تحولت الأيام إلى اللون الرمادي، بينما يبدو المستقبل متشحاً بالسواد، وجميعنا نرى ما حولنا مغطى باللون الأحمر في الوقت الذي تجثم على نفوسنا مشاعر الكآبة. من يدري، ربما كانت الألوان الفردية هي ما يصيبنا بالإحباط، وكل ما علينا فعله لتجاوز ذلك النظر إلى طيف الألوان بأكمله.
وتحت عنوان «طبيعة اللون»، جرى طرح جميع أطياف الألوان الموجودة على كوكب الأرض في معرض متعدد الألوان داخل المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي بنيويورك ناول قضايا تتعلق بكيمياء وفيزياء وثقافة الأطياف الواضحة للألوان. كان هذا المعرض قد افتتح أبوابه في مارس (آذار)، لكن سرعان ما أغلق من جديد، بجانب جميع المعارض الأخرى المرتبطة بالمتاحف على مستوى المدينة. وكان من شأن القيود الصحية التي كانت ضرورية لإعادة فتح المعارض، إزالة العديد من المعروضات التفاعلية والتخلص من الشاشات التي تعمل باللمس، وكذلك الألعاب والأحاجي.
ويوفر المعرض للزائرين، من كبار وصغار، لكنه يستهدف الصغار على وجه الخصوص، رؤية واسعة النطاق للون باعتباره ظاهرة علمية وثقافية.
تبدأ الدروس النيوتونية الموجهة إلى الأطفال في معرض يحمل اسم «طبيعة اللون»، وهو مجهز بمجموعتين من المصابيح المتذبذبة، تتميز واحدة باللون الأبيض والأخرى باللون الأصفر. وعندما تضيء المجموعة الصفراء، فإنها تجعل كل شيء في الغرفة يبدو رمادياً، إلا إذا كنت ترتدي معطف مطر أصفر اللون. أما عندما يجري تشغيل مجموعة المصابيح البيضاء، فإن كل شيء من حولها يبدو طبيعياً، مما يعتبر دليلاً على أن اللون الأبيض يمثل مجموع جميع الألوان. وفي وقت لاحق من العرض، يمكن للأطفال التراقص أمام أشعة من الضوء الملون، ويمكنهم كذلك استكشاف أسرار مزج ألوان إضافية، بجانب أنهم لا بد أن يقعوا في غرام ظلالهم متعددة الألوان.
جدير بالذكر في هذا الصدد أننا نحن البشر لدينا رؤية ثلاثية الألوان للعالم، مع تقسيم الألوان بوجه عام ما بين الأحمر والأخضر والأزرق. أما الكائنات الأخرى فلديها منظورات أخرى تجاه اللون، فعلى سبيل المثال بمقدور النحل وحيوان الرنة رؤية الأطوال الموجية فوق البنفسجية. ومن منظور التطور، يمكن القول إن الألوان مكنتنا من إيجاد الحب والعثور على الطعام، وكذلك ساعدتنا على تجنب أن نتحول إلى وجبة غذاء لكائن آخر. تجدر الإشارة إلى أن طائر لوركيت قوس قزح، الذي يعيش في الفلبين وغينيا الجديدة، يتميز بريش ملون جزئياً على صدره (يستخدمه في اجتذاب رفيقة له)، بينما يحمل ريش الذيل اللون الأخضر الداكن (ما يساعده على الامتزاج مع الأشجار).
ومن بين الكائنات الأخرى التي تستخدم اللون في اجتذاب الجنس الآخر، السحلية ذات الحلق المروحي والذي يمتزج فيه اللونان الأزرق والبرتقالي، وسمك سيامي الشرس، الذي يتلألأ بلون برتقالي قوي. أما فيما يخص أطياف لون بشرة بني جنسنا، فإنها تظهر بجلاء في صورة للمصورة البرازيلية أنجليكا داس، وتضم بشراً من جميع «الأعراق»، مصنفين تبعاً للغة لونية كونية واحدة: لوحة ألوان «بانتون».
في الواقع، التقطت صورة «سيلفي» لنفسي ووضعتها على برنامج «فوتوشوب» لقياس درجة لون جلدي بالبكسل. وحتى تحت الإضاءة، بدت بشرتي «البيضاء» بدرجة 481 بانتون.
من ناحية أخرى، تكشف استطلاعات الرأي مرة بعد أخرى أن الأزرق اللون المفضل لدى البشر. الملاحظ كذلك أنه على مدار قرون من تاريخ الفن الغربي، كان الأزرق اللون الأكثر ارتفاعاً في تكلفته، خاصة أنه كان يجري إنتاجه من نوع نادر من اللازورد.
