الرواق العباسي في المسجد الحرام.. شاهد على جمال العمارة الإسلامية

أعمدة الرواق القديم ستستخدم في الصف الأمامي للحرم بالتوسعة الجديدة

مشهد عام للحرم المكي
مشهد عام للحرم المكي
TT

الرواق العباسي في المسجد الحرام.. شاهد على جمال العمارة الإسلامية

مشهد عام للحرم المكي
مشهد عام للحرم المكي

شهدت التوسعات الحالية في المسجد الحرام بمكة المكرمة الإزالة المؤقتة للرواق الكبير المعروف باسم «الرواق العباسي»،. الرواق التاريخي يحمل وراءه الكثير من الروايات والشخصيات التي ارتبطت به، ويسرد التقرير التالي الذي أعدته الشقيقة «أوردو نيوز» تفاصيل تشييده ومصدر الأحجار التي دخلت في صناعته والنقوش الأثرية على تلك الأعمدة.
يرجع تاريخ الرواق الكبير في المسجد الحرام بمكة إلى عصر الخليفة العباسي المهدي، وهو رابع خلفاء بني العباس.
صحب صعود الدولة العباسية زيادة كبيرة في العمارة الإسلامية، حيث بذل الخلفاء العباسيون جهودا ضخمة في الإمدادات المقدمة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكذلك المرافق المتاحة لموسم الحج وللحجيج.
الخليفة المهدي، الذي حكم بين عامي 158 و169 هجرية (775 - 785 ميلادية)، أمر بتنفيذ واحدة من أكبر التوسعات التي شهدها المسجد الحرام في مكة، حيث قام بأداء فريضة الحج وألقى نظرة على التوسعات الجارية من أعلى جبل أبي قبيس بمحاذاة المسجد الحرام. ولاحظ الخليفة أن التوسعة غير متناسقة حول الكعبة المشرفة، فأمر بتنفيذ المزيد من التوسعات حتى تكون توسعة المسجد متناسقة.
وكان الأمر بإرفاق الرواق المذكور بفناء الكعبة إبان فترة خلافته للدولة العباسية.
وفي حديث خاص، قال سالم البخاري مستشار أمير منطقة مكة، إن التاريخ يذكر لنا أن تلك الأعمدة وتيجانها وقواعدها الرخامية قد نُقلت إلى مكة بطريق السفن الشراعية، حيث انتقلت السفن من مدينة البصرة عبر الخليج العربي، وطافت حول عُمان واليمن في بحر العرب، ثم انطلقت إلى البحر الأحمر، ويُعتقد أن تلك السفن رست أخيرا على ساحل منطقة الشعيبة، ونُقلت الأعمدة الرخامية، وكل منها يزيد وزنه على 20 طنا، من السفن الشراعية إلى قوارب أصغر.
ويعتقد البخاري أن بعض تلك الأعمدة فُقدت أثناء نقلها من السفن إلى القوارب الصغيرة، حيث خرجت عن سيطرة الحمالين وغاصت في عمق البحر.
بعد ذلك انتقلت مئات من تلك الأعمدة من قرية شعيبة إلى مكة المكرمة، وهي مسافة تبلغ نحو 80 كيلومترا. وغير معروف لنا كيفية انتقال الأعمدة التي تزن 20 طنا طوال تلك المسافة، ولكن يبقى ذلك الوزن وبكل تأكيد أكبر مما تستطيع الجمال حمله. وربما صُنعت لذلك الغرض بعض العربات ذات العجلات التي تلمست سبيلها بطريقة ما عبر رمال وصخور مدينة مكة، مما يجعل من نقل تلك الأعمدة إلى مكة مهمة شاقة وعسيرة بحق، حيث إن الطريق من شعيبة حتى مكة رملي بالكامل، وسحب العربات المحملة بالأعمدة الرخامية الضخمة لا بد أن يستلزم مجهودا شاقا وعملا ضخما.
يعلق: «إن نقل تلك الأعمدة الضخمة عبر تلك الدروب الوعرة، في حد ذاته، من الإنجازات الهندسية الجديرة بالتقدير، ويستحق مزيدا من البحث والتمحيص».
يقول السيد البخاري إنه يعتقد، بصفة عامة، أن الأعمدة قد جُلبت من سوريا. ومع ذلك، فلا بد أنها كانت مهمة شاقة للغاية لنقل تلك الأعمدة من دمشق أو من حلب إلى مكة عن طريق البحر الأحمر. بطريقة أو بأخرى كان لا بد من نقل الأعمدة من سوريا إلى ميناء العقبة، ثم تحميلها على السفن لنقلها إلى جدة أو الشعيبة.
ولكن ليس من ذكر في كتب التاريخ حول استخدام ذلك المسار في نقل الأعمدة.
كما أنه من غير الممكن جلب الأعمدة الرخامية الضخمة من سوريا عن طريق البر، وهي مسافة تزيد على 1500 كيلومتر.
يقول مضيفا: «يمكننا تحديد منشأ ومسار النقل بشكل أكثر وضوحا إذا ما وقفنا على موقع المحجر الذي استخرجت منه كتل الرخام التي تشكلت منها تلك الأعمدة، حيث إن الخط الساحلي على طول البحر الأحمر باتجاه الأردن ومصر غير معروف بإنتاج الرخام، وليس من المرجح مجيء تلك الكتل الرخامية من تلك المنطقة.
وبإمعان النظر، يبدو أن الأكثر وضوحا هو مجيء الأعمدة من العراق (الكوفة)، وهو ما تأكد من الكتابات المنقوشة على الأعمدة ذاتها».
يبلغ ارتفاع كل عمود 5 أمتار، وقطر كل منها يبلغ 60 أو 70 سم. جرى تثبيت تلك الأعمدة الرخامية في الرواق الذي يحيط بالمطاف من جميع الجوانب. يظهر المسح السطحي للأعمدة الرخامية أن معظمها استخرج من المحجر نفسه.
وبالتالي تُرجح كفة القول الدافع بأنه قد جرى استخراجها من أحد المحاجر بالقرب من الكوفة، حيث جرى تشكيلها أعمدة، ثم جرى تحميلها على السفن واستخدام مسار بحر العرب والبحر الأحمر المذكور آنفا.
ومن المحتمل تفريغ السفن لحمولتها في ميناء بالقرب من جدة تدعى شعيبة، التي كانت قرية صغيرة للصيادين وقتها.
وفي الوقت الحاضر تجري أعمال لإعادة إعمار وتجديد المسجد الحرام، والمعروفة بتوسعات الملك عبد الله، حيث جرت إعادة بناء المطاف حتى يكون، وفقا للخطة، أكثر دائرية حول الكعبة.
ولتنفيذ ذلك تعين إزالة المبنى القديم للمسجد الحرام، وأعيد بناؤه على أقسام. وتُشرف إحدى الشركات التركية المعروفة والمتخصصة في التجديد والمحافظة على المباني التاريخية في تركيا. ووفقا لأحد المهندسين بالشركة التركية المشرفة على أعمال الترميم، يُعتقد أنه مع انتهاء أعمال إعادة البناء سوف يكون هناك رواق مشابه للموجود حاليا، وسوف تستخدم أعمدة الرواق القديم لتكون هي أعمدة الصف الأمامي بالرواق الجديد. وبذلك تجري المحافظة على مظهر من مظاهر التاريخ في الواجهة الأمامية، ويليها البناء الحديث في الخلفية. يضيف المصدر لدى الشركة التركية أن عملية تفكيك الأعمدة الأثرية جرت بعناية، حيث مهر كل حجر برقم مميز قبل إزالته، وبعد ذلك غلف بعناية تامة.
بعد ذلك جرى نقل الأحجار إلى إحدى الورش في منطقة مزدلفة، حيث جرى تشييد نموذج بالحجم الطبيعي ليظهر من خلاله المنظر الجديد للبناء. وسوف تستخدم الأعمدة الرخامية والحجرية الأصلية في عملية إعادة إعمار الأقواس.
ومع ذلك، ومع تغير التصميمات، فسوف يزيد ارتفاع الأعمدة عما هي عليه الآن. ولتنفيذ الزيادة في الارتفاع، سوف تُضاف قاعدة أعلى، وعنصر إضافي أسفل كل عمود من الأعمدة الجديدة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)