حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

نجاحات «الاستخبارات» اللبنانية تبقى غير كافية في غياب سياسة فعالة تمنع تفشي الآيديولوجيات الراديكالية

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة
TT

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

سيطرت أجواء من القلق والخوف بعد التفجير الانتحاري المزدوج الذي هز منطقة جبل محسن في طرابلس، أولا بسبب نوعية العملية التي شارك فيها انتحاريان يتحدران من المدينة نفسها، وثانيا بسبب اختفاء عشرات الشباب من المدينة يشتبه في إمكانية ارتكابهم هجمات إرهابية. فمنذ بدء تنفيذ الخطة الأمنية في طرابلس التي تلت الاشتباكات بين الجيش اللبناني ورجال شادي المولوي وأسامة منصور، اللذين يرتبطان بعلاقة مباشرة مع جبهة النصرة و«داعش»، سُجِّل فرار نحو 200 شاب من لبنان.

أكد مصدر سلفي، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، هذه المعلومات، مرجحا «هروب ما يقارب المائة شاب إلى سوريا والعراق، مع ثمانين شخصا تقريبا متوارين عن الأنظار داخل لبنان». إلا أن مصدرا عسكريا لبنانيا، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، اعتبر أن العدد الفعلي للذين يشتبه في إمكانية ارتكابهم هجمات إرهابية لا يتجاوز أربعة أو خمسة أشخاص حتى الآن.
إلى ذلك، انضم بعض النشطاء اللبنانيين في العراق وسوريا إلى «جبهة النصرة» في حلب أو «داعش» في الرقة، كما انخرط عمر ميقاتي، أحد رفاق المولوي ومنصور، المعروف باسم «أبو هريرة»، في صفوف جبهة النصرة في القلمون.. «فـ(داعش) لديها جيوب عميقة وتدفع المال الوفير لأسر المجندين الشباب»، وفق المصدر السلفي. وعلى الرغم من الانعكاسات العديدة التي قد يخلفها فرار هؤلاء على الساحة اللبنانية، يبقى الخطر الأكبر متأتيا من أولئك الذين ما زالوا في لبنان والذين قد يُستغلون لتنفيذ تفجيرات انتحارية جديدة.
ويعتبر الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقهى في جبل محسن، وأسفر عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة 37 آخرين، هو الأول من نوعه في طرابلس، وقد نفذه شابان من محلة «المنكوبين» في طرابلس، التي يسيطر عليها الفقر والبطالة وتعتبر واحدة من أكثر المناطق المحرومة في المدينة الشمالية. «أما اختيار طرابلس، المدينة التي نشأ فيها الانتحاريان لتنفيذ العملية، فيشكل سابقة لم نشهدها من قبل على الرغم من مقتل ما يزيد على عشرة شبان من طرابلس في عمليات انتحارية في العراق وسوريا»، وفق المصدر السلفي.
وكان منفذا الهجوم الانتحاري، بلال محمد مرعيان وسمير الخيال، قد تواريا عن الأنظار بعد أن شاركا في الاشتباكات الأخيرة التي وقعت بين الجيش اللبناني وجماعة شادي المولوي وأسامة منصور، بحسب مصادر طرابلسية تحدثت إلى «الشرق الأوسط». وقد رجح وزير الداخلية اللبنانية نهاد المشنوق انتماء الانتحاريين إلى تنظيم داعش، بناء على تقارير أمنية ربطتهما بالمتشدد منذر الحسن، المشتبه فيه بتأمين الأحزمة الناسفة والمتفجرات لأعضاء خلية إرهابية في فندق «دي روي»، والذي قتل لاحقا خلال مداهمة منزل أحد أقربائه في طرابلس حيث كان يختبئ، علما بأن منذر الحسن هو أيضا من منطقة «المنكوبين».
غير أن هذه النظرية لم تلق إجماعا في الأوساط الرسمية، حيث أشار مسؤول عسكري في طرابلس إلى أن العملية الإرهابية الأخيرة هي من تنفيذ جبهة النصرة، التي تشكل في الوقت الراهن الفصيل المهيمن على الساحة الطرابلسية. كما أنه وفقا لمواقع إخبارية، أعلنت جبهة النصرة في تغريدة على حسابها على «تويتر» مسؤوليتها عن الهجوم ضد المقهى في جبل محسن، المنطقة العلوية في طرابلس «للانتقام من الهجوم على مسجد السلام والتقوى». وجاء في بيان جبهة النصرة أن «بلال محمد مرعيان قد نفذ التفجير الأول مستهدفا الحشود النصيرية الحاضرة (العلويين)». وقام الخيال بالانفجار الثاني بعد انتشار قوات الأمن التي احتشدت في موقع الانفجار الأول.
