الصراعات شكلت المجتمعات والمجتمعات أنتجت صراعات في دورة لا تتوقف

نسي الجيل المعاصر من الغربيين الحروب وويلاتها بعدما انتهت «عالميتهم الثانية» منذ خمسة وسبعين عاماً، وعمّ السلام (الباكسأميركانا على نسق الباكسرومانا - فترة السلام الطويل في عصر الإمبراطوريّة الرومانيّة) الهادئ مثل ربوع دول الشمال في أوروبا واليابان والعالم الأنغلوفوني، فيما انتقلت الصراعات بعيداً إلى الأطراف القصيّة وشاشات التلفزة، وأصبحت تمس أنواعاً مختلفة عنهم من البشر. ويكاد يسود -كما تقول البروفسورة مارغريت ماكميلان مؤلفة كتاب «الحرب: كيف شكلتنا الصراعات»- إحساس عام موهوم بأن السلام هو الحالة الطبيعيّة للبشر، في حين أن الحقيقة «أن تاريخهم بأغلب مفاصله شكّلته الحروب: ستجدها دائماً في كواليس مؤسساتهم الاجتماعيّة والسياسيّة، ومنطلقاً رئيساً لقيمهم وأفكارهم». ولذلك فإن أي محاولة لفهم ماضي أي مجتمع -وحاضره- تتطلب بالضرورة العبور من الأدوار التي كانت للحروب، سواء كنا نتحدّث عن العصور القديمة أو الوسطى أو عصر النهضة أو العصر الرأسمالي الحديث منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم.
ليس الأمر مسألة مرتبطة بالتأريخ كمنهج نظري فحسب، بل إن كثيرين من علماء الإنسانيات (الأنثروبولوجيا) المعاصرين يزعمون أن فكرة انتظام البشر في مجتمعات إنما كانت مرتبطة منذ اليوم الأوّل بالتأهب لخوض الصراعات المسلّحة: إذ تتطلّب الإدارة الفاعلة لأعمال القتل الجماعي ضد آخرين هيكليّة تحدد من يعطي الأوامر ومن يتلقاها، كما ترتيبات لوجيستيّة أشد تعقيداً من الأنشطة الإنسانيّة السلميّة الطابع؛ ارتباط تراه ماكميلان جدليّاً: الصراعات شكلّت المجتمعات، والمجتمعات أنتجت صراعات، وهكذا في دورة لا تتوقف.
ورغم أنّ «الحرب» من ناحية المفهوم اللغوي تبدو قريبة للأذهان، فإنّها ما تلبث تناور عند محاولة القبض على تعريف محدد لها، بالنظر إلى أنّها اتخذت أشكالاً متفاوتة كثيرة عبر الحقب، وهو أمر اشتكت منه ماكميلان ذاتها، الخبيرة بالحروب، لتنتهي إلى توصيفها بأنها «عمل منظّم من أعمال العنف ضد منظومة أخرى بهدف نهائي متمثل في إجبار الجانب الآخر على الخضوع». ويعني هذا التوصيف عندها أن جزئيّة «التنظيم» هي المفتاح، فصراع أفراد في الشارع -بغض النظر عمّا يمكن أن نسميه- ليس حرباً، إذ لا بدّ أن ينطوي الصراع على هيئات منظمة توقع العنف على هيئات منظمة أخرى كي يتأهل لتسمية الحرب، سواء كان ذلك صراعاً بين طوائف دينية متنافسة أو اقتتال أهلي بين قوميّات أو إثنيّات أو تيّارات سياسيّة، أو نزاع مسلّح بين دولتين، أو عدة دول.
وتفرّق ماكميلان بين الدّوافع البشريّة إلى شن الحروب على مستويين، فهناك دوافع تؤدّي بمنظّومة كبيرة -سواء كانت إقطاعية أو دولة أو مملكة أو إمبراطورية- لخوض الحرب، وهذه يمكن أن تتراوح من الغزو لتحقيق المكاسب (أراض، وموارد،... إلخ) أو الدفاع ضد اعتداء آخرين، إلى مسائل معنويّة، كالكرامة الوطنيّة واسترداد الشرّف. ثم هناك الدوافع التي تلهم الأفراد -بصفتهم أفراداً- للذهاب إلى الحرب التي يمكن أن تكون أكثر تعقيداً بما لا يقاس. وقد لعبت ثقافة الشعوب هنا دوراً مهماً -مفاجئاً في كثير من الأحيان- إذ مالت بعض الثقافات القديمة مثلاً إلى تمجيد القتال (النساء أحياناً، ولكن الرجال أساساً)، وترعرعت أجيال من شبانها على أن خوض المعارك أنبل الأشياء التي يمكن للإنسان القيام بها في حياته، ومنهم كثيرون طامحون أرادوا إظهار كفاءتهم في خضّمها، أو هم -كما كان الحال في الجمهوريّة الرّومانيّة وبريطانيا إبّان الحرب العالميّة الأولى- يقعون تحت ضغوط اجتماعيّة لا ترحم تدفعهم للمشاركة في العمل العسكري المنظّم، بينما يتعرّض المستنكفون للعزل والعار وتشويه السمعة، وربّما السجن أحياناً. وهي ترى الثورة الفرنسيّة غيّرت بشكل جذري من نظرة أوروبيي العصور الوسطى تجاه الانخراط في القتال بصفته واجباً دينياً أو ولاءً للملك إلى نوع من المسؤولية الجمعيّة التي يحملها المواطنون بالتساوي لناحية حماية الدّولة التي هي ملكهم بالتضامن. وتخلق الروابط الرّفاقيّة المكثفة بين عناصر فرق القتال -وفق عشرات المذكرات التي تركها جنود في الحربين العالميتين- حافزاً لدى بعضهم لكي يقاتلوا من أجل رفاقهم، وخوفاً من خذلناهم في وقت الشّدائد.
ولعل واحدة من المفارقات الكثيرة للحرب التي يطرحها كتاب «الحرب: كيف تشكلنا الصراعات» أنها دفعت في كثير من الأحيان إلى تحقيق التقدم المادي والتقنيّ. فبعض الأشياء التي تبدو مستحيلة في زمن السلم، تصبح ممكنة زمن الحرب، حين تجد الحكومات نفسها على المحكّ، فتتولى تدبير المصادر لتمويل مشاريع طموحة لم تكن لتجرأ عليها ربّما في أوقات مستقرّة، لا سيما أن السلطات يمكنها بحكم التهديدات الوجوديّة فرض ضرائب استثنائيّة، ويتقبّل جلّ الجمهور الحاجة المستجدة لتعبئة جميع الموارد الوطنية، ولا يجرأ كثيرون عندئذ على الاعتراض. ولعل أهم مثال معاصر لنا هو مشروع «مانهاتن» الأميركي لتطوير أوّل قنبلة نوويّة. لقد استهلك ذلك المشروع من الموارد التي لو وظّفت في قطاعات أخرى لقضت على الفقر تماماً في الولايات المتحدّة، لكن أغلبية الأميركيين خلال الحرب العالميّة الثانيّة كانت تحت وهم الاعتقاد بأنّ إنتاج السلاح أولويّة وطنيّة فوق أي اعتبار آخر. وتقول ماكميلان إن تطوير الأسلحة النوويّة لأغراض الحرب والقتل الجماعي مكن في الوقت ذاته من استكشاف التطبيقات السلميّة الكثيرة للطاقة النووية. والبنسلين قد يكون مثالاً آخر، إذ اكتشفه ألكسندر فليمنغ عام 1928، لكن تكاليف إنتاجه بكميّات كبيرة كانت مرتفعة للغاية، ولم يتم تجاوزها إلا عندما حدث سفك الدّماء المليوني في الحرب العالمية الثانية، لتجد الحكومات طرائق مختلفة لجعل تلك النفقات محتملة، وتوفيره بصفته علاجاً مجانياً للجرحى، وبأسعار ميسّرة للمواطنين.
ويذهب مؤرخون اقتصاديون معاصرون إلى الزّعم بأن الحروب شكلّت دائماً نوعاً من الضغوط الحاسمة لتقليص الفجوة الاقتصاديّة بين طرفي المجتمع -الذين يملكون والذين لا يملكون- ومنحت الشرعيّة لتدّخل واسع للدولة على نحو فرض تقريب القطبين من بعضهما، سواء من خلال فرض ضرائب إضافيّة على المقتدرين، وكذلك منع تدهور أوضاع الطبقة الأقل حظاً. ووفق ماكميلان دوماً، فإن دراسات متقاطعة قالت إن البريطاني (العادي) كان أفضل تغذية خلال الحرب العالمية الثانية منه في أي وقت مضى. وربما شهدت الفترة من عام 1914 إلى الستينيات أكبر قدر من المساواة الاقتصادية في المجتمعات الغربية، وهي الفترة الصعبة ذاتها التي شهدت حربيين عالميتين.
وما عدا التقدّم الاقتصادي، بصفته عَرَضاً جانبياً للحرب، فإن التقدّم الاجتماعي كثيراً ما كان أيضاً مرتبطاً -في الغرب تحديداً- بفترات صراعات دمويّة. وتقدم ماكميلان مثالاً ملهماً من بريطانيا التي كانت النساء فيها حتى الحرب العالميّة الأولى محرومات من التصويت، رغم الحملات البطوليّة التي نفّذتها نساء رائدات دعون للمساواة مع الرّجال، إذ كان الانطباع العام -بما فيه أوساط النساء أنفسهن- أنهن غير مؤهلات لاتخاذ القرارات المهمة، وليست لهن القدرة على القيام بالوظائف الشاقة نفسها التي يقوم بها الرجال. ومع ذلك، فخلال الحرب العالمية الأولى، عندما أُرسل الرجال بعيداً للقتال، ولم يعد منهم كثيرون، فإن كثيراً من الوظائف المخصصة للذكور تقليدياً تولتها نساء. وقضت تجربة الحرب تلك على كل الأوهام المتعلقة بإمكاناتهن، بعد أن اتضح أن البريطانيات قدّن، وربّما بشكل أفضل من رفاقهن الرجال أحياناً، عمليّات الإنتاج والإدارة، من قيادة الجرارات إلى العمل على خطوط تجميع المصانع وإدارة المكاتب، ناهيك من المشاركة الفاعلة في مختلف الأنشطة اللوجيستيّة للمجهود الحربي. وبعد أن توقفت المدافع، تبخّرت كل معارضة لحصول النساء على التصويت كأنها لم تكن.
ولكن هل ستكون الحرب دائماً ممراً للبشريّة لا مفر منه نحو تحقيق تقدم نوعي في الاقتصاد والاجتماع؟ تضرب المؤلفة مثلاً من نهاية الحرب الباردة عندما توارى الاتحاد السوفياتي وراء جدار الماضي، وذهب المحللون قصيرو النظر إلى القول بنهاية التاريخ وانتهاء الصراعات الكبرى، ثم حدث غزو العراق عام 2003، والحرب في أفغانستان، والآن هناك صراعات ما زالت مفتوحة معقدّة في سوريا، وبين أذربيجان وأرمينيا، ولا شكّ ستتطور بالغد صراعات أخرى، وجميعها سيكون لها إسقاطات مختلفة على مجتمعاتها. في المقابل، ترى المؤلفة أن معظم المواجهات لن تكون عبر قتل الناس بعضهم لبعض في المعارك مباشرة، بل قد تأخذ شكل حروب سيبيريّة لشل النّظم التي يعتمد عليها العدو، دون حاجة لإنزال الجنود على أرضه أو رسو السفن قبالة مواقعه. لكن ذلك لا يعني بالضرورة حروباً نظيفة، لأن مجرد النظر إلى مدى اعتماد المجتمعات الآن على عشرات الشبكات المحوسبة في كل عمليّات الإنتاج والبنية التحتية والتشغيل اليومي والأمني والاقتصادي، قد تدفعنا للهلع. ولذلك هي لا تمنحنا أي تأكيدات إيجابيّة بشأن المستقبل، وننتهي من قراءة «الحرب: كيف تشكلنا الصراعات» بقناعة واثقة، مفادها: الحروب لن تنتهي من الحيثيّات الإنسانيّة في أي وقت قريب.
«الحرب»: كيف شكلتنا الصراعات
War: How Conflict Shaped Us, MacMillan, Margaret
المؤلفة: مارغريت ماكميلان
الناشر: «راندوم هاوس» - أكتوبر (تشرين الأول) 2020