عون يستنزف عهده بـ«حكومات تصريف الأعمال»

على رغم تفاقم أزمة الحكم في لبنان

عون يستنزف عهده بـ«حكومات تصريف الأعمال»
TT
20

عون يستنزف عهده بـ«حكومات تصريف الأعمال»

عون يستنزف عهده بـ«حكومات تصريف الأعمال»

دخل عهد الرئيس اللبناني ميشال عون ثلثه الأخير، من دون تحقيق الوعود التي أغدقها على اللبنانيين في خطاب القسم، فلم يقرن أقواله بأفعال يفترض إسقاطها على حامل صفة «العهد القوي»، و«الرئيس الأكثر تمثيلاً»، مقارنة مع الرؤساء الذين تعاقبوا على رأس الدولة... أقله منذ «اتفاق الطائف» في العام 1989 حتى الآن.
لا خلاف على أن الكوارث التي يعيشها اللبنانيون، بدءاً من الانهيار الاقتصادي والمالي، ثم الأزمة الصحية التي عمقتها جائحة «كوفيد 19»، مروراً بالغلاء الفاحش وغير المسبوق، وصولاً إلى ظهور مؤشرات المجاعة التي تقض مضاجع الناس، لا يتحمل عون وحده مسؤوليتها، فثمة اعتراف بأن النكبات المتلاحقة هي نتاج تراكمات من الإخفاق في إدارة السلطة منذ سنوات. لكن الثابت الذي لا ينكره أحد، أن «الرئيس القوي» لم يبادر يوماً إلى اتخاذ قرار حاسم بوضع حد للانهيارات المتلاحقة، بل إن عهد عون على ما يؤكد معارضوه «ظل أسير تحالفه مع ميليشيات مسلحة (حزب الله)، ورهين خيارات صهره جبران باسيل، وطموحاته الرئاسية التي كان سبباً مباشراً في دفع البلد إلى الهاوية».
انتعشت الآمال بانتقال لبنان من حال الركود إلى مرحلة النهوض، بعد عامين ونيف من الفراغ في رئاسة الجمهورية، الذي كرسه «حزب الله» على قاعدة «إما ميشال عون وإما الفراغ»، وكان ثمة مَن يعتقد بأن التسوية القائمة على توازنات دقيقة، ستحقق إنجازات مهمة تحت سقف التفاهم الضمني ببقاء سعد الحريري رئيساً للحكومة طيلة عهد برئاسة قائد الجيش الأسبق.
وحقاً، كانت الآمال كبيرة عندما أبرم عون ما يُعرف بـ«التسوية الرئاسية» مع رئيس تيار «المستقبل» الرئيس المكلف سعد الحريري في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2016. كما «اتفاق معراب» بين «التيار الوطني الحر» (برئاسة عون) وحزب «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، والتي جاءت في لحظة تقاطعات إقليمية ودولية، وفي ظل انشغال أميركي بالانتخابات الرئاسية.
غير أن الممارسة داخل الحكومة وفي المؤسسات، وبفعل استمرار «حزب الله» في لعب أدوار سياسية وأمنية، أمعنت في ضرب علاقات لبنان مع الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج العربي، وقوضت التسوية وضربت التوازنات الدقيقة، وجعلت من جبران باسيل – صهر الرئيس وخلفه في رئاسة «تياره» - الحاكم شبه المطلق وصاحب اليد الطولى في مجلس الوزراء. وهو في هذا إنما كان يستمد سطوته من نفوذ «حميه» الرئيس وحليفه الأقوى في لبنان... أي «حزب الله». وهكذا غرق «العهد القوي» وأغرق لبنان بفراغ السلطة التنفيذية، وترك إدارة البلاد لحكومات تصريف الأعمال.
- دور جبران باسيل
