يسعى «قاموس التداولية» الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن «دار الرافدين العراقية»، بترجمة المصري لطفي السيد منصور، إلى ضبط ماهية «نظرية التداولية»، ووظيفتها، وإيضاح المجال الذي تعمل فيه، وعلاقتها باللغة في جانبها الاستعمالي والعلاماتي، فضلاً عن مستعمليها أنفسهم. ويضع القاموس «التداولية» في محور اتصال مباشر مع علمي التراكيب والدلالة، انطلاقاً من رأي الباحثة الفرنسية كاترين كربرات أوركيوني التي تشير إلى أن وظيفة التداولية هي استخلاص العمليات التي تمكن الكلام من التجذر في إطاره الذي يشكل ثلاثية المرسل والمستقبل والوضعية التبليغية والسياق التي تؤول فيه الجملة.
ويهدف «القاموس» الذي صدرت طبعته باللغة الفرنسية عام 2011، وقام بـتأليفه الباحثان جوليان لونجي وجورج إيليا سرفاتي، إلى تزويد القراء بمعلومات وافية عن علم التداولية، وهو علم جديد نشأ في فرنسا لمساعدة القراء والباحثين المتخصصين على دراسة سياقات الكلام، مؤكداً أهمية كثير من المعارف التي أصبحت الآن جزءاً من المخزون الفكري لأي باحث عن المعرفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية أو علوم اللغة.
ويشير مصطلح «التداولية» إلى بروز التطورات المتعاقبة لصفة أو قيمة الاستعمال التداولي. وقد أشار لهذه الآلية الفيلسوف البريطاني «ج. ل. أوستن» وهو يتحدث عن تشكيل الأفعال الإنشائية، وكان قد درسها جزئياً الباحث الفرنسي إيميل بنفينيست فيما يسمى «أفعال الاستقوال». ويمكن الإشارة إلى أن بروز صفة تداولي لا يتعلق فقط بفئات معينة من الأفعال، بل يهتم بجميع الوحدات المعجمية المتأثرة، في تطورها التاريخي، مع الأخذ في الاعتبار حالتها المورفولوجية والنحوية التي تعمل ضمن عدد من قوانين الخطاب وأحكام المخاطبة، وهي التي تضفي على الخطاب، حسب الفيلسوف البريطاني هربرت بول جرايس، صيغته الضمنية والتلميحية.
وترتبط نظرية التداولية التي وجد فيها الفلاسفة وعلماء اللغة والباحثون اللسانيون ملاذاً للإجابة عن كثير من أسئلتهم، بوشائج قوية مع علـــم تحليـــل التفاعـــلات اللفظيـة، ذلك لأن هدفه الأساسي حسب الفرنسية «أوركيوني» يتركز «فـي وصـف اشـتغال كل أشـكال التبـادل التواصلـي التـي تشـهدها المجتمعات، سـواء كانت محادثــات عائليــة أو نقاشــات تــدور فــي ســياقات أكثـر رسـمية، وهي بالطبع مجال للغة التي يعتبرها باحثو التداولية نشاطاً يجب دراسته لمعرفة المتكلم، ومن يتوجه إليه، والقيود التي يلتزم بها، فضلاً عن استراتيجيات الخطاب التي تتحرك ضمن مجالات التلميح والتصريح والإقناع».
وُيقدم القاموس بالتفصيل فرعاً من علوم اللغة، إذ تتصل إسهاماته المتعددة بالتخصصات ذات الصلة، حيث يهدف المؤلفان إلى تقييم حالة المعرفة المؤسسية في الوقت الراهن، سواء من خلال التدريس أو البحث والنشر، كما يتحدثان في قسم منه عن نشأة التداولية وأنواعها، من إدراكية ومدمجة ومعجمية وأدبية وموضعية.
ويطرح القاموس وأقسامه التي تتوزع تحت حروف الأبجدية مجموعة واسعة من النظريات والمناهج والمفاهيم التي تندرج في مجال العلوم الاجتماعية وعلوم اللغة، وذلك من أجل استجلاء القضايا والإسهامات التي تُسهم بها كل منها فيما بينها.
ويذكر المترجم لطفي السيد منصور، في مقدمته للنسخة العربية، أن «التخصص الذي يفسح المجال للعرض التعليمي، لا سيما الإعداد في دليل، يُعد مؤشراً على نضجه التأليفي، وكذلك على بُعده التاريخي، لأن إمكانية هذا النوع من العرض تفترض فارقاً زمنياً، فضلاً عن استقرار ضروري وصل إليه الباحثون في مفاهيم التداولية التي تتطور من خلال الأساسيات الخاصة بها، بصفتها كلاً متماسكاً، رغم أنها على وجه الإجمال ليست أكثر من مستوى من البنية والفهم للطريقة التي تنتظم بها اللغة. ولكي نلتقط المقياس الذهني الذي تصور به القاموس، يكفي أن نتذكر على سبيل الإيضاح أن أوستن نفسه قد صاغ مفهومه لنظرية أفعال الكلام مِن أجل الإسهام في نظرية عامة للحدث».
ويلتزم مؤلفا القاموس بشرطٍ مُزدوج في إعداده: الأول داخلي، يتقيد فيه الحقل التداولي بمجال خصوصيته؛ والثاني خارجي، يعي بموجبه الحقل التداولي محيطَ صِلاته التجاورية التي يعقدها مع فروع أخرى مِن علوم اللغة، وبشكل أعم مع تاريخ الأفكار. وفي الحالة الأولى، يبدو أن التداولية تتحدد ضمن سلسلة متصلة من التفاعلات، وبقدر ما تلتزم بالمفاهيمية تلتزم أيضاً بوصف آليات التفاعل الإنساني.
ويقدم القاموس، فيما يزيد على مائة وثلاثين نقطة تتوزع تحت حروف الأبجدية، «التداولية» بصفتها حقلاً تخصصياً رحيباً ومتنوعاً على حد سواء، بالإضافة إلى كونه في الوقت نفسه حقلاً تخصصياً قادراً على دمج موضوعات ذات نسق متنامٍ على نحو عظيم، إلى حد أنه يجاور نظرية الثقافة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وينضم إليها. وهذه المرونة، في تقديم علم التداولية لا تنزع خصوصيته عنه، بل تؤكدها، لأنها تذكرنا بمركزية اللغة التي يجرى تصورها أولاً على أساس الانبناء المزدوج للعلامة، ثم على أساس الاستخدام المصاحب للأنساق الأخرى للعلامات، وكلاهما ينظر له مِن منظور التفاعل والتواصل.
أما في الحال الثانية، فتحصل التداولية على إضافة شرعية من التخصصات ذات الصلة التي تجاورها. وقد يتعلق الأمر بالتخصصات التي ترتبط بها تاريخيا، مثل البلاغة والتأويلية، بل أيضاً الفلسفة، لا سيما فلسفة اللغة، وكذلك التخصصات التي تسهم في استكمال وجهة نظرها، وطرائق التحليل «علم النحو وعلم الدلالات» أو التي قد تبعث -في المقابل- بعض الإشكاليات الخاصة بفرص تجديد تحليل الخطاب على وجه الخصوص.
ماهية الحوار الإنساني في سياقاته المتنوعة
ترجمة عربية عن الفرنسية لـ«قاموس التداولية»
ماهية الحوار الإنساني في سياقاته المتنوعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة