«الجاسوس الروائي» جون لو كاريه... مختبر متنقل لاستكشاف تقاطعات العلاقات الإنسانية

أعماله سجلت تأريخ سيكولوجيا البريطانيين وثقافتهم الجمعية

جون لو كاريه
جون لو كاريه
TT

«الجاسوس الروائي» جون لو كاريه... مختبر متنقل لاستكشاف تقاطعات العلاقات الإنسانية

جون لو كاريه
جون لو كاريه

نهاية الأسبوع الماضي غيّب الموت الروائي البريطاني ديفيد كورنويل عن 89 عاماً، والشهير باسم «جون لو كاريه» (مواليد 1931)، والذي يكاد يجمع النقاد على تنصيبه ملكاً لأدب الجاسوسية الإنجليزي، وربما أهم روائي بريطاني منذ منتصف القرن العشرين. وبحسب بيان «بنغوين راندوم هاوس»؛ ناشره، صدر الأحد 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، فإن صاحب رواية «الجاسوس الذي أتى من الصقيع - 1963»، التي أصبحت من كلاسيكيات مرحلة الحرب الباردة، توفي في مستشفى «كورنوال» الملكي نتيجة مضاعفات التهاب رئوي ألمّ به. وقد تقاطرت منذ ذلك الحين عشرات الشهادات من كبار الأدباء والروائيين والناشرين الذين تقاطعوا على تتويجه عملاقاً في أدب الجاسوسية وأحد أهم الروائيين البريطانيين المعاصرين؛ إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
ترك لو كاريه في أكثر من 20 رواية له بصمات لا تنسى على صورة العمل الاستخباراتي البريطاني في المخيال العام داخل بلد مهووس بالجاسوسيّة وقصصها، مسجلاً بأدوات الخيال الأدبي مسار تراجع مكانة بريطانيا في الساحة الدّوليّة بعد الحرب العالميّة الثانية وعقم بيروقراطيتها. وإذا كانت الصورة الغالبة قبله عن مهنة عميل الاستخبارات في وسائل الإعلام الجماهيري مثيرة وبرّاقة نموذجها تلك الشخصيّة التي أبدعها الروائي إيان فليمنغ؛ أي العميل السري رقم «007» جيمس بوند - الأنيق والموهوب وخارق الذكاء والمكرس لخدمة جلالة الملكة والبلد -، وحيث المعارك السريّة تنتهي دائماً بانتصار دولة الخير - بريطانيا - على الأشرار - الروس وبقيّة الطامعين في المملكة -، فإن أعمال لو كاريه قلبت تلك النمذجة الأسطوريّة رأساً على عقب، لتصوّر عمليات الاستخبارات البريطانية أقرب لدوامة من الغموض الأخلاقي المبهم تكون فيها مسائل الصواب والخطأ نسبيّة جداً ومتقاربة جداً، ونادراً ما يُعرف ما إذا كانت غاياتها تبرر الوسائل المستخدمة - هذا على افتراض وضوح الغايات نفسها من حيث المبدأ -، فيما شخصيّة الجاسوس البطل جورج سمايلي - الذي رافقه في روايات عدة أولاها عام 1961 وأخراها 2017 - نقيض مطلق لجيمس بوند: قصير القائمة، مترهل الجسم، قليل الاعتناء بمظهره، يقضي أيّامه وحيداً مفتقداً السعادة ويعيش في فقاعة آيديولوجيّة تحاصره البيروقراطيّة والتقشّف في النفقات العامة والرؤساء العقيمون، فيما عدوّه - شخصيّة العميل الروسي كارلا - تكاد تكونه مع خلاف الموقع الآيديولوجي على الجانب الآخر من الجدار. وقد مثّل هذا الثنائي الاستخباري ولعبة القط والفأر بينهما - دون أن ندرك من منهما أيهما - أفضل نماذج أدب جاسوسيّة فترة الحرب الباردة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وللحقيقة؛ فإن وصف أعمال لو كاريه الروائيّة بـ«أدب الجاسوسيّة» لا يمنحها حقّها بالكامل، فهي كأنها مختبرات متنقلة لاستكشاف تقاطعات العلاقات الإنسانيّة في أعقد صورها هناك حيث تبهت الحدود بين الكذب والحقيقة، والخيانة والحب.
صقلت موهبة لو كاريه في النّظر المعمّق وراء المظاهر الخادعة من تجاربه الحياتيّة المبكّرة سواء لناحية علاقته الصعبة بوالده؛ رونالد كورنويل، ثم التحاقه منذ أيّام دراسته الجامعيّة بالعمل الاستخباراتي البريطاني في قلب أوروبا. فوالده الذي كان شخصيّة كاريزميّة ساحر اللسان اتخذ الاحتيال مهنة وتقلّب وعائلته بين الثّراء الفاحش والفقر المدقع، وتكررت زياراته إلى السجون، وقد فرّت والدة ديفيد بنفسها مع رجل آخر فمنعه من رؤيتها مدعيّاً أنها مرضت وماتت، وكثيراً ما كان جامعو الديّون يطاردونه حيثما ذهب. وقد ساءت علاقتهما أكثر بعدما أصاب الثراء لو كاريه جراء نجاحات كتبه، فحاول والده الحصول منه على المال وتوقفا عن التحدث واكتفى عند وفاته بدفع مصاريف الجنازة دون حضورها. لكن التجربة الأهم كانت 16 عاماً (خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي) قضاها جاسوساً لدى جهاز المخابرات البريطاني بغرفتيه الخارجيّة والداخليّة بعد تجنيده في سويسرا أثناء دراسته اللغة الألمانيّة بجامعة بيرن على يد عميل اتخذ من السفارة البريطانيّة هناك غطاء لعملياته في وسط أوروبا، وقد خدم منها فترة في ألمانيا الغربيّة تحت ستار مهمّة دبلوماسيّة لدى سفارة بلاده.
لكن، هذه التجارب القاسية لم تسجن روح لو كاريه الخلاقة أو خياله الفائر بقدر ما مثّلت له نقاط تأسيس وانطلاق ومصدر مصداقيّة وموثوقيّة لتناول قضايا الخداع البشري المعقدّة في رواياته؛ سواء على الصعيد الشخصي والمهني الاحترافي، وهما جانبان تقاطعا واشتبكا في معظم العناوين التي نشرها. ومن المعروف أنه ابتدع اسم «جون لو كاريه» تمويهاً على اسمه الحقيقي عندما نشر أول ثلاث روايات له بينما كان لا يزال موظفاً لدى الاستخبارات، لكنه استقال في 1964 بعد النجاح الصاعق لـ«الجاسوس الذي أتى من الصقيع»، وتفرّغ من حينها للكتابة والبحث بشكل دائم في مهنة امتدت لأكثر من نصف قرن. وبغير أدب الحرب الباردة - مساحته الأثيرة ومصدر ثروته وشهرته -، تناول لو كاريه لاحقاً مواضيع وثيمات سياسيّة عدّة، مثل الصراع العربي - الإسرائيلي، ومافيات تهريب السلاح، وجبروت شركات الأدوية، كما ممارسات التعذيب التي استخدمتها الأجهزة الاستخبارية الأميركية والبريطانية تحت غطاء مكافحة الإرهاب، جاعلاً من العالم برمته مسرحاً لأحداث روايته من رواندا إلى الشيشان وتركيا، ومن بنما وجزائر البحر الكاريبي إلى جنوب شرقي آسيا.
خبرة لوكاريه الاستخباراتية وبحوثه التحضيريّة المعمقة لموضوعات رواياته سمحت لكتاباته بالخوض في قضايا جدليّة عكست بشكل متزايد - لا سيّما بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة - رؤيته السياسيّة ومواقفه السلبيّة من بعض توجهات حكومة بلاده، لا سيما عند تورّطها في حرب العراق ودور أجهزة الاستخبارات البريطانيّة في تلفيق أدلّة كاذبة عن امتلاك النظام العراقي وقتها أسلحة دمار شامل، ولو كان ذلك أحياناً على حساب شعبيته لدى القراء الإنجليز التقليديين الذين، رغم كل شيء، ما زالوا يضعون استخباراتهم الوطنيّة فوق الشّبهات. كما اشتبك مع الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي بعدما نشر الأخير آياته الشيطانيّة، عادّاً أنّه «ليس من حق أحد إهانة المشاعر الدينية ونشرها علانية بحجّة حريّة التعبير».
تجنّب لو كاريه شهرة المهرجانات وعلاقات مشهد لندن الأدبي الاجتماعي رغم أن سياسيين وضباط استخبارات حرصوا على الالتقاء به، ومنهم مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانيّة السابقة التي استبقته على طعام الغداء مرات عدّة، وروبرت مردوخ ملك الصحافة البريطانيّة، كما منحته جامعات بريطانيّة عدّة شهادات فخريّة. وقد منع ناشريه من تقديم أي من رواياته للجوائز الأدبيّة، ورفض رفضاً قاطعاً القبول بألقاب ملكيّة فخرية عادة ما تمنح لكبار الشخصيات البريطانيّة في مختلف المجالات، وماطل في منح باحثين الفرصة للاطلاع على أوراقه الخاصة بغرض كتابة سيرته، لكنه فاجأ الجميع عام 2016 بنشره كتاباً ضمنه قصّة حياته، بينما صدرت روايته الأخيرة «عميل يعدو في الميدان» عام 2019 وهو في الـ88 من عمره محتفظاً بألق نثره المعهود.
ترجمت نتاجاته إلى معظم اللغات الحيّة في العالم - بما فيها العربيّة - كما نقل معظمها إلى السينما والتلفزيون - بعضها مرات عدّة - وشارك في تقديمها ممثلون عالميون؛ بمن فيهم ريتشارد بيرتون، وأليك غينيس، ورالف فينيس، وغاري أولدمان، لكن وجود هؤلاء النجوم لم يمنع اسمه (الأدبي) من الظهور مقدماً في كل بوسترات الأفلام ودعاياتها كما لو كان علامة ضمان للجودة، ولا شكّ في أن مكانته عند القرّاء - كما عند الجواسيس - ستبقى موضعاً للإجلال، وأعماله بمجملها ستكون بمثابة سجّل تأريخ لسيكولوجيا البريطانيين وثقافتهم الجمعيّة خلال السبعين عاماً الأخيرة.



