التضخم المتهاوي يحرج حكومة اليابان

«المركزي» يبقي على سياسة التيسير النقدي

تراجعت أسعار المستهلكين في اليابان بأكبر معدل في 10 سنوات بسبب برنامج دعم السفر المحلي وانخفاض أسعار الطاقة (إ.ب.أ)
تراجعت أسعار المستهلكين في اليابان بأكبر معدل في 10 سنوات بسبب برنامج دعم السفر المحلي وانخفاض أسعار الطاقة (إ.ب.أ)
TT

التضخم المتهاوي يحرج حكومة اليابان

تراجعت أسعار المستهلكين في اليابان بأكبر معدل في 10 سنوات بسبب برنامج دعم السفر المحلي وانخفاض أسعار الطاقة (إ.ب.أ)
تراجعت أسعار المستهلكين في اليابان بأكبر معدل في 10 سنوات بسبب برنامج دعم السفر المحلي وانخفاض أسعار الطاقة (إ.ب.أ)

أظهرت بيانات الحكومة اليابانية الجمعة أن أسعار المستهلكين في البلاد، التي تُعدّ العامل الرئيسي في تحديد معدل التضخم، انخفضت بنسبة 0.9 في المائة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، مسجلة أكبر انخفاض خلال أكثر من 10 سنوات بسبب برنامج دعم السفر المحلي وانخفاض أسعار الطاقة.
وانخفضت رسوم الإقامة بنسبة 34.4 في المائة عن العام السابق، بعد أن أطلقت الحكومة حملة ترويج للسفر في يوليو (تموز) لإعادة تشغيل صناعة السياحة والاقتصادات المحلية التي تضررت بشدة من جائحة «كوفيد - 19».
ومع ذلك، دفع الارتفاع الهائل الأخير في حالات الإصابة بفيروس «كورونا» حكومة رئيس الوزراء يوشيهيدي سوغا إلى تعليق البرنامج خلال الفترة من 28 ديسمبر (كانون الأول) الحالي إلى 11 يناير (كانون الثاني) المقبل.
واستقر مؤشر المستهلكين الأساسي، الذي يستثني الأطعمة الطازجة، عند 101.3 نقطة مقابل أساس قدره 100 نقطة لعام 2015، بحسب وزارة الشؤون الداخلية والاتصالات.
وتسبب الانخفاض الحاد في التضخم في انتكاسة لحكومة سوغا، حيث كان بعيداً عن هدف التضخم البالغ 2 في المائة الذي حدده بنك اليابان المركزي منذ أكثر من سبع سنوات.
وبدأ «البنك المركزي» في تطبيق تدابير التيسير النقدي في عام 2013 لتحفيز الاقتصاد والتغلب على الانكماش، الذي عانت منه البلاد لأكثر من عقد. وكان البنك قال في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنه يتوقع انخفاض أسعار المستهلكين بنسبة 0.6 في المائة في العام المالي الحالي الذي ينتهي في مارس (آذار) 2021، بعد تقديرات بتراجع قدره 0.5 في المائة في يوليو.
ومن جهة أخرى، قرر بنك اليابان المركزي، أمس (الجمعة)، الإبقاء على سياسة التيسير النقدي الفائقة من أجل تحفيز الاقتصاد الذي تضرر جراء تفشي وباء فيروس «كورونا» المستجد، والتغلب على الانكماش.
وقال البنك في بيان صدر عقب اجتماع لجنة السياسة النقدية الذي استمر يومين، إنه «رغم الانتعاش الذي يشهده الاقتصاد الياباني، فمن المتوقع أن تكون وتيرة التعافي ذات مستوى متوسط، في ظل استمرار الحيطة من وباء فيروس (كورونا)».
وأضاف البيان أن البنك قرر كذلك تمديد العمل بالبرنامج الخاص بدعم تمويل الشركات لمدة ستة أشهر أخرى حتى سبتمبر (أيلول) من العام المقبل، في ظل زيادة الإصابات بفيروس «كورونا» في البلاد.
وفي مايو (أيار) الماضي، قرر بنك اليابان المركزي ضخ مزيد من الأموال في البنوك لمساعدتها على منح قروض للشركات، في خضم التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي الوباء.
وسجل اقتصاد اليابان معدل نمو سنوياً بلغ 22.9 في المائة خلال الربع الثالث من العام الحالي، وهو أول نمو تسجله البلاد بعد معدل انكماش قياسي بلغ 29.2 في المائة خلال الفترة من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران) الماضيين.



«الفيدرالي»... من دور توسعي إلى سياسة نقدية مملّة

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
TT

«الفيدرالي»... من دور توسعي إلى سياسة نقدية مملّة

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

على مدى السنوات السبع عشرة الماضية، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي هو اللاعب الرئيس في السياسة الاقتصادية الأميركية؛ حيث قدّم تريليونات الدولارات للنظام المالي، وقدّم أموالاً رخيصة للغاية لفترة تقارب العقد، وتجاوز الحدود التقليدية خلال جائحة «كوفيد - 19»، وبدأ الانخراط في قضايا مثل المساواة وتغير المناخ. ولكن، مع مرور الوقت، تقلّص هذا الدور التوسعي ليقتصر على بيانات سياسية مقتضبة، ونقاشات بسيطة حول أسعار الفائدة، وانخفاض حيازته من السندات، مع تزايد الاحتمال بأن يُذكر رئيس «الاحتياطي الفيدرالي»، جيروم باول، ليس فقط بصفته الشخص الذي قاد الولايات المتحدة عبر الأزمة الاقتصادية التي خلّفها الوباء، وإنما أيضاً بوصفه من أعاد العمل المصرفي المركزي إلى رتابته، وجعل السياسة النقدية تبدو مملة مجدداً.

كان الرئيس السابق لـ«الاحتياطي الفيدرالي» في سانت لويس، جيمس بولارد، جزءاً من الفريق الذي شهد توسع دور البنك المركزي خلال أزمة 2007 - 2009 المالية، وشاهد ذلك الدور يتزايد مرة أخرى في أثناء جائحة «كوفيد - 19»، وهو الآن يرى هذا الدور يعود مجدداً إلى حالة أكثر طبيعية ومعتادة، وفق «رويترز».

يقول بولارد إنه في السنوات الأخيرة «كان علينا العودة إلى محاربة التضخم بشكل جاد، وهو أمر يذكّرنا بالأيام الماضية عندما لم نكن نهتم بالحد الأدنى للصفر، ولم نكن نهتم بسياسة الميزانية العمومية». وأضاف: «إنها سياسة تقليدية من حيث ذلك. لقد تغيّرت الأوقات». بولارد الذي يشغل الآن منصب عميد كلية «ميتش دانيلز» للأعمال في جامعة بوردو، سيلقي الكلمة الافتتاحية يوم الاثنين في مؤتمر بواشنطن، حول إطار السياسة النقدية لـ«الاحتياطي الفيدرالي» واستراتيجيته لتحقيق مهمته في تعزيز استقرار الأسعار والحد الأقصى للتوظيف.

وعلى الرغم من الجدل المحتمل حول «الاحتياطي الفيدرالي»، بسبب فوز دونالد ترمب في انتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مثل الإشارات التي تفيد بأن الرئيس المنتخب قد يُعيد إشعال خلافه مع باول عبر محاولة فصله أو تقويضه، فإن هناك احتمالاً آخر يبرز، وهو أنه مع السيطرة على التضخم، ونمو الاقتصاد، واستقرار أسعار الفائدة ضمن نطاقها التاريخي، قد يتراجع دور البنك المركزي قليلاً، تاركاً تركيزه المستمر على التضخم، ليكون أولوية للإدارة القادمة.

أسعار الفائدة المنخفضة للغاية لم تعد ضرورية

كانت اختيارات ترمب الأولية لفريقه الاقتصادي أكثر تقليدية مقارنة بغيرها. يتضمّن المؤتمر في واشنطن الذي ينظّمه المعهد الأميركي للبحوث الاقتصادية، كلمة رئيسة لمحافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي كريستوفر والر، الذي تم تعيينه خلال فترة ولاية ترمب الأولى في البيت الأبيض، والذي، مثل محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي ميشال بومان، سيقدّم خياراً داخلياً للقيادة الجديدة عندما تنتهي ولاية جيروم باول رئيساً للبنك المركزي في مايو (أيار) 2026. إلى جانب باول، كان والر قوة رائدة في توجيه المعركة ضد التضخم، وفي مساعدة نظام بنك الاحتياطي الفيدرالي على الابتعاد عن القضايا التي لا تقع ضمن نطاق السياسة النقدية المباشرة، مثل قضايا تغير المناخ التي أثارت توترات مع بعض الجمهوريين في الكونغرس.

ومن المحتمل أن يكون لوالر صوت قوي أيضاً في إصلاح إطار السياسة الحالي لـ«الاحتياطي الفيدرالي» الذي في وقت اعتماده خلال 2020 دفع البنك المركزي إلى أراضٍ جديدة يراها الكثير الآن غير متوافقة مع البيئة الاقتصادية الحالية، فقد أدت جائحة 2020 إلى بطالة واسعة النطاق، وجعلت معالجة سوق العمل أولوية قصوى لـ«البنك المركزي» الذي كان عازماً على تجنّب تكرار تباطؤ التعافي في التوظيف بعد أزمة 2007 - 2009، وهي فترة شعر الكثير بأنها تسببت في «عقد ضائع»؛ مما أثر في جيل كامل من العمال. كما أثارت معدلات التضخم الضعيفة المزمنة وأسعار الفائدة المنخفضة تاريخياً القلق بشأن الركود. وحاول إطار العمل لعام 2020 معالجة كل هذه القضايا من خلال التزام جديد بـ«التوظيف واسع النطاق والشامل»، وسط التوقعات بأن أسعار الفائدة ستظل منخفضة وتنخفض إلى مستوى الصفر «أكثر من أي وقت مضى».