وفي سياق متصل، أشارت صحف لبنانية إلى علاقة بين الانتحاريَين والموقوفين المتشددين في سجن رومية الموجودين خاصة في المبنى B، الذي بات منذ بداية الحرب في سوريا والعمليات الانتحارية التي لحقت بها مقرا لعمليات المتطرفين الذين قاموا بالتنسيق مع خلايا إرهابية وتواصلوا مع مجموعات متطرفة وتولوا إدارة تحركات إرهابية من داخل السجن.
وفي الأشهر الأخيرة، نجحت الأجهزة الأمنية في اعتقال العديد من الأشخاص الذين كانت قد جندتهم منظمات متطرفة لتنفيذ أعمال إرهابية، بمن فيهم «أسامة عنتر» الذي كان يعمل بالنيابة عن «داعش»، وفق المصدر السلفي. وقد ورد اسم الشيخ طارق الخياط في نفس الاشتباه، فضلا عن الشيخ أبو آدم الذي ينتمي بحسب المسؤول العسكري إلى عائلة إبراهيم، والذي عمد إلى تلقين الفكر المتشدد للخيال ومرعيان، وهي معلومة نفتها مصادر عائلة إبراهيم.
من ناحية ثانية، أكدت العديد من المراجع الأمنية أن الخيال ومرعيان لم يكونا متعمقين في الدين الإسلامي.. «فخيال يتحدر من أسرة طيبة كما كان والده مخبرا لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية»، وفق المسؤول العسكري. وقد أعربت والدة الانتحاري الشاب غادة في حديث إلى «الشرق الأوسط» عن صدمتها بعد اكتشاف تورط ابنها في تفجير جبل محسن، قائلة «كان ابني لطيفا، وكان سلوكه طبيعيا تماما قبل وفاته، إلا أنه بدأ بالصلاة ولكن لم يعتنق أيا من الأفكار المتطرفة». وفي السياق نفسه، أوردت مصادر في منطقة المنكوبين أن مرعيان لم يكن متشددا، وكان يشرب الكحول، وهي عادة مستهجنة ومحرمة في مجتمع مسلم محافظ.
وبعد تفجير جبل محسن ضربت القوى الأمنية طوقا مشددا على منطقة المنكوبين، وقامت بعدد من المداهمات والاعتقالات، مما قد يهدد باندلاع موجة جديدة من العنف في مدينة طرابلس. كما طالت حملات الاعتقال في الآونة الأخيرة عشرات من الشبان السوريين الذين يشتبه في تورطهم بهجمات إرهابية في لبنان، بحسب المسؤول العسكري. إضافة إلى ذلك، تمكنت قوى الجيش من توقيف المواطن بسام حسام نابوش في محلة «المنكوبين» للاشتباه به في محاولة تفجير نفسه، فضلا عن شخصين آخرين أوقفا على حاجز وادي حميد في عرسال. غير أن مصادر من منطقة المنكوبين نفت الاتهامات بحق نابوش، وأكدت أنه عمره لا يتعدى 17 عاما ولم يكن يحمل أي نوع من الأسلحة.
وعمد الجيش اللبناني أيضا إلى تفكيك عبوة ناسفة زنة 30 كغم على طريق قبة مجدليا في طرابلس. وتأتي هذه العبوة في إطار «التهديدات اليومية» التي تتلقاها القوى الأمنية والتي لا يمكن تجنبها بالكامل، وفق المصدر العسكري. والجدير ذكره أن هيكلية الجماعات المتطرفة الموجودة في لبنان تختلف عن غيرها من الجماعات، فهي تعتمد خلايا متعددة وتعمل في بعض الأحيان بشكل مستقل أو تتقاسم أحيانا أعضاء مشتركين «على غرار خلايا الشيخ خالد حبلص وعمر ميقاتي»، وفق المسؤول العسكري. كما لا يتم تدريب الانتحاريين بالضرورة في سوريا وفق المصدر العسكري الذي يستبعد أن يكون خيال ومرعيان خضعا للتدريب مع الحركات الراديكالية في القلمون.. «فبضعة أسابيع تكفي أحيانا للتدريب تحت إشراف خبراء في المتفجرات»، على حد قوله.
إن الامتعاض الذي يبديه سكان طرابلس تجاه مراكز القرار السني، وهروب الشخصيات السلفية التقليدية كالشيخ داعي الإسلام الشهال والشيخ بلال دقماق الملاحقين لحيازتهما أسلحة، أضف إلى ذلك قضية الشيخ نبيل رحيم، الشخصية السلفية المعتدلة التي تحظى بتقدير كبير في الأوساط الطرابلسية والذي أمضى ثلاث سنوات في السجن، تؤدي كلها إلى تفاقم الفراغ في الساحة الإسلامية المتشنجة أصلا.. وهو فراغ تحاول الحركات الراديكالية السورية أن تستغله، ومن هنا جاء تبني جبهة النصرة للعملية الانتحارية في جبل محسن، التي «هدفت إلى الانتقام» من الهجمات على جامع التقوى والسلام عام 2013. ومن الواضح أن مصالح جبهة النصرة وتنظيم داعش تتلاقى في طرابلس، مما قد يؤدي إلى محاولات جديدة لزعزعة الوضع الأمني.
وعليه، لا بد من رد أمني حازم لدرء هذا الخطر. فالنجاحات المتلاحقة التي تحققها أجهزة الاستخبارات، وعلى الرغم من أنها تستحق الإشادة والثناء، فإنها تبقى وحدها غير كافية في غياب سياسة فعالة لإنماء الأحياء الفقيرة وتسريع محاكمات العديد من الموقوفين، منعا لزيادة تفشي الآيديولوجيات الراديكالية.

