يثير مفهوم الحاكمية، رغم ما راكمه الفكر السياسي من معالم معرفية، وتنظيمية دقيقة، نقاشا حادا في الأطروحات السياسية الإسلامية المعاصرة. ذلك أن تبني مقولة هيمنة حاكمية الله على حاكمية الأمة، وكون خضوع الأمة لقانون غير الشريعة داخلا في إطار الشرك، ووجها من وجوه الجاهلية، أدى إلى تجميد فعالية العقل الجمعي وطبيعة بناء الرؤى التعقلية للوحي، وعلاقتها بتكون الجماعات المسلمة عبر زمن ممتد، وترسيخها لنموذجها القيمي الخاص. كما أن زعم الهيمنة تجاهل كون البناءات المعرفية ترتبط باللحظات التاريخية، وإفرازاتها الاجتماعية، وبالتالي تخضع المفاهيم طبقا لعلم تاريخ الأفكار، والتاريخ المقارن، إلى التغير في الدلالة بتغير أحوال الاجتماع السياسي المنبثق منه العقل المعياري الجمعي. كيف يمكننا إذن إعادة النظر في طرح موضوع الحاكمية، بعيدا عن الرؤية الآيديولوجية، بشكل ينسجم وحق العقل الإسلامي العام في مراجعة بعض أسس الفكر الديني التقليدي والمقلد؟
نود أن نشير بداية إلى أننا ننطلق من مسلمة معرفية تقول إن مفهوم الحاكمية ليس مفهوما متمركزا حول نفسه، بمعنى أنه غير قادر علي تفسير ماهيته دون إسناده لمرجعية أشمل ينتمي إليها؛ يضاف إلى ذلك أن هذا المفهوم متغير الدلالة بتغير الحقول المعرفية التي يستعمل فيها. وهذا كاف لتجاوز ما تطرحه المدرسة التقليدية الإسلامية التي تزعم واحدية الحاكمية وعقديتها هكذا جملة وتفصيلا.
هناك بالطبع تداخل بين العقيدة الإسلامية والسياسة، غير أن ذلك لا يعني حاكمية الأولى على الثانية، ويمكن أن يفهم هذا بالرجوع لنظام القيم باعتباره وحدة للتحليل. فهذا النظام لا يربط نمط العلاقة الأخلاقية بالحكم كنصوص دينية أو سياسية، بل بالقيمة بوصفها تمثلا معنويا ساميا غير قابل للإشباع، مما يفرض السعي الجماعي الدائم إلى تحقيق مقصد القيمة عوضا عن تحقيقها باعتبارها كلمة معنوية مثالية.
ولو رجعنا لفلسفة النص القرآني لوجدنا أن الحاكمية مرتبطة بالسلطة القضائية، لا بالحكم بمعناه السياسي؛ ورغم أن هذا الأخير يدور حول الأفعال بحيث يكون الناس به أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فإن الحكم، أي السلطة السياسية، يهدف إلى تحقيق مضمون العدالة بوصفها قيمة عليا، بما يجسد حضور عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه في واقع الحياة غير معزولة عن الدنيا.
ويتبين هنا أن العدالة قيمة حاكمة، ترخي بظلالها على الحكم السياسي وهو يدبر المجال العام المشترك للدولة، بينما العدالة ترتبط أساسا بالجماعة وبالفرد الذي لا يتحقق وجوده إلا في ظل الجماعة التي تمده بالمرجعية المشتركة. وبما أن الوضع في حقيقته على هذا الحال، فإن قيمة العدالة أصل لوجود فرع هو الحكم السياسي؛ ومن الناحية المنهجية والعقلية فإن الفرع لا ينفصل عن أصله، علة ومقصدا، وجودا وعدما.
صحيح كذلك أن التضخم السياسي والتسييس المفرط للإسلام أدى لقلب الحقيقة أعلاه رأسا على عقب؛ مما أنتج تناقضا بين القيم السياسية الإسلامية والفلسفة القرآنية من جهة، وبين حكم الله وسلطة الأمة في المجال السياسي. وظهر ذلك جليا عند المدرسة التقليدية الإسلامية التي تزعم واحدية الحاكمية وعقديتها؛ حيث اتخذ مفهوم الحاكمية بعدا إطلاقيا غير مميز بين الأحكام العبادية المحضة، وغيرها؛ وبذلك تكون هذه المدرسة قد وسعت من مفهوم الحاكمية ليمس كل مجالات حياة البشر، ويدعي أن كل التشريع لله، وأن عقيدة الإسلام وشريعته كل متناسق في شؤون الدين والدنيا. والملاحظ أن التوسع المفهومي هنا خلط بين عدة مستويات ومجالات، منها مجالات العقيدة ومستويات نظام القيم السياسية؛ ووقوع هذا المحظور المنهجي والمعرفي أدى في نهاية المطاف لرفع شعار الحاكمية لله وحده، بشكله الآيديولوجي المتداول، وسهل بالتبع تكفير المسلمين على أساس نظام المفاصلة بين من يقول بالحكم لله، وبين سائر البشر.
