أندلس 1494... كأننا نجول في جنان النعيم

يوميات رحلة هيرونموس مونزير

هيرونموس مونزير
هيرونموس مونزير
TT

أندلس 1494... كأننا نجول في جنان النعيم

هيرونموس مونزير
هيرونموس مونزير

قلما تكتسب سنة من السنوات مكانة اللحظة الفاصلة في التاريخ. فالأحداث وتقلبات الأزمنة، كما يرى المؤرخون اليوم، تنضج خلال فترات طويلة من التراكمات الكمية التي قد لا تلتقطها عيون الأفراد قبل وصولها إلى لحظة تكثف نوعي تنتقل بها لمكان آخر تماماً. لكن سنة 1492 -ورمزها الأهم سقوط غرناطة، آخر ممالك العرب الأندلسية، بيد قوات مملكة فيرديناند وإيزابيلا الكاثوليكية في الثاني من يناير (كانون الثاني) ذلك العام- تبدو مع ذلك لحظة عبورٍ عجائبي بين العصور القديمة والعصور الحديثة، بين العالم القديم والعالم الحديث، عبور قضى على ممالك وإمبراطوريات وأطلق أخرى، وغيّر مصائر ملايين البشر، وشكّل محور تحولات فكرية وثقافية هائلة، كانت النهضة الأوروبية ومرحلة التنوير نتاجها الأوضح، ناهيك من تأسيسه للمناخ المعولم الذي ستتطور فيه الرأسمالية بشكلها الحالي. وللحقيقة، فإن نصوصاً تأريخية كثيرة حاولت، وبطرائق مختلفة، القبض على تلك اللحظة وتسجيلها، والتحديق فيها من أركان ومنطلقات متعددة، ساعية لبناء تحليل معمق لمكونات التفاعل الهائل الذي كانت نتيجته. ومع ذلك، فإن شهادات معاصري تلك الحقبة التي نجت ووصلتنا تبدو شحيحة بشكل لافت، مقارنة بحجم الانعطاف التاريخي الزلزالي الطابع الذي كانته.
من هنا تحديداً تأتي أهمية اليوميات التي دونها الطبيب هيرونموس مونزير (ولد في منطقة تتبع النمسا اليوم) عن رحلته التي أخذته إلى شبه الجزيرة الأيبيرية عام 1494، مسجلاً فيها دقائق مشاهداته الثاقبة، كما لو كان مصوراً فوتوغرافياً التقط بحرفية مزاج تلك الفترة وأجوائها، بعد أقل من عامين على النهاية الحزينة للوجود العربي - الإسلامي في أقصى جنوب أوروبا.
كان مونزير (1437 - 1508) مثقفاً رفيعاً وأنموذجاً رائداً لمفكري عصر النهضة الذين ألموا بطرف من كل معارف عصرهم. فدرس في جامعة ليبزيج الألمانية المرموقة، قبل أن يتأهل لممارسة الطب من جامعة بافيا (جنوب ميلان الإيطالية)، ويعود لسُكنى مدينة نورمبيرغ، ويصبح من وجهائها، لا سيما في دوائر المثقفين (الإنسانيين) في تلك الفترة. ودفعه تعطشه للمعرفة إلى معاقرة علوم الفلك والجغرافيا والنباتات، وأصاب ثراء فبنى مكتبة ضخمة كان يشتري لها الكتب من كل مكان يسافر إليه. وقد ساهم بقسم مهم عن الجغرافيا، تضمن ما يعد أول خريطة (مطبوعة) لألمانيا في «حوليات نورمبيرغ»، وهي موسوعة تاريخية نشرت عام 1483.
أما مغامرته الأيبيرية، فقد كانت في العامين 1494 - 1495، بعدما رافق ثلاثة من أصدقائه فراراً من عودة وباء الطاعون إلى ألمانيا في رحلة على ظهر الخيول أخذتهم لسبعة آلاف ميل عبر ألمانيا (والنمسا الحالية) وفرنسا وسويسرا، ثم إسبانيا والبرتغال، قبل العودة إلى منزله في نورمبيرغ.
القطعة الأيبيرية من هذه الأوديسة العظيمة بدأت في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) من ناحية برشلونة التي صدمته بكاتدرائيتها القوطية الهائلة ومكتبتها الضخمة، ومنها إلى دير مونتسيرات وسط الجبال الوعرة، قبل أن ينحدر ورفاقه نحو فلنسيا التي كانت كما غابة زيتون ورمان، ومركزاً متقدماً لصناعة تحضير السكر، كما سوقاً لبيع العبيد الأفارقة التعساء الذين كانوا يخطفون من غرب أفريقيا. وقد تعرف مونزير على أحد تجار البشر هؤلاء، فأخبره بأنه نقل حمولة من جزيرة تناريف ضمت 87 من الرجال والنساء والأطفال الذين قضي 14 منهم خلال الرحلة، فيما باع الباقين. ومن هناك، انتقل ورفاقه إلى ميناء ألَلَقَنْت (الاسم الحالي أليكانتي)، حيث مروا بمزارع ضخمة يديرها الكفار (أي المسلمون وفق نظرة مسيحيي أوروبا لهم)، تنتج الكمون واليانسون ونبتة الحلفا العربية، كما العنب المجفف، قبل أن يصلوا إلى أراضي مملكة غرناطة، بالمرور عبر عدة قرى مورية جبلية خلابة (المور اسم كان الأوروبيون يطلقونه على مسلمي الأندلس) بين جناين وحدائق معلقة من الزيتون والموز والتين واللوز قال عنها: «لكأننا كنا نجول في جنان النعيم».
وفي ميناء المرية، شاهد مونزير مسجداً لأول مرة، وصفه بالمعبد الشيطاني، لكنه قال إنه مضاء بأكثر من 100 فانوس، وتتوسطه حديقة غناء مبلطة بالرخام. وقد تعرف هناك على تاجر من جنوى أخبره بأنه كان ينقل بسفينته القمح إلى تونس، ثم يحمل من وهران (بالجزائر) نحو 300 من الكفار (أي المسلمين) المنفيين إلى شمالي أفريقيا الذين يرغبون بزيارة مسقط رأسهم. وفي ضواحيها، شاهد أشجار موز ضخمة لم يكن ليخطر بباله -على حد تعبيره دائماً- أنها يمكن أن تنمو في أوروبا.
درة الرحلة كانت غرناطة «المدينة العظيمة المجيدة» التي سحرته، رغم تذمره من أن سقوطها في يد الكاثوليك منذ عامين لم يدفعها لتغيير طرائق عيشها الأندلسي، لا سيما بعد أن سمع صوت الأذان في مسجد المدينة. ومع ذلك، فهو لم يخفِ ذهوله من عبقرية عمارة المسجد الكبير، بأعمدته وأقواسه وزخارفه المبهرة، وأشاد بعين الطبيب بعادات التطهر والاستحمام عند المسلمين، وأنظمة مياه الشرب والدورات الصحية والتمديدات. وقد تسنى لمونزير وأصحابه زيارة قصر الحمراء ذائع الصيت، برفقة محافظ المدينة، فكتب: «كل شيء هناك أنجز بطريقة مبهرة شاهقة بكل الجمال الممكن وبكل الأناقة؛ إنه قطعة تامة الاكتمال تليق بالجنة». وقد تجول الصحب لاحقاً في جناين موزعة بين رؤوس الجبال المغطاة بالثلج، مزروعة بالقطن والتين واللوز والزيتون والرمان والكرز والخرشوف (الأرضي شوكي)، وقال إن الأنهار المحلية غنية بالذهب، لكن الملك فرديناند كان قد منع استخراجه على السكان تحت طائلة الحكم بالإعدام.
وكاد يطيب المقام للرحالة في غرناطة، ولذا تركوها متثاقلين نحو ملقة، مارين بحقول واسعة مزروعة بالصباريات التي أثارت اهتمام مونزير لأهميتها في صناعة العقاقير والمراهم الطبية، ثم إلى مدينة إشبيلية أكبر مدن الأندلس، فأسهب في وصف حدائقها الغناء ونوافيرها الكثيرة، ومنها انتقلوا إلى البرتغال التي استقبلهم فيها بالعاصمة لشبونة الملك جون الثاني، وكان فيما يبدو على معرفة باللورد أنتوني هيوارت، أحد رفاق رحلتهم. وهناك عرفوا أن جلالته كان قد منح اليهود الذين طُردوا من مملكة إسبانيا عام 1492 مهلة عامين لترتيب أوضاعهم قبل مغادرة مملكته. ومن لشبونة اتجه الرفاق مجدداً نحو الشمال هذي المرة، فمروا في زامورا -من أملاك قشتالة وليون- التي تضم أفضل نماذج عمارة الرومانسيك من القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ثم سلامانكا -وزاروا فيها جامعة تعج بأكثر من 5 آلاف طالب- وتوليدو، وفيها شهدوا جنازة الكاردينال بيدرو دي مندوزا، أحد أهم الشهود على استسلام غرناطة، قبل أن يتجهوا إلى مدريد، حيث استقبلوا من قبل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، ليرتجل مونزير خطاباً في تمجيدهما. وبعد ثمانية أيام، توجهوا شمالاً عبر سرقوسة، وعبروا ممر الرونشيسفاليس على الحدود بين فرنسا وإسبانيا الذي كان موقع معركة بين شارلمان ملك الفرنجة والمسلمين، وشاهدوا بوق القائد رولاند -المذكور في أهزوجة رولاند، إحدى أول النصوص المكتوبة باللغة الفرنسية- الذي غنمه الباسكيون بعد قتلهم للفارس الفرنسي في كمين هناك.
ولا تكتفي يوميات هيرونموس مونزير بنقل صورة شاملة عن أيبيريا الخلابة، ومعالمها الجغرافية والطبيعية، وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل يشعرنا معه بمناخ التوتر الديني بين المجموعات السكانية المختلفة في شبه الجزيرة، بعد توحيدها على يد الكاثوليك، لتدخل بعدها البلاد في المرحلة المأساوية لمحاكم التفتيش، والطرد النهائي لمسلمي الأندلس، بمن فيهم الموريسكيون (أي أبناء المسلمين الذين أجبروا على التحول للكثلكة)، كما اليهود، وهي مرحلة لما تتعافى منها إسبانيا قط، وكانت أحد الأسباب التاريخية لتأخرها عن اللحاق بدول القارة الأخرى، مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، لكن تلك قصة أخرى.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.