* في سطور
* يعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقهى في جبل محسن، وأسفر عن مقتل 9 أشخاص وإصابة 37 آخرين، هو الأول من نوعه في طرابلس، وقد نفذه شابان من محلة «المنكوبين» في طرابلس، التي يسيطر عليها الفقر والبطالة، وتعد واحدة من أكثر المناطق المحرومة في المدينة الشمالية.
* اختيار طرابلس، المدينة التي نشأ فيها الانتحاريان لتنفيذ العملية، يشكل سابقة لم نشهدها من قبل رغم مقتل ما يزيد على 10 شبان من طرابلس في عمليات انتحارية في العراق وسوريا، وفق المصدر السلفي.
* مصادر لبنانية أشارت إلى علاقة بين الانتحاريين والموقوفين المتشددين في سجن رومية الموجودين خاصة في المبنى B، الذي بات منذ بداية الحرب في سوريا والعمليات الانتحارية التي لحقت بها مقرا لعمليات المتطرفين الذين قاموا بالتنسيق مع خلايا إرهابية وتواصلوا مع مجموعات متطرفة وتولوا إدارة تحركات إرهابية من داخل السجن.
* بين مايو (أيار) 2007 ومارس (آذار) 2014 وقعت 20 جولة قتال بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنية وجبل محسن في طرابلس، أوقعت مئات القتلى والجرحى.
* شهد الصراع بين المنطقتين تصعيدا على خلفية النزاع السوري وتأييد الغالبية السنية في لبنان للمعارضة السورية مقابل انحياز الأقلية العلوية التي توجد خصوصا في جبل محسن إلى النظام السوري.
* منذ أكتوبر (تشرين الأول) ينتشر الجيش بكثافة في المدينة وقام بمئات التوقيفات ومنع كل ظهور مسلح، ما أثار ارتياحا في المدينة.

* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