«المكان الثالث»... مصطلح غربي بجذور عربية؟

إعادة النشاط والإبداع فكرياً واجتماعياً بعيداً عن المنزل والعمل

سوق عكاظ اليوم تجسيد قديم لـ«المكان الثالث»
سوق عكاظ اليوم تجسيد قديم لـ«المكان الثالث»
TT

«المكان الثالث»... مصطلح غربي بجذور عربية؟

سوق عكاظ اليوم تجسيد قديم لـ«المكان الثالث»
سوق عكاظ اليوم تجسيد قديم لـ«المكان الثالث»

منذ نهاية الثمانينيات، وتحديداً من عام 1989، ظهر مصطلح «المكان الثالث» الذي قدمه عالم الاجتماع الأميركي «راي أولدنبورغ»، وأشار فيه إلى أماكن التجمع المشتركة للأشخاص في مجتمعاتهم، بعيداً عن المنزل (المكان الأول) والعمل (المكان الثاني).
ووصف أولدنبورغ في كتابه «The Great Good Place» ماهية الأماكن الثالثة، قاصداً كل مكان تشترك فيه السمات المشتركة الأساسية بطريقة تجذب الناس، وتسمح باللقاءات العفوية بين الأشخاص، أصدقاء كانوا أم غرباء من طبقات مختلفة، بحيث يكون عامل المحادثة هو النشاط الرئيسي.
أراد أولدنبورغ من تقديمه للمصطلح الدفاع عن قضية الحياة العامة التي وجدها في أواخر الثمانينيات في المقاهي والمكتبات والمطاعم وأماكن مماثلة، لكنه وجد أيضاً أن هذه الأماكن بدأت تختفي لأن ضواحي تلك الفترة استنزفت بعض المدن من الناس الذين يسكنون هذه البقع بعد المنزل والعمل، وأصبحت توجد الأماكن الثالثة الآن في المدن القديمة ذات الأحياء النشطة.
ووصفها أولدنبورغ بأنها الأماكن التي يشعر الغريب بأنه في منزله في أماكن التجمعات العامة غير الرسمية، مثل مقاهي الأرصفة في باريس وحانات لندن وساحات فلورنسا.
ويتوارد التساؤل هنا عن أصل هذا مصطلح «المكان الثالث»، وتاريخ نشأته فيما لو كان عربياً، أو مستنبطاً -كما عند أولدنبورغ- من البيئة الغربية.
وبعد البحث في أمهات الكتب، نجد أن عصوراً عربية شرقية عرفت «المكان الثالث» قبل مئات السنين الذي يملك سمات مشتركة مع «المكان الثالث» التي ذكره أولدنبورغ.
أسواق العرب في الجاهلية
كانت أسواق العرب قبل الإسلام حوليّة، تقوم أياماً معلومات من كل عام، وكانت ميداناً لغير البيع والشراء؛ كأن تلقى فيها الأشعار، ويكثر فيها وجود الخطباء.
وفي سوق عكاظ، في قلب الجزيرة العربية، قبل الهجرة بسبعين عاماً، نشأ أول مكان ثالث للعرب، حيث كان ساحة للشعراء لنظم شعرهم، وورثه سوق المِرْبد في طرف الجزيرة العربية على الخليج العربي في مدينة البصرة، وازداد تنوع أشكاله في صنوف الأدب وألوان المعاش والحياة الاجتماعية، إذ أصبح مجتمعاً لعامة فئات العرب ومتنزهاً، وسوقاً يرتاده علماء الأدب والنحو واللغة وتداول الأخبار والنوادر؛ لقد أصبح مع مرور الزمن مصدراً للعلم وينبوعاً للثقافة.
المجالس الأدبية العربية
نشأت المجالس الأدبية في الأندلس، وكان «عبد الرحمن الداخل» أول من وضع النواة الحقيقية لهذه المجالس التي أخذ يرتادها روَّاد من غير أهلها، وشملت المستويات الفكرية بتدرجاتها كافة ومستوى علمها، وكانت تجري آنذاك في قصور الحكماء التي أصبحت تضاهي قصور خلفاء المشرق.
وضمت مجالس الأندلس شعراء أمثال الغزال وتمام بن علقمة، كما ضمت فقهاء مثل عبد الملك بن حبيب، ومغنيين مثل زرياب، ومنجمين كعبد الله بن الشمر. وتعدد وجود المواهب في المجالس، مما زاد دورها في تحريك وإنعاش الحركة الفكرية والأدبية الأندلسية.
وأبرز من اشتهر بحضور تلك المجالس الأدبية «عبد الرحمن الناصر»، في الفترة من 300 إلى 366 من الهجرة، رغم أنه كان «قليل الميل إلى المرح والاندماج مع رواد البلاط»، إلا أنه كان «يرتاح للشعر، وينبسط إلى أهله، ويراجع من خاطبه به من خاصته».
ومما يدلل على تنوع المجالس الأدبية الأندلسيَّة وجود مجالس علمية خاصة، يقدم عليها من استحق لقب «الأستاذية»، وطلاب من أماكن كثيرة، مثل مجلس «أبي بكر بن زهر». كما كانت هناك «مجالس للهزل والضحك»، ومجالس للأصدقاء والندماء، مثل مجلس «ابن خطيب» الذي كان يحضره كثير من الشعراء.
ولم تخلُ المجالس الأدبية في الأندلس من شخصيات أدبيَّة نسائية معروفة، كسكينة بنت الحسين وولَّادة بنت المستكفي.
أما المجالس الأدبية في العصر العباسي (132-656هـ)، فلم تكن مترفة أو فخمة، لاشتغال خلفاء الدولة العباسية بمحاربة أعدائها، وقمع فتن المناوئين لهم. لذلك نجد مجالس المنصور مثلاً تتسم بالبساطة والتواضع، والبعد عن مظاهر الترف والأبهة. وقد وصف أحد الداخلين على المنصور مجلسه، قائلاً: «دخلت... ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، فيها بيت واحد. وفي البيت مسح ليس فيه شيء غيره إلا فراشه...»، وهذه الظروف تتيح العفوية في اللقاءات، وتتفق مع السمات التي تحدث عنها أولدنبورغ في وصفه للمكان الثالث في أواخر الثمانينيات.
وقد تعددت تلك المجالس العباسيَّة، وأصبحت تنظم مجلساً للحكم، وآخر للمنادمة أو المناظرة أو المذاكرة أو غيرها، كما كان الخلفاء غالباً ما يثيرون بينهم وبين ندمائهم وجلسائهم المساجلات الشعرية، فيقول الخليفة بيتاً أو بيتين أو أكثر، ويطلب من الحضور من يجيزها له، وكان ذلك يفتح مجالاً للتسابق أمام الشعراء لمحاولة الإجادة في القول.
مقابسات أبي حيَّان
ومن أشهر من أقام الجلسات الأدبية بعد تلك الفترة، وأول من شرع بصنوف العلم وأنواع المعارف وألوان الآداب، «أبو حيَّان التوحيدي»، إذ كان من خصائصه احتذاء الجاحظ في التفنن في كل شيء، كما أنه أولع بوضع الأحاديث والأسمار ووقائع التاريخ في صورة روائية. وتميزت مجالس أبي حيَّان بمزج الأدب بالحكمة والتصوُّف بالفلسفة.
ورد في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أن الوزير «أبا عبد الله العارض» قرَّب أبا حيان منه ووصله به حتى جعله من سُمّاره، فسامره 37 ليلة كان يحادثه فيها، ويطرح مسائل أشكلت عليه في اللغة والفلسفة والاجتماع، ليجيب عنها أبو حيَّان على طريقة: قال لي وسألني، وقلت له وأجبته، فإذا أجاب أثارت إجابته أفكاراً ومسائل عند الوزير، فيستطرد إليها من باب إلى باب، ويسأله عنها، حتى إذا انتهى المجلس كان الوزير يسأله غالباً أن يأتيه بطرفة من الطرائف، ويسميها غالباً «ملحة الوداع»، فيقول الوزير مثلاً: «إن الليل قد دنى من فجره، هات ملحة الوداع»، وهذه الملحة تكون عادة نادرة لطيفة أو أبياتاً رقيقة. وأحياناً يقترح الوزير أن تكون شعراً بدوياً، مما يشير إلى شكل مختلف من أشكال المكان الثالث من حقبة القرن الرابع الهجري.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».