تقف أشجار صنوبر باسقة الارتفاع على امتداد المشهد، ويلوح «حبل غسيل» زهيد في الأفق واشياً باختباء بشر في أحراش الصنوبر، ليشهد على تاريخ تلك الغابة بصفتها مخيماً للاجئين الفلسطينيين في لبنان عقب نكبة 1948. أما من التقطت هذا الأفق الشاهد على الحياة والحرب معاً، فهي فنانة مصرية كانت تعمل في تلك الفترة معلمة منتدبة لتعليم طالبات لبنان تقنيات الرسم الحديث؛ هذه الفنانة هي زينب محمد علي التي تركت تراثاً لافتاً من الأعمال الفنية الممتدة بين مصر ولبنان. وينظم قطاع الفنون التشكيلية، تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية، أول معرض فني لها، توثيقًا لأعمالها التي تمتد بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وذلك في معرض تستضيفه قاعة «الباب»، بساحة متحف الفن المصري الحديث في الأوبرا (وسط القاهرة).
يحمل المعرض الاستعادي للفنانة التشكيلية زينب محمد علي (1921-2015) عنوان: «مصر ولبنان... الناس والطبيعة في أربعينات وخمسينات القرن العشرين»، وهو معرض يسلط الضوء على تجربة فنانة تعد من رائدات الفن التشكيلي في العالم العربي، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تجمع أعمالها في معرض فني، فيما كانت هي في حياتها تنظم معارض لطلابها بين مصر ولبنان، في حركة أقرب للتبادل الثقافي بين البلدين كانت ترعاها الفنانة الراحلة. فبعد أن انتدبتها وزارة المعارف المصرية (التربية والتعليم حالياً) لتعليم الرسم بالأسلوب الحديث لكلية المقاصد الإسلامية للبنات في بيروت، من عام 1946 إلى عام 1954، نظمت بمجهودها الشخصي المعرض الأول لرسوم طالباتها اللبنانيات في قاعة «متحف الفن الحديث»، بشارع قصر النيل في القاهرة، في عام 1951، وتبعته في وقت لاحق من العام نفسه بتنظيم معرض رسوم لتلاميذ مصريين في قاعة مكتبة كلية المقاصد الإسلامية للبنين في بيروت؛ وهما المعرضان اللذان افتتحا بتمثيل رسمي من البلدين.
وحسب الدكتورة مجد إبراهيم أبو عيش، ابنة الفنانة الراحلة زينب محمد علي، فإن تلك الجهود التبادلية في تعليم الرسم في تلك الفترة المبكرة تعد من أحد أبرز ركائز مشروع الفنانة الراحلة، علاوة على أنها تعد من الأسماء الرائدة في مجال الفن التشكيلي في فترة مبكرة كالأربعينيات. وتضيف في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «احتفى قطاع الفنون التشكيلية بتنظيم هذا المعرض، باعتبار أن الراحلة كانت من الفنانات القليلات اللاتي نهضن خلال فترة الأربعينات، وحرصن في المعرض على إبراز كل لوحاتها، وأي تفاصيل ترتبط بمسيرتها ومحطات حياتها».
وذكر الفنان خالد سرور، رئيس قطاع الفنون التشكيلية المصري، في بيان بمناسبة افتتاح المعرض، أن استضافة أعمال الفنانة زينب محمد علي يأتي «لأهمية تجربتها، ولتعريف الجيل الجديد، وربما شريحة عريضة من الفنانين والجمهور، بفنانة قديرة غابت طويلاً عن الأضواء».
وقد حصلت الفنانة الراحلة على عدة جوائز من وزارة المعارف المصرية، وجائزة «أحمد محمد حسنين باشا» رئيس الديوان الملكي، عن عدد من لوحاتها، ومنها: «المولد»، و«من النيل وللنيل»، و«الصيف في الريف».
وحسب الدكتورة مجد إبراهيم أبو عيش، مُنظمة المعرض الحاصلة أيضاً على درجة الدكتوراه في مجال النقد الفني التشكيلي، فإن مشروع والدتها زينب محمد علي اعتمد بشكل كبير على حرية نقل مشاعر الرسم إلى اللوحات؛ وكان ذلك ما حرصت على تعليمه لطالباتها في لبنان «فبعد أن كان تدريس الرسم يعتمد على النقل والتقليد من المجلات، أو التكبير من البطاقات المصورة، اعتمدت في تعليم الطالبات الابتكار والتعبير الحر، وهو ما يبرز في مشروعها الشخصي ولوحاتها المعتمدة على المدرسة التعبيرية، إذ كانت تلتقط المشاهد أينما حلت بطاقتها الفنية الخاصة».
وتنوعت مشاهدات الفنانة الراحلة مع كل تنقل وسفر جديد لها. ففي تجربتها في لبنان، عاصرت أجواء «النكبة» التي خرجت منها بكثير من الانفعالات التي ظهرت في لوحاتها، ومنها لوحة يبرزها المعرض للاجئة فلسطينية في واحدة من مستشفيات بيروت عام 1948، بالإضافة لعدد من مشاهد المخيمات. وفي مصر، تراوحت أعمالها بين مشاهد طبيعية، كالريف ونهر النيل، وأخرى تعبيرية للحرفيين في يومياتهم، كالخياطين وصانعي السلال، وأخرى ترصد لحظات خاصة تجمعها العفوية والطرافة، كلوحة بعنوان «النوم سلطان» ترصد لحظة غفوة تغلب رجلين في منتصف النهار.
ويتنوع توظيف الفنانة الراحلة زينب محمد علي للألوان بين ألوان مائية وزيتية وجواش. ويعرض المعرض77 لوحة من أعمالها التي تقول ابنتها إنهم كانوا يحتفظون بها بالكامل في بيت الفنانة الراحلة، لترى النور لأول مرة بعد رحيلها في المعرض الذي سيستمر حتى 20 ديسمبر (كانون الأول) الحالي.
ظهور نادر لأعمال الرائدة التشكيلية زينب محمد علي
لوحات الفنانة المصرية توثق لملامح القرن الماضي
ظهور نادر لأعمال الرائدة التشكيلية زينب محمد علي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة