المسافرون يطلّونَ من نوافذ العربة، وقد ازرقّتْ جلودهم. يصرخ أحدهم: - يا ألله، النهارُ يترنح. يتكوّم الرجالُ والنساء والأطفال حول بعضهم، يتمتمون الآياتِ والأدعية. يندفع القطارُ على السكّة التي غمرتها الدماء البشرية المنهمرة من جانبيه. حين تصطدم العربة بالنهار، تهوي صاعقة أرجوانية، فيحترق الغيمُ والهواء، تحترق نداءاتُ الاستغاثة، ويطلّ من الحطام بطلٌ جديد، يده التواء المسافة وسهم نباله من لعاب، وسوف يحمله المرضى إلى سرير الكفن مولودا ثالثا من صلب النقيضين، هذا وإلا فمَنْ يكون؟ عربدة المشاعر في لهوٍ ثائر؟ طحينُ عظام تئن؟ ذكرى نكبات مستقبلية ونشيجُ رمل وطئته أقدام الغريب؟ سيان لو تصرخ أو يلعنونك. تصرُخ كلّ ليلة تحت وطأة الأمل، يسيلُ من تشنج عنقك نهرٌ غاب عن لون أعشابه، فاحتقن، ولم يعد أمامه سوى أن يطمر صدرك بجاثوم أخرس. عليك أن تخرس، كلّ راية تتلكأ عن بياضها، سيمزقها المعزونَ على مرأى المجزرة. أدفع بهزال حلمك إلى مأدبة الظن. اشبع ظنا، فقد تنهض من مخالب السرير. انظرْ إليها، تعيد الابتكار الخلق. دعها، دعها تجترح لنا كونا وتعيد الثقة لقلوب توشكُ على الشك. ها هي ملاذنا مما يأخذوننا إليه، قطيعا بعد قطيع. وحدها الطفولة كفيلة بهزيمتهم فتحصنوا بها. المخالبُ أركانُ نومكَ الخمس، فاصقلها في الثلثِ العسير من الليل، ثم توسّدْ ظلامك المزمن. هناك. هناك فقط، سيدعك قتلة الأحلام المأجورون تهنأ بقية الوقت، بالتهيؤ لمرمى رصاصهم. ظلّتْ أيادي النار في منأى عن الشبهات، تصافِحُنا بفردوس الصباح، وتمْسِينا بريح الروح والريحان، فصدّقنا. وكانت هذه أولى مغانمها. سَبَتْنا في الحريق، وأطفأت قطعاننا بغرائز التفاح. الليلُ ترجمة الهرب، الوقتُ يقرأ ما تبقّى من رياح اليوم، ويكتب للسجناء تصريح البقاء. باقون في الأسرِ، يهدّ النومُ جدرانَ الظلام، ويبني سجنه للغد، لئلا يكون انتظارنا للحرية طعم الفرار المجنون من عقل الامتثال. فالليل جمالٌ مكتوم، يزدرده الظلام في غفلة من يقظة القلب. اذهب إلى فهرس الطبيعة تذكره بمنسياتنا. مخبولون عشقا، ومنسياتنا قناديلُ الهامش، حيث الحرية تخرج عن التخوم. من يتذكر، من ينسى؟ ملاذنا في النسيان، وليس في الذاكرة، لكن الفروقَ جعلتنا مجرد مجرورين. وها هي السماء مغلقة في سؤال العقل. وإلاّ فكيف نفسر الحرية وهي بعد لم تولد؟ وهي بعد تهمة العصيان. - أنا النقي. قال الجالسُ في عرش وحدته ومات.
ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/5083377-%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%83%D9%84%D9%87-%D9%8A%D9%86%D8%B9%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%86%D8%AD%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8%D8%9F
في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.
في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.
السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.
محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.
بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.
ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.
في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.
وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.
ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.