج الحدود.
في ترجمته العربية للكتاب، التي تصدر قريباً عن دار «أثر» للنشر والتوزيع، يوسع المترجم المغربي أحمد الويزي من التجربة التي يتناولها مضمون كتاب كابْلاني لتشمل الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، بإهداء عمله «إلى جَميعِ مُهاجِري هذهِ الأمّة ومُهَجّريها، الّذين تحامتهمْ دوائرُ الأَوْطانِ القاسِيَّة، وأبعدتهم قسْراً خارجَ الحُدود؛ أُهْدي هذه الترْجَمَة».
فضلاً عن إهداء المترجم وتوطئة الكتاب وخاتمته، نكون مع 28 نصاً، تتوزع الكتاب بعناوين «لماذا تروي كلّ هذا؟»، و«أن تغادر الوطن معناه أن تقطع للصّلة مع ذاتك»، و«المهاجر والأمر المفروض تحت شعار: (يجب)»، و«بطل مثيرٌ للضّحك، تقريباً!»، و«لو كنتَ سائحاً!»، و«اجتياز الحدود سرّاً، مرّة وثانية وأخريات!»، و«سنتان على الحدود!»، و«أيام هادئة من شهر أغسطس»، و«جنس الحدود»، و«لا أحد طلب منك المجيء»، و«عاداتُ المهاجرِ السرّي الغريبة»، و«بوابة السّوق الممتازة»، و«الشغل والشغل ثمّ الشغل»، وغيرها.
ولأنّ الكتابَ يمثل «شهادة حيّة وصَكّ اتّهامٍ لأنْظِمَة كثيرة في الغرب والشّرق معاً»، فقد تلقّتْهُ، كما نقرأ على ظهر غلافه، الصحافة الأدبيّة بكثير من الإشادَة والتنويه، وقال عنه العديدُ من المُتتبّعين، منذ أنْ صدرت طبعته الفرنسيّة والإنجليزيّة، إنه «كتاب فريد من نوعه، يجمع بين مشاعر حسّاسة، ومواقف نقدية لاذعة أيضاً، لكنّه ينفصل عنها ليغوص في سرد سائغ» (لوموند)، يقودنا كاتبه في اتجاه حدودنا الخاصّة فيما «يرجّ الأفكار التي كوّناها عن أوروبا القرن الـ21 وعن الثمن الذي يضطر البعض منّا لتأديته، لأجل أن يعيش فيها» (الغارديان)، مازجاً بين عبث جورج مايكس في كتابه «كيف لا أكون إنجليزياً» وقوّة التأمل الفلسفي في كتابات ميلان كوينديرا (الإندبنْدنْت)، مقترحاً «مذكّرات شيّقة وذكيّة وباعثة على الضّحك، لكونها كُتِبَت حول الوضع الذي يعيشه المهاجر في كل مكان وزمان» (الناقدة ليزا أبينيانيزي)، يقوم فيه كاتبه بـ«تشريح وضعية المهاجر»، فيقدّم لنا من خلال ذلك، «صورتنا التي تعكسها المِرآة: وهي صورة ليست جميلة، بالكل!» (صحيفة لو ماتريكيل دي أونج).
يخبرنا الكاتب بأن علاقته «الإشكاليّة» مع الحدود، «بدأت منذُ وقتٍ جدّ مبكّر، منذُ فترة الشّباب»؛ ذلك لأنّ «الإصابة بمتلازمة الحدود من عدم الإصابة بها، إنّما تؤول في جزءٍ كبيرٍ منها إلى مسألة الحظِّ وحسب، ما دام أنَّ كلَّ شيءٍ يتوقّف على البلد الذي يولد فيه المرء وحسب، والحال أنّي وُلدتُ في ألبانيا!».
ثم تنتهي الحكاية «على نحو مباغت»، إذ بينما «أغلبُ حكاياتِ الحدود لا تجد لها في العادة نهاية، سواء منها تلك الحدود المرئيّة الفظيعة التي تُفرَض بسلطة الأنظمة الشموليّة، أو المخاتلة وغير المرئيّة التي نستبْطنُها، حين يُفرضُ علينا العيش ببلاد المهجر». فيما يخبرنا الكاتب بأنه يحلم بـ«عالم لا يصبح فيه أي غريب ولا نازح»، قبل أن يستدرك، مخاطباً قارئه، بالقول: «لكن، لا ينبغي أن تسيءَ الظنّ بما أقوله؛ فأنا أحبّ السّفر بكثرة، مثل أغلب الذين يعانون من متلازمة الحدود. إلا أنّك إذا لم تخرج قطّ من جلدتك، من جسدك ويأسك، فلن تُمكّن نفسَك أبداً من هذه المتلازمة. غير أنّي أريد من هؤلاء الذين يسافرون، أن يكونوا زوّاراً حقيقيين، أن يكونوا مسكونين بحبّ المعرفة، وبوهيميين نوعاً ما، سواء أكانوا سيّاحاً أو طلبةً أو مجرد ناس عاديين. أريدهم أن يضربوا في الأرض على شاكلة مَن ضلّ السّبيل، بحثاً عن فردوس ما، أو للعثور بالصّدفة عن إيطاكاه (إيطاكا جزيرة يونانية صغيرة اعتمدها هوميروس في «الأوديسا»). أودّ لو أنّ لا أحد يُجبَر كُرْهاً على السّفر، مثلما اضطرّ إليه من قبل الألمانُ والآيرلنديون والإيطاليون واليونانيون، ومثلما يضطرّ إليه اليومَ الألبان والأفغان والإيرانيون والصّوماليون والمكسيكيّون والعرب، وكثيرون غيرهم؛ لأنّ المرء حين يكون مهاجراً نازحاً عن وطنه، يعني أنّه يعيش تحديداً، وضعَ الهشاشة والضعف الكبيريْن. وهذا العالم لا يُكنّ للضّعفاء أي احترام. إنّهم يصبحون موضوعَ شكاوى وسباب، وليس موضوعَ تقدير واحترام أبداً».

مقتطفات من الكتاب

لستُ مولعاً بالحدود. وحتى أكون واضحاً وصريحاً بما يكفي، أضيفُ بأنّي لا أكرهُها أيضاً. أنا أتوجّسُ خيفة من الاضْطرابِ الّذي يتملّكني بسببها وحسب، كلّما وجَدْتُني معَها وجهاً لوجْه. أمّا الحدودُ التي أتحدَّثُ عنها هنا، فهي أولاً المرْئيّة: بمعنى تلكَ الأطرافُ الجغرافيّة الفاصِلة بين البلدان والدّول. وإذا صار عبورُ هذه التخوم شأناً مُتيسّراً لي اليوم على نحْوٍ جدّ كبيرٍ، فإنّي ما زلتُ إلى الآن أشعُرُ حيالَها مع ذلك بإحساسٍ غريبٍ، كلّما وجدت نفسي أعبر منها واحدة؛ وهو الإحساسُ الذي يتَضافرُ فيه الشّعورُ بالخَلاص، بمزيجٍ من التضايُق. وقد يَؤولُ هذا ربّما إلى طبيعة الجواز الّذي بحوْزَتي، إذْ تعوّدتُ على أنْ تنظُرَ إليَّ الحدودُ منذ ذلك حين سابق، رغم ما حصَل لي بعده، نظرة شكٍّ وارتيابٍ؛ فأرتجف حين ألمحها، ثمّ أُعجّلُ بالعبور، لشعوري بأنّها ما تنفكُّ تقْدَحُني دوماً بنظرة عدائيّة مريبة. ومهما صنعتُ، ومهما بذلتُ ما بوسعي كلّه لأُطَمْئنَها، وأُقْنعَها بألاَّ تخشى منّي أي شيءٍ، إلاّ أنّها تجدُ دوْماً مبرّراً للضّغط عليّ، أو لتتجنّب على الأقلّ التعاملَ معي تعاملَ الندِّ للندّ. لذا، لم أجدْ أي صعوبة في وَسْم العلّة التي أُعاني منها منذُ فترة طويلة، باسم: مُتلازمة الحُدود. بعْد سنواتِ عُزْلة طويلَة، بقيَتْ أثناءَها ألبانيا ترْزحُ تحْتَ نَيْر نِظامٍ شّمولي قاهِر، ينْهارُ جدارُ بِرْلينَ بغتة، فيجِدُ كثيرٌ من الشّبابِ والكُهولِ أنفسَهم يخوضون رحلة اجتياحٍ غريبَة للحُدود، التي ظلّت إلى عهد قريبٍ تخوماً محظورة على الجميع تفْصِلُ الدّاخل عن العالم الخارجي، وتجعل من البلاد مجرد قلْعَة اعتقالٍ رهيبَة. ولأنّ الألبانَ لم يكونوا يعرفون أي شيءٍ عن «الغرب» القريب منهم، وإنّما ظلّ أملُهم مُنشدّاً فقط، وهم يندفعون نحو اليونان، إلى أرض هُلامِيّة تَصَوّروها فردوساً يطْفح بمظاهر النّعيمِ والرّفاه ورغَد العيش، إلى جانب ما يثير الغرائز والشّهوات، ويحفّز العديدين على خَوْض المخاطرة بجسارة؛ فإنّ الجميعَ عاشَ صدمة اللّقاء المفْجِع، لأنّ الأرض الموْعودَة لم تستقبل مَن نجا من هؤلاء، الاستقبالَ الذي شدّ ما حلمتْ به مخيلاتُهم السّاذجة. ففي الغرب، لم يجد أي ألباني نازحٍ النّساءَ بتَنّوراتٍ قصيرة ينتظِرْنَه، ليطبَعْن على خدّهِ قُبلاتِ النّصر، ويتوّجْنَه بطلاً على رأسه يوضعُ إكليلُ الغار. كما لم يجد أي ألباني نازحٍ أعْيانَ المدينة، يَشُدّون على يدِه، ويقولون في حقّه كلمة فيها تنْويهٌ وتشْريفٌ واعْتراف. لا أثر لأي شيْءٍ على الضِّفَة الغربيّة سوى جنودٍ، ورجالِ أمْن بهراوات ووجوه متجهّمة قاسية، وأغْيَار بأفواه يَرْطِنون بكلام غير مفهوم، إلى جانب بَرْد يُجمّد العِظام، وجوعٍ يفْتِكُ بالبُطون.
لكن، لا ينبغي أن تسيءَ الظنّ بما أقوله؛ فأنا أحبّ السّفر بكثرة، مثل أغلب الذين يعانون من متلازمة الحدود. إلا أنّك إذا لم تخرج قطّ من جلدتك، من جسدك ويأسك، فلن تُمكّن نفسَك أبداً من هذه المتلازمة. غير أنّي أريد من هؤلاء الذين يسافرون، أن يكونوا زوّاراً حقيقيين، أن يكونوا مسكونين بحبّ المعرفة، وبوهيميين نوعاً ما، سواء أكانوا سيّاحاً أو طلبة أو مجرد ناس عاديين. أريدهم أن يضربوا في الأرض على شاكلة مَن ضلّ السّبيل، بحثاً عن فردوس ما، أو للعثور بالصّدفة عن إيطاكاه (إيطاكا جزيرة يونانية صغيرة اعتمدها هوميروس في «الأوديسا»). أودّ لو أنّ لا أحد يُجبَر كُرْها على السّفر، مثلما اضطرّ إليه من قبل الألمانُ والآيرلنديون والإيطاليون واليونانيون، ومثلما يضطرّ إليه اليومَ الألبان والأفغان والإيرانيون والصّوماليون والمكسيكيّون والعرب، وكثيرون غيرهم؛ لأنّ المرء حين يكون مهاجراً نازحاً عن وطنه، يعني أنّه يعيش تحديداً، وضعَ الهشاشة والضعف الكبيريْن. وهذا العالم لا يُكنّ للضّعفاء أي احترام. إنّهم يصبحون موضوعَ شكاوى وسباب، وليس موضوعَ تقدير واحترام أبداً».



سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي
TT

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

صدر عن دار «نوفل - هاشيت أنطوان» كتاب «موجَز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَيْن» للكاتب والسياسي العراقي الكردي سردار عبد الله. في هذا الكتاب، الذي نال تنويهاً من جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلات، يحاول سردار عبد الله، من خلال رحلتين قام بهما في عام 2018 إلى الهند، ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي.

هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً في منتصف القرن التاسع عشر، أسهمت تلك السنة في تعزيز دور الشيخ لإحداث تغييرات بعد عودته؛ إذ تبنى الطريقة النقشبندية التي باتت تسمى فيما بعد باسمه «النقشبندية الخالدية». تقودنا هذه الرحلة إلى أحداث تاريخية مهمة حينها مثل سقوط ولاية بغداد والطريقة الصوفية البكتاشية. فكانت طريقته الصوفية بمثابة البديل الروحي أولاً؛ ما أحدث تحولاً كبيراً في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين.

اتخذ الكاتب قراراً جازماً بألا يعود من الهند ما لم يعثر على ذلك المكان المجهول، غير أنه في رحلة بحثه تلك، يخوض في التاريخ تارة وفي العجائب والطرائف التي يصادفها في تلك البلاد تارة أخرى.

«كيف لنملةٍ أن تطارد نسراً؟»، يتساءل الكاتب، كيف لمريدٍ أن يقتفيَ آثارَ شيخٍ حملَ الشريعةَ على جناحٍ والحقيقةَ على آخر، وجابَ بهما أصقاع الدنيا مُحلِّقاً؟

في هذه الرحلة الممتعة في الزمان والمكان والروح، يُشاركُ الكاتب قرّاءَه تفاصيلَ رحلتَيْه إلى الهند عام 2018؛ بحثاً عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي. هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً خلال بدايات القرن التاسع عشر، عاد من بَعدِه إلى كردستان وبغداد والشام، يحملُ طريقةً أحدثتْ تحوّلاً كبيراً في المنطقة، في فترةٍ مهمّةٍ تاريخيّاً شهدتْ سقوط ولاية بغداد، وسقوطَ الإمارات الكُرديّة؛ ما خلق فراغاً رهيباً في السلطة.

في كتابه، الذي يقع في 216 صفحة، يتساءل سردار عبد الله ثانية: «لماذا يثور مَن تتلمذ على يد الشيخ النقشبندي، بدءاً بالشيخ النهري في كردستان وصولاً إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ضدّ المحتلّين؟»، فتأخذ الرحلة بُعداً أعمق...

ويكتشف كاتبُنا. فبعدما اتخذ قراراً جازماً بألّا يعود من الهند ما لم يعثر على المقام المنشود، سيعثر المُريد على كنوز المعرفة ودُرَرِ المشاهَدات وهو في طريقه إلى الوجهة الأساسيّة.

وسردار عبد الله - كاتبٌ وسياسيّ كرديّ ومرشَّحٌ سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلّاتٍ وصحفٍ كرديّةٍ عدّة، بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكرديّة. له إصدارات عدّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة. «موجز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَين» هو كتابه الثاني الصادر عن «دار نوفل» بعد روايته «آتيلا آخر العشّاق» (2019).