فيما مضى، كان يمكنك رسم صورة السيدة مريم العذراء وهي ترتدي اللون الأزرق الغالي كعلامة للتعبير عن إخلاصك وتفانيك الديني. في المقابل، فإنك إذا فعلت هذا اليوم، فإن الأمر قد ينتهي بك لمواجهة اتهام بدعم تنظيم إرهابي، نظراً لأن اللازورد يأتي بصورة أساسية من مناجم في أفغانستان، يخضع الكثير منها لسيطرة تنظيم «طالبان».
واستمرت ندرة اللون الأزرق حتى أوائل القرن الثامن عشر، عندما لوثت مطحنة ألوان ألمانية عن طريق الخطأ دفعة من اللون الأحمر ببعض الزيت، وانتهى الأمر بها إلى لون أزرق غني أطلق عليه اللون الأزرق البروسي. وكانت هذه أول صبغة اصطناعية رخيصة يعرفها العالم على الإطلاق، وكان لها الفضل وراء انطلاق ما عرف باسم «الحمى الزرقاء» التي وصلت حتى اليابان، حيث استخدم الفنان «هوكوساي» وعدد من شركات الطباعة هذا اللون المستورد النادر.
وإذا كان الأزرق اللون الأعلى قيمة، فإن الأحمر يعتبر اللون الأقدم. ويظهر استخدام ما يعرف بـ«طين المغرة» في رسومات الكهوف التي عثر عليها في جنوب أفريقيا وتعود إلى 73 ألف عام ماضية. ويمكننا القول بثقة إن الأحمر اللون صاحب القدر الأكبر من التنوع من حيث المعاني الثقافية المرتبطة به من بين جميع الألوان، ذلك أنه يرمز إلى الحب وكذلك الغضب، والثروة وكذلك الجرح. وخلال العصور الوسطى، ساد اعتقاد في أوروبا بأن اللون الأحمر بإمكانه درء الجدري. وحرص الملك تشارلز الخامس، ملك فرنسا، على ارتداء قمصان قرمزية اللون عندما أصابه الفيروس.
بجانب ذلك، يرمز الأحمر إلى اليسار السياسي، فيما عدا داخل الولايات المتحدة ـ وحتى هنا، لم يجر ربط الحزب الجمهوري بما عرف بـ«الولايات الحمراء» سوى منذ الانتخابات الرئاسية عام 2000. كما أنه من السيء للغاية أن تكون الأسهم التي تملكها باللون الأحمر، إلا إذا كنت في الصين أو اليابان، حيث يعني اللون الأحمر أن السعر ارتفع.
والآن، هل اللون شيء عالمي أم خاص؟ هل هو أمر يتعلق بالطبيعة أم بالثقافة؟ على سبيل المثال، في أوروبا كان لا يسمح سوى للنبلاء من أبناء الطبقة العليا بارتداء ملابس باللون الأرجواني. وجرت العادة على ارتداء اللون الأبيض في الجنازات البوذية والأعراس المسيحية. وباستطاعة الأطفال استكشاف المعاني الثقافية للألوان من خلال معرض ألعاب تفاعلية هنا، يحمل عنوان «كل ما تود معرفته عن أطياف الألوان»، ويضم كتلة طلاء ضخمة، ويمكن للأطفال ممارسة هذه اللعبة عبر الهواتف الذكية.
جدير بالذكر أن هوميروس في كل من «الإلياذة» و«الأوديسة»، وصف مراراً بحر إيجة بأنه «داكن على نحو يشبه النبيذ»، رغم أنه لا يبدو كذلك للمصطافين في جزر رودس أو بودروم. وفي لغة شعب كاراجا في وسط البرازيل، فإن كلمة مفردة يمكن أن تشير لما يعرفه المتحدثون باللغة الإنجليزية على أنه أزرق أو أصفر أو أخضر. ويستخدم الرجال والنساء أسماء مختلفة في الإشارة إلى الألوان. ويقال إن شعب وارلبيري في شمال أستراليا ليس لديهم كلمات تعبر عن الألوان من الأساس، لكنهم بدلاً عن ذلك يصفون الظواهر اللونية داخل مساحة متعددة الألوان من التقزح اللوني أو الحجم.
من جانبي، فإن وظيفتي تدور حول الكتابة عن الصور باللغة الإنجليزية. ومع أن مخاريط عيني ليست حساسة بشكل خاص، بالطريقة التي قد يكون بها أنف صانع العطور، مثلاً، فإنه على مر السنين كان علي تكوين مفردات ألوان واسعة: قطيفة، غامبوج، فالو أحمر، تيفاني أزرق. وألجأ إلى استخدام هذه الكلمات لأنني أحاول التقاط بعض الصفات الموضوعية من التدرج والخفة والتشبع - لكن الألوان التي أراها قد تكون انطباعاً ذاتياً فحسب. وماذا عن الكلب الذي يستطيع التمييز بين الأزرق والأصفر وليس الأحمر عن الأخضر، أو القرش الذي لا يدرك أي لون على الإطلاق؟
*خدمة «نيويورك تايمز»