إذا كان العام الجاري قد أثبت أنه عام مفصلي في القرن الحادي والعشرين في كل أنحاء العالم بسبب وباء «كورونا»، فإن العام المقبل سيكون حتما عاما مفصليا في ألمانيا.
فهو العام الذي سيشهد نهاية عهد المستشارة أنجيلا ميركل التي تحكم البلاد منذ ١٥ عاما، رغم أن خليفتها ما زال مجهولا حتى الآن. وهو العام الذي سيشهد نهاية قصة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، ويعيد بذلك ألمانيا إلى الواجهة في دورها داخل الاتحاد مع كل ما يحمله هذا التطور من تحديات ومخاوف لألمانيا لأسباب تاريخية. وهو العام كذلك الذي سيشهد بداية النهاية لعلاقات ألمانية - أميركية متوترة شهدت تدهورا غير مسبوق في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي سيغادر البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) القادم.
وتغادر ألمانيا هذا العام أيضا بإنجازات غير قليلة. فهي أعادت تثبيت موقعها على الخريطة كواحدة من أكثر الدول تقدما علميا وابتكارا بعد أن نجحت بأن تكون الأولى التي قدمت للعالم لقاحا ضد فيروس «كورونا»، بفضل عالمين ألمانيين من أصول مهاجرة تركية. ونجحت كذلك بفرض نفسها كوسيط دبلوماسي في الكثير من أزمات الشرق الأوسط، من ليبيا إلى تركيا واليونان وإيران، وحتى داخل الاتحاد الأوروبي، إن بدرجات نجاح متفاوتة.
لا يبدو حالياً في ألمانيا بأن هناك ما يشغل الحكومة والإعلام أكثر من جائحة (كوفيد - 19) والأضرار الاقتصادية الناجمة عنه. فهي المرة الأولى منذ 5 سنوات التي تقع فيها الحكومة بعجز مالي بسبب التعويضات الكبيرة التي تقدمها للشركات والأفراد المتضرّرين من الإغلاق طوال هذا العام. ولكن تطوير شركة «بيونتك» الألمانية للقاح لضد الفيروس وبدء اعتماده في بريطانيا، وقريباً في أوروبا، أظهرا أن «النور قد بدأ فعلا يظهر في نهاية النفق»، كما قالت ميركل نفسها.
مع بدء ظهور هذا «النور»، يمكن لألمانيا أن تعود لتركّز على مسائل أخرى مهمة كانت تجاهلتها هذا العام، أولها انتخاب خليفة لميركل في منتصف شهر يناير المقبل، بعدما تأجل هذا الاستحقاق السياسي مّرتين بسبب الجائحة. ويُذكر أنه في أبريل (نيسان) الماضي، حين كان من المفترض أن يجتمع المندوبون الألف وواحد في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي لانتخاب رئيس الحزب، كان أرمين لاشيت، رئيس حكومة ولاية الراين الشمالي ووستفاليا والمرشح المفضّل لدى ميركل، في الطليعة. ولكن حينذاك كان تفشي الفيروس في قمة الموجة الأولى.
وبالتالي، أجلت الانتخابات إلى أكتوبر (تشرين الأول)، ثم أجلت ثانيةً من أكتوبر إلى يناير بعدما بدأت الموجة الثانية من الجائحة في الخريف الماضي.
في الواقع، منذ أبريل (نيسان) الماضي، تغيّر الكثير في المعركة على خلافة ميركل. لاشيت، الذي غالباً ما نُظر إليه على أنه «الخيار الأضمن» لإكمال مسيرة ميركل، ما عاد المرشح المفضل ... على الأقل بالنسبة للناخبين في الحزب. إذ لفّه العديد من الفضائح منذ الربيع الماضي، بدأت بسوء إدارته لأزمة الجائحة في ولايته، ووصلت أخيراً إلى فضيحة منح الولاية عقداً لصنع كمامات واقية طبية بقيمة تزيد على الـ42 مليون يورو إلى شركة ألبسة تتعاون مع ابن لاشيت الذي يعرض ثيابها على صفحته على إنستغرام. ورغم نفي لاشيت وجود أية «معاملة خاصة» خلف منح الشركة الاتفاقية الباهظة الثمن، فإن سمعته تضررت ولم يعد المرشح الأكثر ترجيحاً لخلافة ميركل. ومن ثم، عاد إلى طليعة السباق رجل الأعمال فريدريش ميرز، الذي يحمل ضغينة مريرة لميركل بعدما تسببت بنفيه بعيداً عن الحياة السياسية طوال عقد من الزمن. بل حتى النائب نوربرت نوتغن، الذي يرأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب (البوندستاغ) سبقه في السباق إلى الزعامة فالمستشارية. وفي حال اختار الحزب ميرز، الذي ينتمي للجناح الأكثر يمينية في الحزب، فإن ألمانيا قد تكون مقبلة على تغيرات كثيرة، وبخاصة إذا غدا ميرز المستشار الجديد بعد الانتخابات العامة المقبلة في سبتمبر (أيلول) 2021.
العلاقات مع واشنطن والاتفاق النووي الإيراني
من ناحية أخرى، لن يكون انتخاب خليفة لميركل الحدث الوحيد المهم لألمانيا في يناير المقبل. فالقيادة في برلين تترقب تسلم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن ولايته الرئاسية، وستسعى مع الاتحاد الأوروبي لفتح صفحة جديدة في العلاقات عبر الأطلسي، مع تقديم ورقة «شراكة استراتيجية» جديدة له تحدّد معالم التعاون بين الطرفين.
بكلام آخر، تنتظر برلين تسلم بايدن منصبه لتفتح ملفات دولية كثيرة أمامه. ففي الملف الإيراني، يتأهب الأوروبيون وشركاؤهم في الاتفاق النووي الموقّع مع إيران لعقد اجتماع في العاصمة النمساوية فيينا.
وينتظر أن تبحث خلال الاجتماع مقاربة الإدارة الأميركية الجديدة لإيران، وكيفية حث قادتها على العودة للاتفاق الذي كان الرئيس دونالد ترمب قد تركه في العام 2018، وأعاد فرض العقوبات عليها.
إزاء تركيا، تبدو ألمانيا، كذلك، متردّدة في إعطاء موقف حازم من تدخلاتها في المنطقة واستفزازاتها لليونان وقبرص، بانتظار تبلور توجهات إدارة بايدن في هذا الملف. ورغم استمرار دفع برلين باتجاه الحوار مع تركيا وتفادي العقوبات، فهي لم تعُد تعارض فكرة العقوبات - كما كانت تفعل في البداية - بل باتت تسعى لربطها بموقف الإدارة الأميركية الجديدة التي تعهّدت بأن تكون أكثر حزماً من إدارة ترمب حيال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
ومع أن ألمانيا تنفست الصعداء لانتخاب بايدن، بعد الخلافات الكثيرة مع إدارة ترمب، فإن نقاطاً خلافية عديدة ستبقى قائمة حتى مع الإدارة الجديدة. مشروع غاز «نورد ستريم2»، مثلاً، الذي فرضت إدارة ترمب عقوبات عليه، سيبقى محل خلاف مع إدارة بايدن التي تعارضه هي أيضاً ... خاصة لأنه يزيد من اعتماد برلين على النفط الروسي. كذلك سيبقى الإنفاق الدفاعي لألمانيا محل انتقاد من واشنطن مع أن طريقة الانتقاد قد تختلف، فلا تحمل طابع الهجوم الشخصي على ميركل، كما كان يفعل ترمب. ومع أن ألمانيا تعي أن هذه الخلافات باقية، فإن حماستها للعمل مع إدارة بايدن لم تقل. إذ وصف بيتر فتيغ، السفير الألماني السابق إلى واشنطن، انتخاب بايدن بأنه «هبة من الله لألمانيا». وتابع «العلاقات الثنائية وصلت إلى الحضيض في عهد ترمب، وأن ألمانيا والمستشارة كانتا هدفه المفضل». ثم أردف «كل هذا انتهى الآن، وستشهد العلاقات الثنائية تحسناً ملحوظاً». غير أن السفير السابق استدرك، فأضاف أن العلاقات «لن تعود كما كانت في السابق حتى في ظل إدارة بايدن، لأن مركز الجاذبية الجديد أصبح آسيا مع الصين منافسة الولايات المتحدة الاستراتيجية».
أولويات ألمانيا الأمنية
وفي سياق متصل، بالنسبة للورقة الاستراتيجية التي تريد أوروبا أن تقدّمها لإدارة بايدن، ثمة إشارة للتعاون على مواجهة الصين فيما يتعلق بالتكنولوجيا والتجارة و«الأمن السيبراني» وغيرها. وحسب الدبلوماسي الألماني، فإن الكثير سيصبح مرتبطاً بهذه العلاقة بين واشنطن وبكين. وما يعنيه بكلامه هو أنه لن يظل بمقدور أوروبا الاعتماد على واشنطن كما في السابق، «بل سيتوجب عليها أن تبدأ من جديد وأن تخصص موارد أكبر لأمن أوروبا». ومع أن ألمانيا تراهن على أن يعكس بايدن قرار ترمب سحب آلاف الجنود الأميركيين المتمركزين لديها، فهي تعي جيداً أنها لن تكون قادرة على الاعتماد في أمنها على الولايات المتحدة بشكل كامل بعد الآن.
أيضاً، خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي سيسلط الضوء أكثر على حاجة ألمانيا للصعود بدورها على الصعيدين العسكري والسياسي. وهذا أمر تتفاداه ألمانيا تخوفاً من عودة صورتها القديمة كـ«الدولة القوية المسيطرة على أوروبا» كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية. وهي تحاول جاهدةً أن تستعيض عن ذلك، بتفعيل دبلوماسيتها خارج أوروبا، وداخلها. ولقد نجحت، مثلاً، في الأيام الماضية بإقناع المجر وبولندا بالموافقة على «حل وسط» اقترحته لدفعهما للموافقة على الميزانية الأوروبية للسنوات السبع المقبلة، وعلى خطة الإنعاش الأوروبية تحت وطأة (كوفيد - 19)، وذلك بعدما كانت الدولتان قد رفضتا الموافقة في البداية على ربط الأموال الأوروبية باحترام دولة القانون. وحقاً، عادت ألمانيا واقترحت موافقة قادة دول الاتحاد على تعهّد منفصل يسمح للدولتين اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية بشأن شرعية الآلية قبل تطبيقها. ومع أن الحكومتين اليمينيتين المتشددتين في المجر وبولندا خرجتا بعد الاتفاق لتعلنا «الانتصار على الأوامر الآيديولوجية» - كما غردت وزيرة العدل المجرية جوديت فارغا على تويتر - بوسع المستشارة ميركل القول إنها نجحت بإقناع وارسو وبودابست بالموافقة على هذه الميزانية المهمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وكما كتبت صحيفة «دي فيلت» الألمانية، كان على ميركل أن تظهر بأنها قادرة على حل الخلاف المتمثل بمعارضة المجر وبولندا «لأن الأمر يتعلق بميراثها (أي ميراث ميركل)، فهي تغادر منصبها بعد 9 أشهر، وقد تكون هذه القمة واحدة من أهم قمم القادة الأوروبيين طوال فترة حكمها.
(كوفيد - 19) يبقى التحدي الأول
ولكن أمام كل هذه التحديات، فإن مواجهة فيروس (كوفيد - 19) ستبقى في طليعة اهتمامات ألمانيا التي تسعى لتعاون أميركي وليس فقط لتعاون أوروبي لمواجهة الجائحة والأوبئة المستقبلية. وفي الورقة الاستراتيجية الأوروبية، تريد أوروبا تعاوناً أكبر مع الولايات المتحدة في مجالات مكافحة انتشار الأوبئة وتبادل معلومات أسرع في هذا الخصوص، وتخزين معدات طبية بشكل مشترك. وعلى وقع كل هذا، تبدأ ألمانيا مطلع العام الجديد عملية التطعيم الجماعي ضد الفيروس. وتتوقع وزارة الصحة أن يحصل لقاح شركة بيونتك / فايزر على موافقة مرجعيات الأدوية الأوروبية منتصف الشهر الجاري، على أن تبدأ عملية التطعيم مطلع العام المقبل. ووضعت الحكومة الاتحادية خطة لعملية التلقيح، ووزّعتها على الولايات التي ستكون مسؤولة عن اللوجيستيات ... من التخزين إلى توظيف الطواقم الطبية اللازمة.
الحكومة الفيدرالية ستوزّع جرعات محدّدة لكل ولاية، على أن تبدأ المرحلة الأولى بمنح اللقاح لمن هم فوق الثمانين في مراكز مخصّصة لذلك. وستستعين بعض الولايات بمراكز تلقيح متنقّلة لتطعيم المسنين في دور الرعاية. وفي المرحلة الأولى، كذلك، سيتلقى اللقاح العاملون في القطاع الطبي في مجالات معينة، ثم العاملون والطواقم الطبية في دور المسنّين. وفي المرحلة الثانية التي تتوقّع السلطات الصحية أن تبدأ في الصيف، سيصار إلى إرسال اللقاحات إلى عيادات الأطباء الذين سيكون بمقدورهم تلقيح السكان مباشرة. ومع أن ألمانيا حريصة على البقاء تحت مظلّة الاتحاد الأوروبي لجهة الحصول على تراخيص وحيازة وتوزيع اللقاحات، إلا أنها تتوقع كذلك أن تحظى بـ«أفضلية» معينة على باقي الدول كون اللقاح طوّر في مختبر ألماني وحظي تطويره بتمويل كبير من الحكومة الالمانية.
وخلال الشهر الماضي، قال وزير الصحة الألماني يانس شبان، بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن التعاقد مع شركتي بيونتك وفايزر للحصول على 300 مليون جرعة، إنه يتوقع أن تحصل ألمانيا على 100 مليون جرعة. ويمكن تلقيح 50 مليون شخص بهذه الجرعات، كون كل شخص سيحتاج الى جرعتين من اللقاح بفارق 20 يوما بينهما. ويقول الخبراء إن تلقيح 60 في المائة إلى 70 في المائة من السكان سينتج مناعة جماعية ضد الفيروس. وفي حال وافق 70 في المائة من السكان على تلقي اللقاح - الذي سيكون اختيارياً - تكون ألمانيا قد نجحت بخلق هذه المناعة. وحتى الآن تشير استطلاعات الرأي، إلى أن 35 في المائة سيأخذون اللقاح لدى توافره، بينما يقول 32 في المائة إنهم قد يأخذونه، مقابل 27 في المائة يرفضون ذلك. أما الباقون فلم يقرروا بعد.
في أي حال، إلى أن تصل ألمانيا إلى خلق هذه المناعة الجماعية، تظل أمامها أشهر طويلة من التعايش مع الفيروس ومحاولة إبقاء أعداد الإصابات تحت السيطرة. وكانت الأمور في الآونة الأخيرة - كما يظهر - قد بدأت تخرج عن السيطرة مع امتلاء أسرة العناية المركزة وتسجيل مئات الوفيات يومياً. وهذا واقع لم تشهده ألمانيا في الموجة الأولى، ما دفع بميركل أخيراً لإلقاء خطاب في «البوندستاغ» - وصفه البعض بأنه الأكثر عاطفية في تاريخ حكمها - حثّت فيه الألمان على تخفيف الاختلاط من أجل خفض أعداد الوفيات التي وصلت إلى 560 وفاة في يوم واحد. ولعل تجاوب الألمان مع ميركل، قد يحدّد ما إذا كانت ستغادر منصبها بعد 9 أشهر... وشعبيتها داخل ألمانيا في أعلى مستوياتها أم لا.