ثمة من يجد في أداء الرئيس عون وفريقه السياسي، أسباباً موجبة لبلوغ البلاد هذا الدرك من الانهيار، ويحمله مسؤولية كبرى، وإن لم يكن المسؤول الوحيد عما آلت إليه الأمور. ويلفت نائب رئيس تيار «المستقبل» النائب السابق الدكتور مصطفى علوش، إلى أن عون «وصل إلى السلطة بعناوين وشعارات كبيرة وفضفاضة، لكن سرعان ما برهن أن هاجسه تمكين صهره جبران باسيل من الإمساك بالسلطة، وغياب السلطة الفعلية للدولة لحساب سلطة سلاح (حزب الله)». ويرى علوش في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن «الانهيار الذي يعيشه لبنان اليوم نتيجة موضوعية للإخفاق التراكمي الممتد لسنوات طويلة، لكن عهد عون سرع انزلاق البلد إلى الكارثة». وتابع علوش أنه «لو كان الرئيس عون جاداً بوقف الانهيار، لانصرف إلى إصلاح ملف الكهرباء الذي تسلمه صهره جبران باسيل وتياره منذ 11 سنة، ولكان وفر على البلد 25 مليار دولار»، معتبراً أن «الفراغ الحكومي المتمادي في عهد عون هو ترجمة حقيقية أن الرئيس يقدم مصالح فريقه ومصالح صهره على مصلحة لبنان واللبنانيين».
الحقيقة أن الخلافات التي انفجرت بين أطراف التسوية بعد أشهر قليلة على إبرامها، شكلت صدمة لدى اللبنانيين، الذين أدركوا أن هذه القوى تتفق على تقاسم السلطة، وتتصارع على المكاسب والمغانم، فيما عزا بعض أطراف التسوية أسباب انهيارها السريع إلى «توسع هيمنة باسيل داخل السلطة التنفيذية؛ حيث باتت قرارات السلطة التنفيذية رهن إرادة صهر الرئيس وولي عهده». وغالباً ما تحدث هؤلاء عن «سطوة باسيل المطلقة على قرارات الحكومة، في التعيينات الإدارية والقضائية والأمنية والدبلوماسية، وانقلابه على روحية تفاهم معراب، المتضمن اتفاقاً على تقاسم الحصص الوزارية المسيحية مناصفة بين طرفيه؛ التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية، وتعيينات الفئة الأولى». وهم يعتبرون أن «أداء صهر الرئيس يتماهى إلى أقصى الحدود مع سياسة (حزب الله)، ويكفي أن أداءه وزيراً للخارجية، وضع لبنان في قطيعة مع العالم العربي، كما أن مواقفه في اجتماعات وزراء خارجية الدول العربية، جعلت لبنان خارج الإجماع العربي».
من جانبه، لا يرى النائب السابق الدكتور فارس سُعيد، منسق «الأمانة العامة لقوى 14 آذار»، أن «المشكلة ليست في النظام اللبناني، بل في العقلية التي تدير هذا النظام». وقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «المعضلة الحقيقية التي تشل البلاد وتقوض سلطة القانون، وتجعل الدولة بتصرف حكومات تصريف الأعمال، تكمن في سلاح (حزب الله) الذي ينشئ دولة تتوافق مع مصلحة إيران وليس مع مصلحة لبنان واللبنانيين». هذا، وكرس التحالف المستمر بين عون و«حزب الله» مصلحة الفريقين منذ 6 فبراير (شباط) 2006، عندما وقع عون وأمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، ورقة التفاهم بينهما داخل كنيسة مار مخايل في ضاحية بيروت الجنوبية. ويشير سُعيد إلى أن عون «حقق عبر هذا التحالف طموحه التاريخي بالوصول إلى قصر بعبدا (رئاسة الجمهورية)، وظن أنه سيكون على مسافة واحدة من الجميع، وأعتقد أن علاقته بـ(حزب الله) ستمكنه من رسم الحدود بين الدولة التي ترعى مصلحة اللبنانيين وبين (حزب الله). لكن بدل أن يرسم عون هذه الحدود بين الدولة والميليشيات، أزال ما تبقى من حدود بينهما، ولذلك بدأ العالم ينظر إلى لبنان على أنه يعيش في كنف الجمهورية الإيرانية». وأردف أنه «لا حدود اليوم بين مصلحة اللبنانيين ومصلحة الحزب».
- «حزب الله»... الحاكم الآمر الناهي
كذلك ذكّر الدكتور سُعيد بأنه «عندما تساكن لبنان مع سلاح (أبو عمار)، (منظمة التحرير الفلسطينية)، رسم لبنان تلك الحدود عبر (اتفاق القاهرة)، كما أن رفيق الحريري (رئيس الحكومة الراحل) رسم الحدود لاحقاً بين اقتصاد لبنان ومشروعات الإعمار، وبين نفوذ الوصاية السورية. لكن بعد اغتياله وخروج الجيش السوري، بات لبنان في كنف النفوذ الإيراني ولم تعد هناك أي حدود بينهما، لأن (حزب الله) أضحى الحاكم الفعلي والآمر الناهي في البلد».
والصحيح أن الفراغ الحكومي ليس وليد إرادة عون، بل نتيجة شراكة فعلية مع «حزب الله» الذي يفرض خياراته على كل الأطراف بفعل وهج سلاحه المتحكم بالتوازنات الداخلية. وهنا يقرّ الدكتور مصطفى علوش بأن «سلاح (حزب الله) موجود قبل وصول عون إلى السلطة، لكن رئيس الجمهورية أوهم اللبنانيين أنه قادر على الحد من هيمنة السلاح على الدولة. أما في الممارسة فهو من أمّن الغطاء السياسي لهذا السلاح، ولذلك نجد في الفراغ الحكومي تقاطع مصالح بين قيادة (حزب الله) والرئيس القوي». ويعبر علوش عن أسفه لأن «عهد الرئيس عون ساهم في ضرب العلاقة مع الدول العربية، التي تبقى أهم من أميركا وأوروبا، وهذه الدول هي التي مكنت الاقتصاد اللبناني من الصمود». ويكشف أن «ثلث الناتج القومي يأتي عبر تحويلات من الخارج، وأكثرية هذه التحويلات كانت تأتي من دول الخليج العربي». أيضاً يشير علوش إلى أن «الرئيس عون ليس السبب الوحيد للوصول بلبنان إلى الحالة المأساوية، إلا أن عهده كان عهد الفشل الذريع على مستوى ممارسة السلطة، والتواطؤ المريع مع سلاح (حزب الله)... ولقد حاولت البحث عن إنجاز واحد في عهد عون، لكني لم أجد إلا الويلات التي عاشها اللبنانيون؛ خصوصاً في السنتين الأخيرتين».
من ناحية أخرى، لا يقتصر الفراغ الحكومي وإطالة عمر حكومات تصريف الأعمال على عهد عون، إذ حصل ذلك في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان... غير أن إطالة أمد الفراغ كان سببه عون شخصياً، ولا سيما إمعانه في اقتناص حصة وزارية وازنة داخل الحكومة، واشتراطه أن يكون صهره جبران باسيل أبرز وزراء «التيار الوطني الحر» في الحكومة. وهنا يلفت فارس سُعيد إلى أن «فرض عون شروطه على السلطة التنفيذية لم يأتِ من نفوذ الرئيس القوي وتياره فحسب، بل ثمرة الدعم المطلق من (حزب الله)». ويرى أنه «عند كل استحقاق دستوري، سواء بتأليف الحكومة أو بانتخابات برلمانية أو رئاسية، كان (حزب الله) يستغل هذه الاستحقاقات لترتيب أوراق إيران». ويؤكد سُعيد أن «تعقيدات تشكيل الحكومة العتيدة في لبنان، ستبقى رهن المرحلة الفاصلة عن تسلم جو بايدن مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الأميركية... ولو فاز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية، لكانت الحكومة اللبنانية تشكلت بسرعة، لأن إيران كانت مضطرة إلى تقديم تنازلات، لكن بعد فوز بايدن، لا تبدو طهران مستعجلة لأن الإدارة الأميركية الجديدة غير مستعجلة للتفاوض معها وحل أزماتها».
- الشق الدستوري
في سياق متصل، كلما أظهرت القيادات اللبنانية عجزها عن احترام الاستحقاقات الدستورية، تعود بعض الأطراف السياسية والحزبية إلى المطالبة بتعديلات دستورية تعالج الثغرات التي تضع حداً للفراغ الرئاسي أو الحكومي أو تأجيل الانتخابات البرلمانية. ولا ينكر الخبير الدستوري المحامي سعيد مالك في تصريح لـ«الشرق الأوسط» وجود «ثغرات في الدستور يجب معالجتها في المستقبل»، لكنه يشدد على أن «المشكل الأساس يكمن في رجال السلطة الذين يسيئون تطبيق الدستور. فالمشترع عندما وضع بنود الدستور لم يتوقع أن هناك طبقة سياسية ستستفيد من الثغرات لتعطيل الاستحقاقات... وما حصل أن القادة السياسيين استفادوا من بعض الثغرات لمآرب شخصية ضيقة».
كذلك مع دخول أعراف جديدة على آلية تشكيل الحكومات في لبنان، وإجراء رئيس الجمهورية «استشارات جانبية» تسبق الاستشارات النيابة الملزمة لتكليف رئيس الحكومة، قال مالك: «لم يكن المشترع يتوقع أن تتأخر الاستشارات النيابية الملزمة لتشكيل الحكومة، ولم يتخيل أن تستغرق مفاوضات تأليف الحكومة أشهراً طويلة». وجزم بأن «ممارسات الطاقم الحاكم هي التي قوضت عهد الرئيس ميشال عون»، متابعاً القول: «لا سبيل للخروج من المأزق الذي يعانيه لبنان إلا بانتخابات نيابية مبكرة لإعادة تكوين السلطة وتشكيل حكومة منتجة وقادرة». وعن إمكانية الدخول في فراغ رئاسي جديد بعد انتهاء ولاية عون، يطمئن مالك على أنه «لا خوف على الانتخابات الرئاسية التي ستسبقها انتخابات برلمانية في ربيع العام 2020. لأن مجلس النواب المنتخب هو مَن ينتخب رئيساً للبلاد».
مع هذا، يتخوف اللبنانيون من التمديد للمجلس النيابي الحالي، الذي يمتلك فيه «حزب الله» أكثرية نيابية، ما يجعل الحزب وحليفه «التيار الوطني الحر» متحكمين بالانتخابات الرئاسية، وهنا يحذر مالك من «الذهاب إلى هذا السيناريو، وإلا يسمح للبرلمان الحالي بانتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس عون»، معتبراً أن مثل هذا الخيار سيشعل الشارع مجدداً، ويدفع إلى ثورة جديدة وعصيان في الشارع.
- حكومات تصريف الأعمال والعمر المديد
> عاشت حكومات تصريف الأعمال أعماراً مديدة، وفي مراحل عدة عمرت أكثر من الحكومة الشرعية، ويبدو أن الفراغ الحكومي كان أكثر استدامة في عهد الرئيس ميشال عون، إذ استغرق تشكيل الحكومة الأولى لعهده 50 يوماً، رغم أنها أعقبت التسوية الرئاسية، وكانت معظم القوى السياسية متفاهمة ومنسجمة ومتفقة مسبقاً على حصصها داخل السلطة التنفيذية.
الخلافات المستحكمة طفت على السطح مع مخاض تأليف حكومة العهد الثانية، التي شكلها سعد الحريري، واستغرق مخاض مشاوراتها واتصالاتها 9 أشهر. وما أن سمت الأكثرية النيابية رئيس تيار «المستقبل» بتشكيل الحكومة غداة الانتخابات النيابية التي حصلت يوم 6 مايو (أيار) 2018 - وكان الحريري حينها رئيساً لحكومة تصريف الأعمال أيضاً - لم يتمكن الأخير من تشكيل حكومته قبل 31 يناير (كانون الثاني) 2019. وما زاد من تعقيدات ولادتها، الصراع على الحصص داخلها؛ خصوصاً إصرار «التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل على امتلاك الثلث المعطل فيها، وإمعان «حزب الله» وحركة «أمل» بالاتفاق مع عون وباسيل، على الاستئثار بأكثرية الثلثين داخل الحكومة، وذلك ترجمة لنتائج الانتخابات النيابية التي أعطت الأكثرية لـ«حزب الله» وحلفائه.
وفي ترجمة واقعية لإمساك عون وفريقه بقرارات الحكومة، تمكن باسيل من انتزاع تواقيع وزرائه العشرة على كتب الاستقالة من الحكومة، لاستخدام هذه الاستقالة عند الاقتضاء، والإطاحة بالحكومة. غير أنه بعد يومين فقط من خطاب باسيل الذي هدد فيه بـ«قلب الطاولة على رأس الجميع، وتفجير (تسونامي) كفيل بجرف الخصوم»، باغته الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 أكتوبر 2019. وأطاحت بالجميع وأسقطت تلك الحكومة في الشارع.
ومع إخفاق أحزاب السلطة وأصحاب الأكثرية النيابية في إقناع الحريري بالعودة إلى ترؤس حكومة «تكنو سياسية»، تتعارض مع مطالب الحراك الشعبي الداعي إلى تشكيل حكومة من خارج المنظومة الحاكمة، ذهبت هذه الأكثرية إلى تسمية حسان دياب الذي شكل حكومة اللون الواحد بعد 35 يوماً، والتي واجهتها الدول العربية والغربية بمقاطعة واضحة. إلا أن هذه الحكومة سرعان ما انفرط عقدها على إثر انفجار مرفأ بيروت، واستقالة وزرائها الواحد تلو الآخر، قبل أن يستقيل رئيسها حسان دياب في 12 أغسطس (آب)، أي بعد أسبوع واحد على الانفجار. وهي لا تزال تمارس تصريف الأعمال، رغم مرور 40 يوماً على تكليف الحريري، الذي أعقب اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب، الذي آثر إعفاء نفسه من مناكفات أحزاب السلطة، بعد شهر من تكليفه، وسارع إلى الاعتذار عن تشكيل حكومة تخالف مضمون المبادرة الفرنسية.
- بصمات عون في الفراغ الحكومي سبقت عهده
> لم يكن عهد الرئيس ميشال عون وحده الشاهد على الفراغ الحكومي، بل بدأت هذه الظاهرة مع العهود التي سبقته، ومنها عهد الرئيس إميل لحود وعهد الرئيس ميشال سليمان، غير أن هذا الفراغ ليس بعيداً عن تأثير عون على مسارات تشكيل الحكومات آنذاك.
ولا ينسى اللبنانيون أن المناكفات بدأت مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى التي جاءت بعد انتخابات العام 2005، عندما حازت فيها قوى «14 آذار» على الأكثرية النيابية. وكانت تلك الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود، واستغرق تشكيلها شهرين، بعد جهود كبيرة بذلها السنيورة مع عون للانخراط في هذه الحكومة، لكن الأخير اشترط الحصول على غالبية الوزراء المسيحيين أو البقاء في ضفة المعارضة. أما حكومة السنيورة الثانية، والتي كانت وليدة «اتفاق الدوحة» الذي فرض جراء اجتياح «حزب الله» للعاصمة بيروت بقوة السلاح، فقد استغرقت 55 يوماً، والسبب في التأخير ناجم عن الضغوط التي مارسها عون كرئيس لـ«التيار الوطني الحر»، من أجل توزير صهره جبران باسيل، والحصول على الحقائب الأساسية في التركيبة الوزارية.
وبعد انتخابات العام 2009، التي جددت الثقة بقوى «14 آذار»، ومنحتها الغالبية النيابية مجدداً، سُمي سعد الحريري رئيساً للحكومة للمرة الأولى. ولكن بعد شهرين من المشاورات رفضت قوى «8 آذار» - التي كانت تشكل المعارضة ومعها تيار عون - الصيغة الحكومية التي قدمها الحريري، فأعلن الأخير في سبتمبر (أيلول)، أي بعد 3 أشهر على التكليف، اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة. وغداة هذا الاعتذار، جددت الأكثرية النيابية تسميته لرئاسة الحكومة مرة جديدة، وحينها استطاع الحريري تشكيل حكومته الأولى في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009. ومن الأسباب التي أخرت تأليف الحكومة حينها، رفض فريق «14 آذار» توزير باسيل الذي خسر معركة انتخابه نائباً عن منطقة البترون (شمال لبنان)، لكن عون أسقط تلك المعادلة، وأطلق شعاره الشهير «كرمى لعيون صهر الجنرال، ما تتشكل حكومة». ولم تعمر حكومة الحريري الأولى أكثر من سنة، إذ أسقطها تحالف «حزب الله» وحركة «أمل» والتيار الوطني الحر، باستقالة وزرائهم من داخل منزل عون، ما أدى إلى فقدان الحكومة النصاب الدستوري.



محاولات جديدة في ليبيا للخروج من «الحلقة المفرغة»

من هجوم "الجيش الوطني الليبي" عام 2019 على طرابلس (آ ف ب)
من هجوم "الجيش الوطني الليبي" عام 2019 على طرابلس (آ ف ب)
TT
20

محاولات جديدة في ليبيا للخروج من «الحلقة المفرغة»

من هجوم "الجيش الوطني الليبي" عام 2019 على طرابلس (آ ف ب)
من هجوم "الجيش الوطني الليبي" عام 2019 على طرابلس (آ ف ب)

تختبر ليبيا راهناً، بحذر، «مبادرة جديدة» تقودها الأمم المتحدة لتحريك العملية السياسية المجمّدة، التي لم تفلح معها مسارات سابقة منذ إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذاقي عام 2011. ويأتي التحرك الأممي الجديد سعياً للخروج من «الحلقة المفرغة» التي تدور فيها ليبيا، في ظل وجود مسار موازٍ يقوده مجلس النواب و«المجلس الأعلى للدولة» يستهدف هو الآخر العمل على تشكيل «حكومة جديدة موحّدة» تقود البلاد إلى الانتخابات العامة المعطلة.

ووسط اشتباكات الانقسام المحلي والاستقطاب الدولي للأزمة الليبية، التأمت في العاصمة طرابلس أعمال لجنة استشارية شكَّلتها البعثة الأممية من 20 ليبياً لوضع خيارات تفضي إلى معالجة القضايا الخلافية في قانوني الانتخابات.

اللجنة الاستشارية التي تشكّلت ضمن مبادرة أطلقتها ستيفاني خوري، القائمة بأعمال المبعوث الأممي في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2024، انتهت من اجتماعها الافتتاحي الذي استمر يومين في طرابلس، وتتحضّر للاجتماع الثاني، في حين وصفت البعثة أعمالها بأنها «مُثمرة» وتطرقت إلى القضايا الخلافية الرئيسة المتصلة بالإطار الانتخابي.

محمد المنفي (أخبار الأمم المتحدة)
محمد المنفي (أخبار الأمم المتحدة)

حسب معلومات «الشرق الأوسط»، فإن حصيلة اجتماعين للأعضاء اللجنة أظهرت «تفاؤلاً حذراً بإمكانية توصلها إلى حلحلة للأزمة»، لا سيما «مع حصولها على ضمانات من البعثة لجهة الامتناع عن التدخل في أعمالها».

اختلاف حول الجدوى

أما خارج قاعة اجتماعات اللجنة، فقد اختلف الساسة والبرلمانيون حول الجدوى من تشكيل هذه اللجنة ومدى إمكانية توصلها إلى حل، في استباق يراه متابعون «سيناريو» مكرّراً شهدته ليبيا من قبل. ويتوازى التباين الليبي مع خلاف أعمق بين معسكرين تمثله حكومتان تتقاسمان السلطة في ليبيا: الأولى برئاسة عبدالحميد الدبيبة التي تتّخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها، والأخرى مُكلفة من البرلمان تدير المنطقة الشرقية وبعض مناطق الجنوب برئاسة أسامة حمّاد.

في معسكر المؤيدين للعملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، يرفض ساسة وبرلمانيون «وضع العربة أمام الحصان»، أو ربما استراتيجية البحث عن «العفريت» وفق توصيف عضو مجلس الأعلى للدولة أبو القاسم قزيط. وينطلق أصحاب هذه الرؤية من اعتقاد أن ليبيا تعيش متوالية أزمات قسّمتها سياسياً وأمنياً، ووضعتها على حافة التقسيم والإفلاس، وأخفقت أمامها جولات سابقة في الصخيرات (بالمغرب) وغيرها (...) بما يقتضي التمسّك حتى ولو بـ«أنصاف الفرص». ويستند المتفائلون بحل دولي، إلى أن الممثّلين في اللجنة الاستشارية من الأكاديميين والتكنوقراطيين، وليسوا من أصحاب المصالح أو محل الخلاف، وأن الهدف النهائي هو «التوصّل لمقترحات بحلول للقضايا الخلافية في الأزمة السياسية»، وفق عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي.

شكوك إزاء البعثات الأممية

للعلم، سبق أن شكّلت البعثة الأممية «ملتقى الحوار السياسي الليبي» الذي عمل بين تونس ومدينة جنيف السويسرية بين عامي 2020 و2021، وانتهى إلى انتخاب السلطة التنفيذية ممثلة في المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفّي وحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة برئاسة الدبيبة.

في المقابل، يهيمن التشاؤم على معسكر الساسة والفاعلين المحليين الذين يرون أن البعثات الأممية أخفقت في تقديم حلول حاسمة على مدار قرابة 14 سنة، حتى باتت تدير الأزمة، بل و«تسعى لتنفيذ أجندات دول متنفذة في ليبيا»، وهي رؤية يتبنّاها عضو مجلس النواب الصالحين عبد النبي.

إلا أن البعثة الأممية دائماً ما تدفع هذا الاتهام بالتأكيد على وقوفها على مسافة واحدة من الأطراف كافة. ويتمسّك الرافضون للحلول الدولية للأزمة الليبية، بخيار الإجماع الليبي - الليبي حول طاولة واحدة، انطلاقاً من إرادة جامعة للاتفاق على الاستفتاء على الدستور ومن ثم الانتقال إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

ستيفاني خوري (البعثة الأممية)
ستيفاني خوري (البعثة الأممية)

وهنا عادت التساؤلات عن تأخّر «الحل الدستوري»، وتحديداً الاستفتاء على مواد مشروع الدستور الذي جرى إقراره قبل 7 سنوات، أو حسب علامة استفهام طرحها رئيس اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي نوح عبد السيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ قال: «أليس من الأجدىَ توجيه هذا الوقت المهدور لصالح إقرار الدستور»؟

وحقاُ، رغم التباينات على ضفّتي المسار الأممي الوليد في ليبيا، لا يزال اختلاف الأفرقاء حيال السماح بترشح «مزدوجي الجنسية والعسكريين» أو منعهم من الترشح للانتخابات الرئاسية، واحدة من العقد الرئيسة في القوانين الانتخابية التي حالت أيضاً دون الاستفتاء على الدستور. وللعلم، تعثّرت العملية السياسية التي كانت تستهدف حلّ الصراع الليبي، فتعذّر إجراء انتخابات كانت مقرّرة في ديسمبر 2021 وسط خلافات حول أهلية المرشحين الأساسيين.

العقبة الأخرى أمام المسار الأممي التي يرصدها متابعون، تتمثل في مسار آخر يسير فيه نواب من مجلس النواب و«المجلس الأعلى الدولة» بقصد الوصول إلى تشكيل «حكومة جديدة موحّدة» قادرة على قيادة ليبيا إلى انتخابات تشريعية وتنفيذية، وهو ما ترفضه حكومة طرابلس أيضاً. مع هذا، ثمة مَن يرى أن هذين المسارين «قد يثمران في كل الأحوال عن نتائج قد تحرّك العملية السياسية الراكدة»، بعيداً عن حالة الجمود التي تعيشها منذ أكثر من عقد. وهكذا، أمام تعقيدات الحالة الليبية، يكون التحدّي وفق رؤية محللين ليبيين، من بينهم الباحث أحمد أبو عرقوب هو مدى قدرة البعثة على تمرير مُخرجات اللجنة الاستشارية، وبالأخص، «في ظل ابتعاد الأطراف السياسية الأساسية عن عملية تشكيلها».

«خريطة الطريق»

بدأت بوادر هذا التحدّي في وقت مبكّر، عندما اجتمع أعضاء لجنة من مجلس النواب و«المجلس الأعلى للدولة» في منتصف الأسبوع الماضي لوضع «خريطة طريق» لسلطة تنفيذية جديدة توصل إلى الانتخابات، فيما اعتبره مراقبون «قطعاً للطريق» أمام العملية التي تقودها الأمم المتحدة.

هنا يُشار إلى أن أحزاب سياسية ليبية دخلت أيضاً على الخط، عبر مشاورات تهدف للتوصل إلى مبادرة لإنهاء الأزمة السياسية، تتضمن تشكيل «حكومة موحّدة». ويُذكر أن هذه الأحزاب «ذات الرصيد الشعبي المحدود» - وفق مراقبين - تعتقد أنها ستقدّم «بديلاً لمبادرة الأمم المتحدة». ويبدو أن الشكوك المحلية لا تزال قائمة رغم تأكيدات متكرّرة من البعثة عن أن لجنتها لن تكون بديلاً عن تحرّكات مجلس النواب و«مجلس الدولة»، بل ستعمل، وفق مسؤول الملف السياسي والعمل الميداني بالبعثة عمر المخفي، على مقترحات حول قانون الانتخابات، وتحديد مصير المجلس الرئاسي، والحكومة.

في هذا السياق، لم تستبعد مصادر مقربة من البعثة الأممية خيارات دولية ضد المُعرقلين هذه المرة متمثلة في العقوبات. وربما تكون هذه التدابير العقابية المتوقعة «أكثر حسماً وصرامة» من عقوبات سابقة على فرضها الاتحاد الأوروبي على رئيسي مجلس النواب عقيلة صالح و«المؤتمر الوطني الليبي العام السابق» نوري أبو سهمين في عام 2016 لاتهامهما بـ«عرقلة» حكومة «الوفاق الوطني» المنبثقة عن «اتفاق الصخيرات». وفي تصوّر آخر لسيناريوهات المسار الأممي، لا تغيب فرضية «منح فسحة من الوقت» أمام المبعوثة الأممية الجديدة هانا تيتيه، للتعرّف على الملف الليبي، وتكوين فكرة خاصة بها تساعدها على إطلاق مبادرة جديدة مبنية على توافقات دولية وإقليمية. ويشار هنا إلى أن المبعوث الأميركي إلى ليبيا، السفير ريتشارد نورلاند، أكد خلال لقائه تيتيه منتصف الأسبوع الماضي، دعم واشنطن لمهمة البعثة الأممية، بينما بقي التساؤل قائماً حول فرص حضورها جلسة دورية لمجلس الأمن الدولي الشهر الحالي لمناقشة الأوضاع المعقدة في ليبيا.

موقف المجتمع الدولي

أما عن موقف المجتمع الدولي، ورغم ما يظهر من تأييد واشنطن والاتحاد الأوروبي لمهمة اللجنة الاستشارية بصفتها خطوة أولية على مسار المبادرة الأممية الناشئة، فإن تقديرات بحثية غربية تذهب إلى «حاجة الأمم المتحدة الماسة إلى دعم دولي واسع النطاق». في هذا السياق، فإن مُخرجات اللجنة الاستشارية الدولية تحتاج «إما إلى الاتفاق عليها بين القادة الليبيين أو فرضها عليهم»، حسب تيم إيتون الباحث المتخصّص في الشؤون الليبية بمركز «تشاتام هاوس» البريطاني، الذي استبعد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إمكانية «قبول قادة ليبيا أي حلول من دون وساطة دولية قوية». إذ يرى إيتون أن التوافق على حلول للأزمة قد يحتاج إلى «إقرار واتفاق بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في حين أن الانقسام والفساد في ليبيا سيقودان إلى كارثة».