إن «الحد الأدنى للصفر» يُعدّ لعنة وجودية لمحافظي البنوك المركزية؛ بمجرد أن تنخفض أسعار الفائدة إلى مستوى الصفر، لا تبقى سوى الخيارات السيئة والصعبة سياسياً لدعم الاقتصاد بشكل أكبر. ويمكن دفع أسعار الفائدة إلى المنطقة السلبية، مما يعني فرض ضريبة فعلية على المدخرات، أو يمكن اتخاذ تدابير غير تقليدية أخرى، مثل شراء السندات على نطاق واسع لقمع أسعار الفائدة طويلة الأجل، أو حتى الوعد بإبقاء الأسعار منخفضة لفترة ممتدة. كان الحل الذي لجأ إليه بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2020 هو تقديم وعود بفترات من التضخم المرتفع لتعويض فترات ضعف نمو الأسعار، على أمل أن تبقي هذه السياسة التضخم ضمن هدف البنك المركزي البالغ 2 في المائة في المتوسط. لكن ما تلا ذلك، لأسباب متعددة، كان أسوأ تضخم شهدته الولايات المتحدة منذ 40 عاماً؛ مما دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد في عامي 2022 و2023.

وبغض النظر عن تبعات هذه الإجراءات على المشهدَين الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة، فقد ساعدت هذه السياسات في تحفيز الاقتصاد بالكامل وأعادت السياسات المالية إلى المقعد الأمامي. كما قال رئيس استراتيجية السوق العالمية في «ترايد ستايشن»، ديفيد راسل: «الاقتصاد وسوق الأوراق المالية ببساطة لم يعودا في حاجة إلى أسعار فائدة منخفضة للغاية. من المحتمل أن تكون سياسة التجارة والضرائب أكثر أهمية من السياسة النقدية في المستقبل».

الإجراءات الاستباقية «ضرورية»

يرى مسؤولو «الاحتياطي الفيدرالي» الآن أن ضغوط التضخم لا تزال مرتفعة مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة، مع بقاء معدلات الفائدة مرتفعة بما يكفي لتحقيق أهدافهم من خلال رفعها وخفضها، تماماً كما كان الحال قبل «الركود العظيم» الذي دفع إلى استخدام الأساليب غير التقليدية منذ 17 عاماً.

ولا تزال هذه الأدوات في متناول اليد، وقد تشهد الصدمات الكبيرة عودة استخدامها. يزعم بعض خبراء الاقتصاد، على سبيل المثال، أن سياسات الإدارة القادمة لترمب، مثل رفع أسعار الواردات من خلال التعريفات الجمركية، وتحفيز الإنفاق عن طريق خفض الضرائب، وتقييد سوق العمل من خلال الحد من الهجرة، قد تهز اقتصاداً يشعر «الاحتياطي الفيدرالي» أنه في حالة صحية ومتوازنة حالياً. ومع ذلك، هناك توافق ناشئ على أن الإطار الحالي للبنك المركزي تم تصميمه بشكل مفرط، وفقاً لظروف ومخاطر العقد الذي تلا أزمة 2007 - 2009 وفترة الوباء، وأنه يحتاج إلى العودة لموقف أكثر حذراً بشأن التضخم. تشير أبحاث موظفي بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أن هذا الموقف يوفّر نتائج أفضل لسوق العمل بوجه عام، وأن العودة إلى الفلسفة التقليدية المتمثلة في قمع التضخم قبل أن يتفشى قد استعادت التأييد.

وكتب الاقتصاديان كريستينا رومر وديفيد رومر، في بحث قدماه في مؤتمر مؤسسة «بروكينغز» في سبتمبر (أيلول)، أن «إجراءات السياسة النقدية الوقائية ليست فقط مناسبة، بل ضرورية». وأضافا: «يجب على (الفيدرالي) ألا يسعى عمداً إلى سوق عمل ساخنة»؛ لأن الأدوات الحادة للسياسة النقدية «لا يمكنها تقليص الفقر أو مواجهة التفاوت المتزايد». ويبدو أن جيروم باول قد توقّع التغييرات المقبلة، وليس التغييرات غير المرغوب فيها؛ حيث تشير هذه التغيرات إلى أن الولايات المتحدة قد تخلّصت من الحاجة إلى دعم استثنائي من بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو أمر لم يكن مرتاحاً له تماماً في سنواته الأولى بوصفه محافظاً لـ«البنك المركزي».

وبعد دفع قوة «الاحتياطي الفيدرالي» إلى أقصى حد خلال فترة الوباء، قد يترك باول لخليفته مؤسسة أكثر تركيزاً. قال باول خلال الشهر الماضي في دالاس؛ حيث تحدّث عن العودة إلى أسلوب «تقليدي» أكثر للعمل المصرفي المركزي: «لقد انتهت عشرون عاماً من انخفاض التضخم بعد عام وأربعة أشهر من تطبيقنا للإطار». وأضاف: «ألا ينبغي لنا أن نعدّل الإطار، ليعكس ارتفاع أسعار الفائدة الآن، بحيث لا تكون بعض التغييرات التي أجريناها هي القاعدة الأساسية بعد الآن؟».