حركة شبابية مبدعة تلوّن مجال الأزياء في السعودية

من عاش في حقبة الستينات من القرن الماضي لا بد أنه شعر بحركة ثقافية غير مسبوقة تتمرد على تابوهات اجتماعية وتغير المتعارف عليه. حركة لم يشعر العديد بقوتها ومدى تأثيراتها على ثقافة العالم إلا بعد مرور سنوات عليها، وبعد أن عادت بهم الذاكرة إلى الوراء. هذا تحديداً ما يحدث في عام 2020، وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً، والسعودية تحديداً. والمقصود هنا ليس التغييرات التي أحدثتها جائحة كورونا، بل حركة شبابية قوية يقوم بها جيل بعمر الزهور، وهدفها ليس تغيير العالم، بل نظرة العالم إلى المنطقة، في تحدٍ لنظرة نمطية التصقت بها طويلاً على أنها تميل إلى الاستهلاك وتفتقد إلى الإبداع، لا سيما في مجال الموضة.
الأميرة نورة بنت فيصل آل سعود، مؤسسة أسبوع الموضة السعودي والتي تعمل حاليا في هيئة الأزياء، علقت على هذه الحركة بقولها «بعيداً عن مسألة الاستهلاك والتبعية، وجود حركة شابة مهتمة بالأزياء ليس بالغريب في بلد ينمو ويتطور بشكل رائع مثل المملكة العربية السعودية، فالشباب السعوديون اليوم يعملون بحماس كبير وبإلهام من (رؤية 2030) على التعبير عن أنفسهم وعن إبداعاتهم في مختلف المجالات، وليس في الأزياء فقط، وهذا خلق موجات أو مجتمعات فنية داخل بلادنا تسعى للإعلان عن ذاتها. وفيما يتعلق بالشباب السعوديين المهتمين بالأزياء فهم يستندون إلى إرث ثقافي عريق يتمثل في اللباس الوطني التقليدي والتنوع الهائل في الأزياء السعودية والتي تختلف من منطقة إلى أخرى، وهذا كله يبعث في داخلهم الرغبة في التعبير عن هذا الإرث بقوالب إبداعية جديدة، وبهويات جمالية مختلفة، تجعل المملكة منافساً مُهماً ومُلهماً في عالم الأزياء إقليمياً ودولياً. ومن دون شك هذا أمر رائع وهدف نسعى له جميعاً».
وتضيف «المصممون السعوديون على المستوى الفردي يبحثون عن أصواتهم الخاصة في قطاع ناشئ مثل قطاع الأزياء، ورحلة البحث هذه قد توحي لمن يراقب من الخارج أن القطاع بشكل عام يبحث عن شخصيته، وأنه متأخر في ذلك. أنا أرى أن الحراك الراهن طبيعي ورائع، والمطلوب هو صنع مصممين أفراد يتمتعون بالشخصية والاستقلالية الإبداعية بحيث يضيفون للأزياء محلياً ودولياً».
سنوات، إن لم نقل عقوداً، ومبدعو المنطقة يعملون في الظل وأحياناً في الخفاء؛ خوفاً من نظرة المجتمع وردة فعله. الآن أصبح بإمكان هؤلاء أن يستعرضوا قدراتهم أمام العالم من دون قيود أو مخاوف، تشجعهم «رؤية 2030» التي فتحت لهم المجال لينطلقوا ويخرجوا طاقاتهم إلى العلن. منذ فترة قليلة، غلبت على هذه الحركة حالة من الغضب العارم انصبّ جامه على بعض المجلات العالمية على أساس أنها تتعمد تجاهلهم بتركيزها على بيع صور لا تمت للواقع العربي بصلة وكأنها تريد إرضاء الغرب ونيل رضاه أكثر من قراءتها للمجتمعات التي تتوجه إليها. أما الجميل فيها، أي هذه الحركة، أن روادها لم يطلقوا العنان لجام غضبهم، بل أطروها في حملة منظمة تحتفل بمبدعين محليين في كل المجالات الفنية والإبداعية. تشير المصممة أروى العماري، وهي واحدة من أهم المصممات في الساحة السعودية حالياً، إلى جانب دعمها مبادرات عدة في قطاع الأزياء، إلى أنها لا ترى أن الحركة كانت حالة من الغضب بقدر ما كانت حالة تعبيرية عن واقع جديد؛ إذ «لا يجب أن ننسى أنه أصبح لدينا الآن تشريعات حقيقية وملموسة، بعد أن كان كل ما يتعلق بالفنون من مسرح وموسيقى وإخراج وغيره بشكل عام يتعرض إلى هجوم ويُنعت بأنه إسفاف بالأخلاق. جزء من (رؤية السعودية) حالياً هو التعامل مع كل الفنون كثقافة وأسلوب حياة، وهو ما تؤكده نحو 15 مبادرة تخص الأزياء والمسرح والآثار والأدب والموسيقى تحت رعاية وزارة الثقافة». كل هذا ساعد على تغيير جذري في النظرة إلى تصميم الأزياء، حسب رأي أروى «فمن كان يتخيل في السابق أن تصميم الأزياء يمكن أن يتحول إلى حرفة يمكن دراستها في الجامعات والمعاهد المتخصصة، لكن هذا ما حدث، فقد افتتحت جامعات متخصصة في المملكة ليس في مجالات الأزياء فحسب، بل أيضاً في الإنتاج والإخراج وغيرها». ما لا شك فيه أن «رؤية 2030» كانت محفزاً كبيراً لهذه الحركة، حيث إن بواردها بدأت تظهر وتتبلور منذ سنوات لتقوى في زمن «كورونا»؛ بسبب عدم إمكانية السفر واضطرار الجميع إلى التعامل مع محيطه القريب. والنتيجة كانت تكاثف جهود كل صناع الموضة من مصورين وعارضي أزياء ومصممين للانخراط في هذه الحركة، والاحتفال بكل ما هو محلي. تشرح أروى، إن «فيروس كورونا وما ترتب عنه من منع للسفر وقيود ومحاذير كان له مفعول السحر على هذه الحركة الشبابية. فالسفر الذي لن يُفتح أمام الجميع قبل شهر مارس (آذار) المقبل، جعل الأغلبية يستغلون أوقاتهم بشكل إيجابي مركزين على الأهم». كانت فترة الحَجر فرصة مواتية لتقديم درس مهم للغرب بأن مبدعي المنطقة غير جالسين مكتوفي الأيادي في انتظار ما تجود به قريحة الغير. رسالتهم كانت واضحة بأنهم المستقبل؛ وذلك بتنظيمهم فعاليات محلية غير مسبوقة، مثل أول عرض أزياء لخط الـ«كروز» كانت كل العارضات فيه سعوديات، كذلك المصورون والمخرجون وخبراء الإضاءة والموسيقى. كان ظهور عارضات أزياء سعوديات أقوى رسالة تفند النظرة القديمة لمهن كان يُنظر إليها في الماضي باستخفاف أو عدم احترام.
من هذا المنظور، ترى أروى العماري، أن تجاهل مجلات، المفترض منها أن تُبرز هذه القدرات وتعطيها حقها من التغطيات «كان جزءاً من المشكلة وليس كل المشكلة». والأهم أن ثمارها كانت لذيذة وناضجة؛ لأن الحملة التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن تنظيراً أو تنديداً بقدر ما كانت فعلاً وتطبيقاً. الشابة علاء بلخي، وهي سيدة أعمال لا يتعدى عمرها الـ31 عاماً، تعمل في مجالات إبداعية عدة، منها تقديم استشارات لبيوت أزياء أو الظهور في حملاتهم الإعلانية، كما أنها واحدة من رواد هذه الحملة، تقول «أعتقد أنه علينا أن نكف عن التفكير في أن مسؤولية تغيير تلك النظرة النمطية القديمة التي ارتبطت بنا تقع على الغرب... علينا نحن أن نتحمل هذه المسؤولية». وتتابع «نعم، من واجبهم أن يبذلوا جهدا أكبر لفهم ثقافة المنطقة، وقراءتها بشكل موضوعي والتعاون مع مبدعين محليين بروح منفتحة على الاختلاف، لكن علينا نحن أن نرفع أصواتنا لكي يسمعونا بوضوح».
أما كيف طبقت علاء بلخي نظريتها هاته «فبتسهيل مهمة الغرب من خلال توفيرها لائحة تضم ما لا يقل عن 3000 مبدع بتخصصات مختلفة من المنطقة». تشرح أيضاً، إن الهدف «من هذا الحراك الشبابي، إن صحت تسميته بذلك، هو إبراز طاقاتنا وإمكاناتنا. مشكلة النمطية التي عانينا منها طويلاً كانت بسبب أن لا أحد تعامل معنا بشكل مباشر أو حاول التعرف علينا بشكل حقيقي وواقعي. كان أسهل لهم أن يطلقوا العنان لخيالهم ويتبنوا ما كان مناسباً لهم ولخطابهم». لا تنسى علاء أن تشير إلى أن فضلاً كبيراً في هذا التغيير، وفي القدرة على مخاطبة الغرب مباشرة، يعود إلى وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ إذ «أصبح من السهل التواصل مع بيوت الأزياء وصناع الموضة عموماً من خلال (إنستغرام) أو (زووم)، وغيرهما من الوسائل المتوفرة بحيث لم يعد لنا أي مبرر». هناك أيضاً استعداد الآخر للإنصات؛ حتى لا يخسر زبائن من سوق مهمة وغنية، وهذا ما يجعل النقاش الجاري حالياً بين الطرفين مثيراً ومهماً. فما كان يخفى عن الغرب، أو يتجاهله، أن صورة واحدة لا تعبر عن مجتمع له أطياف وألوان ومذاقات متعددة، وهذا يعني أن أهل مكة أدرى بشعابها. أمر تؤكده الأميرة نورة بنت فيصل آل سعود، بقولها «لا يمكن حصر قطاع الأزياء السعودي بشخصية واحدة. فالمملكة متنوعة الثقافات ولكل ثقافة أو منطقة طابعها الخاص المستمد من عاداتها وتقاليدها في اللبس والأزياء، إضافة إلى أن لكل مصمم أو مصممة شخصية مستقلة تسعى لإثبات ذاتها بعيداً عن الهوية العامة للبلد؛ لذلك فإن الحديث - أو البحث - عن شخصية واحدة لقطاع أزياء سعودي كبير غير صحيح بالمعنى الحرفي، وهو ليس ضرورياً بأي حال، باعتبار أن الثقافة كائن عابر للحدود، ويؤثر ويتأثر بالعالم، خاصة في عصر معولم مثل الذي نعيشه فيه الآن».
لكن يبقى سؤال ملحّ يطرح نفسه، وهو ما إذا كان حماس شباب هذه الحركة له مبرراته أم أنه لا يتعدى فورة شباب؟. ترد الأميرة نورة، وبحماس لا يقل عن حماسهم «بالطبع له مبرراته؛ لأن الحماس دائماً ما يترافق مع الشغف، وفي مجال الأزياء يندر أن نجد من يدخله من غير الشغوفين والحالمين؛ كونه مجالاً يرتكز على كمية ومخزون الإبداع لدى الشخص، وقدرته على الابتكار والتجديد كل يوم، ناهيك عن أن مجال تصميم الأزياء لا يزال حقلاً جديداً في السعودية والمساحة للخلق والإبداع فيه كبيرة جداً».