السنة الأمازيغية 2975... احتفاء بالجذور وحفاظ على التقاليد

نساء أمازيغيات يرتدين ملابس تقليدية يشاركن في احتفال بمناسبة الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2975 في الرباط 14 يناير 2025 (إ.ب.أ)
نساء أمازيغيات يرتدين ملابس تقليدية يشاركن في احتفال بمناسبة الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2975 في الرباط 14 يناير 2025 (إ.ب.أ)
TT

السنة الأمازيغية 2975... احتفاء بالجذور وحفاظ على التقاليد

نساء أمازيغيات يرتدين ملابس تقليدية يشاركن في احتفال بمناسبة الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2975 في الرباط 14 يناير 2025 (إ.ب.أ)
نساء أمازيغيات يرتدين ملابس تقليدية يشاركن في احتفال بمناسبة الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2975 في الرباط 14 يناير 2025 (إ.ب.أ)

يحتفل الأمازيغ حول العالم وخاصة في المغرب العربي بعيد رأس السنة الأمازيغية في 12 أو 13 من يناير (كانون الثاني)، التي توافق عام 2975 بالتقويم الأمازيغي. ويطلق على العيد اسم «يناير»، وتحمل الاحتفالات به معاني متوارثة للتأكيد على التمسك بالأرض والاعتزاز بخيراتها.

وتتميز الاحتفالات بطقوس وتقاليد متنوعة توارثها شعب الأمازيغ لأجيال عديدة، في أجواء عائلية ومليئة بالفعاليات الثقافية والفنية.

وينتشر الاحتفال ﺑ«يناير» بشكل خاص في دول المغرب والجزائر وتونس وليبيا والنيجر ومالي وسيوة بمصر.

أمازيغ يحتفلون بالعام الجديد من التقويم الأمازيغي في الرباط بالمغرب 13 يناير 2023 (رويترز)

جذور الاحتفال

يعود تاريخ الاحتفال برأس السنة الأمازيغية إلى العصور القديمة، وهو متجذر في الحكايات الشعبية والأساطير في شمال أفريقيا، ويمثل الرابطة بين الأمازيغ والأرض التي يعيشون عليها، فضلاً عن ثروة الأرض وكرمها. ومن ثمّ فإن يناير هو احتفال بالطبيعة والحياة الزراعية والبعث والوفرة.

ويرتبط الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة بأصل تقويمي نشأ قبل التاريخ، يعكس تنظيم الحياة وفق دورات الفصول.

وفي الآونة الأخيرة، اكتسب الاحتفال برأس السنة الأمازيغية أهمية إضافية كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية الأمازيغية حية.

ومصطلح «يناير» هو أيضاً الاسم الذي يُطلق على الشهر الأول من التقويم الأمازيغي.

خلال احتفال لأمازيغ جزائريين برأس السنة الأمازيغية الجديدة «يناير» في ولاية تيزي وزو شرق العاصمة الجزائر (رويترز)

متى رأس السنة الأمازيغية؟

إن المساء الذي يسبق يناير (رأس السنة الأمازيغية) هو مناسبة تعرف باسم «باب السَنَة» عند القبائل في الجزائر أو «عيد سوغاس» عند الجماعات الأمازيغية في المغرب. ويصادف هذا الحدث يوم 12 يناير ويمثل بداية الاحتفالات في الجزائر، كما تبدأ جماعات أمازيغية في المغرب وأماكن أخرى احتفالاتها في 13 يناير.

يبدأ التقويم الزراعي للأمازيغ في 13 يناير وهو مستوحى من التقويم اليولياني الذي كان مهيمناً في شمال أفريقيا خلال أيام الحكم الروماني.

يمثل يناير أيضاً بداية فترة مدتها 20 يوماً تُعرف باسم «الليالي السود»، التي تمثل واحدة من أبرد أوقات السنة.

أمازيغ جزائريون يحتفلون بعيد رأس السنة الأمازيغية 2975 في قرية الساحل جنوب تيزي وزو شرقي العاصمة الجزائر 12 يناير 2025 (إ.ب.أ)

ما التقويم الأمازيغي؟

بدأ التقويم الأمازيغي في اتخاذ شكل رسمي في الستينات عندما قررت الأكاديمية البربرية، وهي جمعية ثقافية أمازيغية مقرها باريس، البدء في حساب السنوات الأمازيغية من عام 950 قبل الميلاد. تم اختيار التاريخ ليتوافق مع صعود الفرعون شيشنق الأول إلى عرش مصر.

وشيشنق كان أمازيغياً، وهو أحد أبرز الشخصيات الأمازيغية في تاريخ شمال أفريقيا القديم. بالنسبة للأمازيغ، يرمز هذا التاريخ إلى القوة والسلطة.

رجال أمازيغ يرتدون ملابس تقليدية يقدمون الطعام خلال احتفال بمناسبة الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2975 في الرباط 14 يناير 2025 (إ.ب.أ)

كيف تستعد لرأس السنة الأمازيغية؟

تتركز احتفالات يناير على التجمعات العائلية والاستمتاع بالموسيقى المبهجة. تستعد معظم العائلات لهذا اليوم من خلال إعداد وليمة من الأطعمة التقليدية مع قيام الأمهات بتحضير الترتيبات الخاصة بالوجبة.

كما أصبح من المعتاد ارتداء الملابس التقليدية الأمازيغية والمجوهرات خصيصاً لهذه المناسبة.

وتماشياً مع معاني العيد المرتبطة بالتجديد والثروة والحياة، أصبح يناير مناسبة لأحداث مهمة لدى السكان مثل حفلات الزفاف والختان وقص شعر الطفل لأول مرة.

يحتفل الأمازيغ في جميع أنحاء منطقة المغرب العربي وكذلك أجزاء من مصر بعيد «يناير» أو رأس السنة الأمازيغية (أ.ف.ب)

ما الذي ترمز إليه الاحتفالات؟

يتعلق الاحتفال بيوم يناير بالعيش في وئام مع الطبيعة على الرغم من قدرتها على خلق ظروف تهدد الحياة، مثل الأمطار الغزيرة والبرد والتهديد الدائم بالمجاعة. وفي مواجهة هذه المصاعب، كان الأمازيغ القدماء يقدسون الطبيعة.

تغيرت المعتقدات الدينية مع وصول اليهودية والمسيحية والإسلام لاحقاً إلى شمال أفريقيا، لكن الاحتفال ظل قائماً.

تقول الأسطورة إن من يحتفل بيوم يناير سيقضي بقية العام دون أن يقلق بشأن المجاعة أو الفقر.

نساء يحضّرن طعاماً تقليدياً لعيد رأس السنة الأمازيغية (أ.ف.ب)

يتم التعبير عن وفرة الثروة من خلال طهي الكسكس مع سبعة خضراوات وسبعة توابل مختلفة.

في الماضي، كان على كل فرد من أفراد الأسرة أن يأكل دجاجة بمفرده للتأكد من شبعه في يوم يناير. وترمز البطن الممتلئة في يناير إلى الامتلاء والرخاء لمدة عام كامل.

ومن التقاليد أيضاً أن تأخذ النساء بعض الفتات وتتركه بالخارج للحشرات والطيور، وهي لفتة رمزية للتأكد من عدم جوع أي كائن حي في العيد.