كلاسيكيات الأفلام الدينية

كتاب سينمائي مصري أهمل موجة الأفلام الجديدة متوقفا عند الستينات

من فيلم «ملك الملوك»
من فيلم «ملك الملوك»
TT

كلاسيكيات الأفلام الدينية

من فيلم «ملك الملوك»
من فيلم «ملك الملوك»

أصدر الباحث السينمائي سامح فتحي، على نفقته، كتاب «أنبياء في السينما العالمية»، الذي زينه بمجموعة كبيرة من الصور وملصقات الأفلام (الأفيشات) التي حصل على معظمها بمراسلة عدد من شركات السينما العالمية ودفع مقابلها مبالغ باهظة، ففتحي أيضا من هواة جمع الملصقات والصور القديمة.
يشمل الكتاب 14 فصلا، يتناول كل فصل فيلما واحدا من كلاسيكيات هوليوود الشهيرة، من الفيلم الصامت «ملك الملوك» (1927) وحتى فيلم «الكتاب المقدس» أو «في البدء» الذي عرض عام 1966. وقد بذل الباحث جهدا كبيرا في إعداد مادة الكتاب، سواء المعلومات الكثيرة عن كل فيلم، أو العرض التفصيلي لمشاهد الفيلم وأحداثه، ثم ملاحظاته على الجوانب الفنية في الفيلم، والتوقف بعد ذلك أمام علاقة الفيلم بما ورد في الكتب المقدسة، والمقارنة بينها.
إلا أن عنوان الكتاب يوحي بأننا سنقرأ كتابا عن كل الأفلام التي أظهرت الأنبياء في السينما، خصوصا السيد المسيح وسيدنا موسى وسيدنا نوح (عليهم السلام جميعا) وغيرهم، لكننا نجد أن اهتمام المؤلف ينصب فقط على مجموعة منتقاة من الأفلام الكلاسيكية القديمة التي تتوقف عند عام 1966، وكان حريا به في هذه الحالة أن يطلق عليه «كلاسيكيات الأفلام الدينية»، خاصة أنه لا يشمل ما ظهر حديثا من أفلام أثارت جدلا كبيرا حولها مثل «نوح» و«الخروج: آلهة وملوك» وغيرهما، وهي الأفلام الأكثر قربا من ذاكرة القارئ.
ويرجع المؤلف السبب في ظهور ما يطلق عليه «موجة الأفلام الدينية في الخمسينات والستينات» إلى الرغبة في «جعلها نبراسا وعظة للشباب بعد أن ظهرت الكثير من الموجات الإلحادية والسلوكيات الشاذة، والعلاقات الجنسية غير السوية، والأخلاقيات المنحرفة»، مما دفع صناع السينما في رأيه إلى محاولة «إعادة الشباب إلى النبع الذي من الممكن أن يستقوا منه العبرة والموعظة». وخلاصة هذا الرأي الذي يسهب فيه أن هوليوود الأميركية كانت مدفوعة بدوافع أخلاقية لمواجهة موجة من الإلحاد والانحراف الأخلاقي في الغرب، في حين أن هوليوود التي أنتجت كل هذه الأفلام التي يتضمنها الكتاب كان دافعها الأساسي، ولا يزال، هو تحقيق أكبر قدر من الإيرادات. وكانت هوليوود تواجه في الخمسينات والستينات تحديدا الانتشار الكبير للتلفزيون الذي هدد بإصابة صناعة السينما بالكساد، فلجأت إلى الإنتاج الضخم المبهر الذي يعتمد على المناظر الكبيرة والمجاميع الضخمة والمعارك الأسطورية ومشاهد المعجزات، في أفلام مصورة بالألوان وللشاشة العريضة (سكوب) لكي تبهر المتفرج وتعيده إلى دور السينما بعد أن كان الكثير من هذه قد أُغلق.
يقول دوغلاس غومري، في دراسته بعنوان «ظهور التلفزيون وجمهور السينما المفقود» (نشرت في جورنال الفيلم والفيديو - 1985)، إنه «مع نهاية الخمسينات بلغ عدد أجهزة التلفزيون في منازل الأميركيين 50 مليون جهاز، وتفوق التلفزيون على السينما كوسيلة اتصال جماهيري». وحتى منذ أن بدأ إنتاج الأفلام الدينية في هوليوود في العشرينيات، كان الهدف الرئيسي لهوليوود هو «تقديم مشاهد الفرجة المبهرة، ومناظر الإغواء المثيرة»، وكانت أفلام سيسل دي ميل - كما يقول ليستر فريدمان في كتابه «الصورة اليهودية في هوليوود» (نيويورك 1982) «تكتسب قيمتها الوحيدة من اهتمامها بالديكورات والفساتين المكشوفة عند الصدور، أكثر من تصويرها للجوانب التاريخية والدينية».
يقول المؤلف في معرض تقييمه لفيلم «ملك الملوك» (1926) إن سيسل دي ميل أراد «إعطاء صورة أقل حدة عن اليهود الذين تسببوا في صلب المسيح كما هي عند المسيحيين فيقدمهم بطريقة أقل حساسية في هذا العمل». وكان سيثري الكتاب دون شك، لو أن المؤلف عاد إلى ما أثير من جدل حول هذا الفيلم وغيره، أثناء تصويره. تذكر باتريشيا إرنز في كتابها «صورة اليهودي في السينما الأميركية» (نيويورك 1984) أن منظمة «بناي بريث» أو «أبناء العهد» وهي منظمة يهودية تأسست عام 1843 ولها فروع في جميع أنحاء العالم، ومهمتها الدفاع عن المصالح اليهودية ودعم إسرائيل، دعت إلى مقاطعة فيلم «ملك الملوك» بدعوى أنه يتعامل مع المصادر اليهودية «بازدراء».
باقي الأفلام التي يتناولها الكتاب من إنتاج الخمسينات والستينات، وهي «داور وبتشبع» و«كوفاديس» (الفيلمان من إنتاج 1951)، و«سالومي» و«الرداء» (كلاهما من إنتاج 1953)، و«ديمتريوس والمصارعون» (1954)، و«الوصايا العشر» (1956)، و«سليمان وملكة سبأ» و«بن هور» (كلاهما من إنتاج 1959)، و«ملك الملوك» الذي أعادت هوليوود إنتاجه من إخراج نيكولاس راي عام 1961 بالألوان، و«باراباس» (1961)، و«سادوم وعمورة» (1962)، وأخيرا «الكتاب المقدس» (1966).
ورغم المعلومات الكثيرة التي يسوقها المؤلف، فإن ما يقلل كثيرا من قيمتها أنه لا يذكر قط مصادرها، فهو يقول في معرض نقد فيلم «سليمان وملكة سبأ»: «على الرغم من أن بعض النقاد لم يدرجوا هذا العمل ضمن الأفلام الدينية المميزة، وعدوا أداء بول برينر من الضعف في هذا العمل بدرجة أن أخرجه من أعمال برينر العظيمة وأداءاته الناجحة، فإن العمل يستحق الإشادة والمتابعة..». ولا يذكر لنا المؤلف من هم هؤلاء النقاد الذين قللوا من شأن الفيلم وأداء الممثل، كما أن الصياغة اللغوية للكتاب كله، كما تفصح هذه العبارة كمثال فقط، كانت في حاجة ليس فقط إلى مراجعة لغوية دقيقة بسبب وجود الكثير من الأخطاء، بل وإلى إعادة الصياغة لتفادي التكرار والاستطراد وضعف صياغة الجمل بشكل عام.
وتفتقر الكثير من الأحكام النقدية في الكتاب إلى الدقة، وربما يكون هذا ناتجا عن إساءة استخدام التعبيرات والكلمات، ففي معرض تقييمه أحد أشهر المشاهد في تاريخ السينما، وهو مشهد انشقاق البحر الأحمر حسب المعجزة الشهيرة التي يلجأ إليها موسى (عليه السلام) باستخدام عصاه في فيلم «الوصايا العشر»، يقول المؤلف «وعلى الرغم من أن مشهد انشقاق البحر يعد من أقوى مشاهد السينما (كذا) فإن مشهد خروج بني إسرائيل يزيد عليه (كذا)، فهو المشهد الذي يشعر المشاهد بطبيعة بني إسرائيل وحركتهم وحياتهم (كذا)، فهو مشهد مفعم بالحياة، ولا يميل للأداء المسرحي كما في مشهد انشقاق البحر..».
ومعروف أن دي ميل استخدم المؤثرات الخاصة في تصوير مشهد انشقاق البحر بحيث جاء مشهدا سينمائيا خالصا يعتمد على الصورة والحركة والتكوين والمؤثرات والموسيقى، ولا علاقة له بالمسرح، بل يبدو نابضا بالحياة، وذروة الفيلم قبل مشهد العبور مباشرة.
ولعل تحمل المؤلف جهد الإصدار على نفقته الشخصية يغفر له الكثير من الأخطاء.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.