بعد أن طوى الاتحاد الأوروبي صفحة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بأكبر هزّتين تعرّض لهما منذ تأسيسه: جائحة كوفيد - 19 وأول انشقاق في صفوفه بعد خروج المملكة المتحدة التي كانت قد انضمّت إلى النادي الأوروبي في أول توسعة له عام 1973، يعتقد خبراء هيئة التخطيط الاستراتيجي التي تحدد الإطار العام لنشاط الاتحاد والأهداف الرئيسية لمؤسساته أن المشاريع والخطوات الكبرى التي أنجزها الاتحاد، مثل صندوق النهوض من الأزمة الاقتصادية وحملة التلقيح الأوروبية والاتفاق التجاري مع الصين، توفّر قاعدة وطيدة لمواجهة المرحلة المقبلة وخطوة كبيرة متقدمة نحو تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية المنشودة منذ عقود.
يعترف المخططون الاستراتيجيون لسياسة الاتحاد بفداحة الخسارة التي نجمت عن خروج قوة تجارية ودبلوماسية مثل المملكة المتحدة من صفوف النادي الأوروبي، لكنهم يشيرون في الوقت ذاته إلى أن هذا الخروج قد أزال من طريق الاتحاد العقبة الرئيسية التي كانت تعترض تكامله السياسي والاقتصادي، ويؤكدون أن الموافقة على صندوق النهوض من الأزمة الاقتصادية بهذا الحجم غير المسبوق كانت مستحيلة بوجود المملكة المتحدة على طاولة المفاوضات. وبعد عقود من الانقسامات المتوطنة بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، تحوّلت مفاوضات «بريكست» إلى ما يشبه الصمغ القوي الذي أعاد اللحمة إلى صفوف الدول الأعضاء، كما يقول النائب السابق لرئيس المفوضية خواكين آلمونيا مؤكداً: «خروج المملكة المتحدة حرّر الاتحاد الأوروبي من قيد كان يجرّه ويعيق تطوره منذ عقود، وفتح الباب أمام الدول الأعضاء متراصّة لتفعيل مشروع الوحدة الجيوستراتيجية التي كانت بريطانيا تشكّل العقبة الرئيسية في طريق تحقيقها».
وكان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال قد صرّح في مقابلة صحافية مطلع الأسبوع الجاري بقوله: «الاتحاد الأوروبي بات اليوم مصمماً على التقدّم بخطوات ثابتة نحو تحقيق استقلاليته الاستراتيجية، أي قدرته على اتخاذ قراراته الذاتية الكبرى، بعد أن نام طويلاً في حمى المظلّة الأميركية». وبعد أن أبرم الاتحاد الأوروبي مع الصين الاتفاقية الكبرى للاستثمار قبل جلوس الرئيس الأميركي الجديد جو بادين الذي كان فريقه قد طلب من الأوروبيين التريّث بعض الوقت، قال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل: «سبق أن كانت الموافقة على صندوق النهوض من الأزمة الاقتصادية دليلاً على هذه القفزة النوعية للاتحاد ومفاجأة لكثيرين خارج الاتحاد، كما أن الاتفاقية الموقعة مع الصين هي أيضاً خطوة كبيرة في الاتجاه نفسه».
ويقول مصدر مسؤول في الهيئة الأوروبية للتخطيط الاستراتيجي إن رهان الاتحاد على الانفتاح الصيني لا يمكن أن يكون على حساب العلاقة المميزة مع الولايات المتحدة، التي اهتزّت بشكل غير مسبوق خلال ولاية دونالد ترمب، ويؤكد أن المفوضية الأوروبية على اتصال مستمّر مع الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي الجديد منذ غداة انتخابه. ويضيف المصدر أن الهدف الرئيسي من هذه الاتصالات هو الاتفاق على جدول أعمال أوروبي - أميركي مشترك لإحياء النظام الدولي المتعدد الأطراف الذي أصيب بانتكاسات كبرى نتيجة سياسات إدارة ترمب التي شلّت نشاط منظمة التجارة العالمية وقررت الانسحاب من منظمة الصحة التي وعد بايدن بأن تكون العودة إليها أول قراراته. ويرى المفوّض السابق للشؤون الاقتصادية، والمستشار الحالي لهيئة التخطيط الاستراتيجي بيار موسكوفيتشي، أن جائحة كوفيد - 19 تقتضي هي أيضاً بالإسراع في تحقيق هذه الاستقلالية الاستراتيجية، ويقول: «لا بد للاتحاد الأوروبي من بناء اقتصاد جديد قادر على مواجهة التحديات الكبرى المقبلة من غير الارتهان للواردات الصينية في بعض القطاعات الحيوية أو الاعتماد على القدرات الأميركية لإنتاج كميات كبيرة من اللقاحات والأدوية». ويضيف: «إن نجاح خطة النهوض من الأزمة الاقتصادية التي نشأت عن جائحة كوفيد - 19 هو الذي سيحدّد في المستقبل اتساع الهوّة بين بلدان الجنوب وبلدان الشمال داخل الاتحاد الأوروبي، وعليه يتوقّف تكامل السوق الداخلية الموحّدة. ومن هذا المنطلق، ليست خطط الإعمار هي نهاية الحكاية، بل بدايتها». وتجدر الإشارة إلى أن التقرير الأخير الذي صدر عن الهيئة الأوروبية للتخطيط الاستراتيجي يعتبر أن صندوق الإنقاذ من تداعيات جائحة كوفيد - 19، على أهميته وحجمه غير المسبوق، قد لا يكفي في ضوء نتائج الدراسات الأخيرة التي تشير إلى انفجار قريب في أعداد العاطلين عن العمل واتساع رقعة الفقر في البلدان الأوروبية بسبب من تدابير العزل المرافقة لمكافحة الوباء. ويشدّد التقرير في توصياته التي ترفع إلى المفوضية على ضرورة افتراض الروح التضامنية التي سادت في مواجهة الجائحة وأتاحت الاتفاق على صندوق الإنعاش، مؤكداً على أن إحدى المهام الرئيسية للاتحاد الأوروبي في السنوات المقبلة ستكون تضييق الفجوة الإنمائية بين الدول الأعضاء وعليها يتوقف أيضاً رسوخه وصموده في وجه الأزمات المقبلة. ويذكر أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين كانت قد شدّدت في تقريرها الختامي نهاية السنة الماضية على أن النهوض من تداعيات الجائحة يمرّ حتماً عبر تحديث جميع القطاعات، وبخاصة قطاع الطاقة حيث يقود الاتحاد الأوروبي المعركة العالمية ضد تغيّر المناخ ويتصدّر الأسرة الدولية في مجال السياسات البيئية، وعلى تسخير الموارد والطاقات اللازمة لعدم التخلّف عن ركب التطورات التكنولوجية التي عزّزت جائحة كوفيد - 19 تفوّق الصين والولايات المتحدة فيها.
خروج بريطانيا من النادي الأوروبي... نقمة أم نعمة؟
خروج بريطانيا من النادي الأوروبي... نقمة أم نعمة؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة