إبداعات غربية تتوجها دايفيز ومكدورمند وأخريات

رغم الظروف القاهرة التي عرقلت مساعي الأفلام السينمائية من الوصول إلى جمهورها عبر المهرجانات والعروض التجارية معاً، فإن الوضع تبلور، كما الحال في كل عام، عن مواهب في الأداء، الرجالي والنسائي، لا يمكن غض النظر عنها. الحال أن الأداءات الجيدة من الإناث والذكور كثيرة بحيث لا يمكن إتاحة مجال كاف للممثلين من الجنسين في تحقيق واحد. عليه فإن التالي هو استعراض لأفضل تمثيل نسائي خلال العام الذي نشهد مضيّه بعد مشاق. وعلى التمثيل الرجالي أن يأتي في الأسبوع الأول من السنة الجديدة.

لا تميّز
يستقي الناقد أفلامه من العروض الفعلية والافتراضية التي شاهدها هذه السنة، ويمكن له أن يلحظ، في تحليق يطير به فوق ما شاهده من أفلام (شرط أن تكون شاملة وغزيرة) أن أفلام 2020 لم تخل من الأداءات النسائية المتميّزة.
من هذه الزاوية فإن ما شاهده هذا الناقد من أفلام عربية لا يوفر أكثر من مثالين أو ثلاثة من حسن الأداء النسائي في الوقت التي افتقرت السينما العربية (تبعاً لما شوهد من أفلامها) في مجال توفير بطولات نسائية كما الحال في العام الأسبق 2019 والأعوام السابقة له.
أبرز الأداءات ذات التميّز كان من نصيب المغربية خنساء بطمة عن دورها في «زنقة كونتاكت»، وهي استحقت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فينيسيا (في المسابقة الموازية) في خريف السنة.
والناقد لا يستطيع إغفال الممثلة هيام عبّاس في «غزة حبي»، تعكس صدقاً وبساطة ظاهرية تخفي مشاعر قويّة تحت ملامحها لكن الفيلم ليس عنها، بل عن بطله سليم ضو في دور العاشق الذي يمنعه خجله من البوح بحبه.
بدورها، لم تشهد السينما المصرية أفلاماً فنية التوجه يمكن البحث في أرجائها عن أداءات خاصّة. الممثلات اللواتي شاركن فيما توفر من أفلام لعبن الأدوار التي لا يزيد عمق مفاداتها وعواطفها عن سنتم واحد. من بينهن دينا الشربيني في «البعض لا يذهب للمأذون مرتين» (يكاد المرء يعرف فحواه من عنوانه) وهيفاء وهبي في «أشباح أوروبا» وبسمة وناهد السباعي في «ماكو» وياسمين رئيس في «لص بغداد» كما منى زكي في «العنكبوت».
مع مثل هذه الأفلام التي لا تتوخى إلا لمداعبة الجمهور فإنه لا مجال لتميّز ممثلة عن أخرى إلا بملامح وجهها وطريقة تجسيدها للشخصية التي تُكتب لها كما لسواها.

أزمات عاطفية
من حسن الحظ أن الوضع ليس بهذا القدر من السوء عالمياً. واستعادة ما تمت مشاهدته من أفلام خلال 2020 تكشف عن أكثر من عشر ممثلات غرزن أصابعهن عميقاً في شخصياتهن.
ماريسا توماي كانت رائعة في دورها الكوميدي كامرأة تقف وسط نزاع ابنها مع صديقها في «ملك الجزيرة المسروقة». الفيلم لا يعدو واحداً من أعمال المخرج جيد أباتوف الضحلة كقيمة، لكنها برعت في توفير هذا الوضع وكانت السبب الوحيد لمشاهدة الفيلم.
في المواقف الصعبة إنما ضمن أفلام جادّة نجد ديانا لين تجسد الأسى الذي يمكن أن يصيب زوجة تجد حفيدها الصغير غير قادر على الدفاع عن نفسه بعدما تزوّجت أمه من رجل آخر بعد وفاة والده. هناك مزج اندفاع لمواجهة أكثر عنفاً، داخلياً، مما تتوقعه في البداية.
إنه الاندفاع صوب القرارات الصعبة ذاتها كما تمر بها ياسنا ديورتزيتش في فيلم ياسميلا زبانتش «كيو فاديس، عايدة» (بوسنيا). بطلة الفيلم مترجمة تعمل لحساب قوة للأمم المتحدة موجودة في محيط بلدة سربريتزا الحدودية خلال الحرب الأهلية اليوغوسلافية، وهي تشهد أولاً نزوح مئات المواطنين الساعين للاحتماء بمعسكر القوات الدولية، ثم فشلها في حماية زوجها وولديهما عندما يقتحم الصرب المعسكر ويقودون الرجال لإعدامهم.
أداء ياسنا حثيث ومندفع وعاطفي بالضرورة وجيد بالتجسيد. والأقرب إليه في اندفاعه العاطفي يكمن في أداء تيلدا سوينتن في الفيلم القصير «صوت إنساني» للمخرج الإسباني بدرو ألمودوفار.
كون الفيلم قصيراً (30 دقيقة) لا يعدو أكثر من مسألة دقائق عرض. ما تضعه سوينتن في هذا العمل مبهر في انفعالاته. هي أيضاً تبذل وتندفع وتؤدي دوراً عاطفياً (ولو في موضوع مختلف تماماً) لكن كل لقطة توفرها للكاميرا متجانسة كما لو أن المخرج التقطها في 30 دقيقة في لقطة واحدة. كون الفيلم كله حولها مسؤولية تعيها وتمنحها كل التجسيد الصحيح الممكن.
هذه المسؤولية تشعر بها كايت وينسلت بطلة «إيمونايت» الذي تقع أحداثه في العقد الرابع من القرن التاسع عشر لكن على مستوى مختلف. دورها في هذا الفيلم مُعقّد. هي زوجة رجل يعمل في الحفر الأثري تتعرّف في ذلك المكان النائي بزوجة رجل آخر في المجال نفسه وتتحابان. وينسلت تعرف أنها تنتقل مجدداً إلى متحف أعمالها الجادة بعد سنوات من العمل في أفلام لمجرد الوجود. وهي تتعمّق في الدور وتمنحه مفاتيح التعبير الخجولة والشغوفة معاً.

على عتبة الأوسكار
وفي سنة حفلت بأفلام عن الأفريقيات - الأميركيات اللواتي يواجهن أوضاعاً معيشية واقتصادية واجتماعية صعبة، تبرز فيولا ديفيز كممثلة جديرة بالإعجاب. من لم يُعجب بأدائها الممتاز في «لا تراجع» (Won‪’‬t Back Down) و«مضج جداً وقريب للغاية» (Etremely Loud and Incrdibly Close) و- على الأخص - «سياجات» (Fences) لديه فرصة لإعادة النظر منها في فيلمها الأخير Ma Rainey‪’‬s Black Bottom. دورها هنا تطلّب الكثير من شحنات الغضب الكامن عميقاً في الصدور. تلجأ إلى الشخصية بكل متطلباتها النفسية والعاطفية والبدنية وهي تواجه عراقيل المجتمع الأميركي في عشرينات أميركا الصعبة.‬‬
في أحد أفضل لحظاتها في هذا الفيلم لاعبة دور مغنية (الفيلم مستوحى عن أحداث حقيقية لمغنية بلوز) تقف أمام الجمهور وتقول في حدّة: «كل ما يطلبونه مني هو صوتي، لكني أريد أن أعامل كامرأة وعليهم معاملتي على هذا النحو حتى ولو آلمهم ذلك».
دورها هنا سيؤول بها إلى ترشيحات الأوسكار بلا ريب. هناك ستواجه ممثلة أخرى أجادت الدور التي لعبته هذا العام (2020) وهي فرنسيس مكدورمند. الواقع هو أن من سيواجه المشكلة ليست ديفيز وليس مكدورمند، بل أعضاء الأكاديمية الذين سيجدون أنهم منقسمون حول أداء قوّة في تجسيدها الأفضل لديفيز وآخر لا يقل إجادة في انفعالاته توفره مكدورمند تحت سطح بشرتها في «نومادلاند» (Nomadland)‪.‬‬
مكدورمند ممثلة جيدة، ولو أنها ليست على مستوى واحد من الإجادة في كل أعمالها. في «نومادلاند» تؤدي دور امرأة عاملة (توفي زوجها منذ سنوات) تقرر ركوب سيارتها المنزلية (Mobile Home) والذهاب غرباً صوب الصحارى والمناطق البعيدة عن المدن. تلتحق بمجتمع يشابهها في تجواله ومن خلالها نتعرّف على أميركا المتوارية بعيداً عن العناوين الكبيرة والأحداث المهيمنة.
البديع هنا هو أن المخرجة كلو زاو أرادت فيلماً روائياً مصنوعاً كما لو كان تسجيلياً. لتحقيق هذه الغاية كان عليها نيل تأكيد ممثلتها الأولى، مكدورمند، بأن تلغي الدراما من أدائها وتنضوي تحت سقف اللا - تمثيل. النتيجة مبهرة لكل من يعرف صعوبة ذلك بالنسبة لأي ممثل. القدر الكبير من صهر الانفعالات وكبتها.
زاو كانت حريصة على ألا تخرج مكدورمنذ عن منظومة اختارتها بعناية، خصوصاً أن معظم من حولها من الممثلين والممثلات لا باع لهم أمام الكاميرا ويؤدون أدوارهن تحت الشرط ذاته. لذا لم يكن من المسموح لمكدورمند تأدية دورها على نحو متميّز. كان عليها أن تلجأ لشخصيتها كما يلجأ الإنسان إلى حجرته في نهاية يوم شاق.