والواقع أن هذا الطرح السياسي المهووس بالدين لا ينسجم والرؤية الصحيحة، ذلك أنه عاجز تماما عن الانطلاق من علو ومركزية القيم الإسلامية النهائية، باعتبارها قيما غير قابلة للتجاوز. لذلك نرى الهوس السياسي بالدين يقدم ما يعتبره فرض «أحكام الشريعة»، على نظام القيم، خاصة العدالة (التي أخذناها هنا كوحدة للتحليل)، مما يحول رؤيته الدينية والسياسية إلى تصور ينشر العنف والظلم والاستبداد السياسي.
ولا ينتبه هذا الطرح كذلك إلى أن خبرة الدولة والجماعة عبر تاريخها الإسلامي وهي تشتغل في المجال السياسي، أظهرت أن التشريع يرتبط أولا بإرادة الأمة، وثانيا بالدولة. فالممارسة السياسية للدولة تحولت إلى مشرع ورافد مهم من روافد الشريعة نفسها، وقد صيغ ذلك بطرق متدرجة ومتعددة، تطورت إلى أن وصلت إلى مرتبة النظام القانوني، مما دفع علماء الأمة لاعتبار «الممارسة السياسية لدولة الخلافة الراشدة بمثابة سوابق، فقهية قانونية».
ثم إن المدرسة التقليدية الإسلامية التي تزعم واحدية الحاكمية وعقديتها تطرح الإجماع باعتباره مصدرا من مصادر التشريع، وهذا ما يجعلها في «حرج شرعي»، حيث إن إجماع العلماء في الشأن الديني متعذر، والحصول على اتفاق أغلب العلماء في مسائل مخصوصة هو القابل للتحقيق. أما في المجال السياسي فليس هناك ما يمكن تسميته «إجماع القلة».
لأن رأي جمهور المسلمين من حيث ارتباطه بمنظومة القيم الإسلامية أعلى مكانة من أي إجماع (نقصد هنا الأغلبية) آخر في المجال السياسي عن غيره، لأنه يمثل الرأي العام وإرادته ومنظوره الطوعي تجاه القضايا المطروحة للتداول العام دينية كانت أم سياسية. وبالتالي تصبح إرادة الأمة الطوعية مقدسة وسامية، لأنها سلطة الأمة الحامية للترابط الاجتماعي للجماعة ونظام قيمها السياسية والحضارية.
عموما، يمكن القول إنه إذا كانت القاعدة المعروفة تقليديا تفيد بأن التشريع خاص بإرادة الله؛ فإن للأمة خبرة تاريخية مشاركة بفعالية في ذلك. وهكذا يمكننا أن نتجاوز المفهوم الجامد للحاكمية والشريعة، وأن نفسح المجال أكثر لتدخل العقل البشري الجمعي لتدبير أمور الحياة السياسية.. التي تركتها الشريعة منطقة عفو وفراغ في كثير من أحكامها وأمورها، لما تتسم به من دينامية، لم يكن من شأن الشريعة متابعتها نظرا لطبيعتها التغَيُّرية. ويمكن التأكيد كذلك أن ما يشرعه المجتمع عبر مؤسساته كالبرلمان، في موضوع معين، هو بمثابة شريعة جماعية لا تنتهك حرمتها ولا يمكن تجاوزها إلا بإعادة تكون إرادة طوعية جماعية جديدة، تعدل أو تلغي ما توصلت إليه الأولى.
وعليه يمكن القول كذلك إن حاكمية الله في شؤون الدين التعبدية مصدرية ومرجعية في الوقت نفسه، وليست مهيمنة على الحاكمية السياسية للأمة؛ ذلك أن الحاكمية ليست صفة ينفرد بها الله تعالى، بل هي حق وجودي للأمة الإسلامية لا ينفك عنها من حيث طبيعة رسالتها التبليغية للدين؛ ومن حيث كيفية تنظيمها لاجتماعها السياسي القائم على العدل والشورى والحرية. وبالتالي فإن حاكمية الأمة في الشأن السياسي هي أعلى مصدر للتشريع ما دامت هذه سلطة وحكم الأمة، وتعبيرا طوعيا عن إرادتها؛ وهذا يضمن لها صياغة منظور حضاري يعيش ويتطور بمنظومة قيم نهائية غير قابلة للتجاوز مهما اشتدت الظروف وتوالت النكسات.
* جامعة محمد الخامس - الرباط