«سرفانتس» تتوج الشعر للمرة الثالثة على التوالي

استحقها فرنسيسكو برينيس وهو على أعتاب التسعين

فرنسيسكو برينيس
فرنسيسكو برينيس
TT

«سرفانتس» تتوج الشعر للمرة الثالثة على التوالي

فرنسيسكو برينيس
فرنسيسكو برينيس

«أحسب أن هذا الخبر سيحمل المسرّة إلى أمّي... فهي كانت تردّد أني هائم على سجيّتي في الطريق الخطأ، لكن في النهاية كانت النتيجة عكس ذلك»، بهذه العبارات استقبل الشاعر الإسباني فرنسيسكو برينيس، نبأ حصوله على «جائزة سرفانتيس»، أهم الجوائز للآداب باللغة الإسبانية، وهو في منزله الذي يقع وسط حدائق البرتقال في غوطة على الساحل الشرقي لمدينة فالنسيا على أبواب التاسعة والثمانين من عمره.
أسمع خبر حصول برينيس على الجائزة وأمامي مجلّد أعماله الشعرية الذي يقع في أكثر من 600 صفحة تحمل قصائد يمتدّ بعض أبياتها على عدة صفحات، وأذكر آخر مرة رأيته فيها واستمعت إليه يقرأ من أشعاره خلال مهرجان أدبي في مدينة الإسكندرية عام 2003، مستحضراً ابنها الأثير كافافيس سليل أعماق الحسّ الإغريقي:
تدقّ السنون على أبواب جسدي
فأستضيفها على مضض
عقيمة ومتعاقبة.
تتمدّد على مخدعي
وتلطّخ وحدتي
منذ سنوات يتردد اسم برينيس على قائمة المرشّحين لنيل هذه الجائزة التي فاز بها في العامين الماضيين شاعران أيضاً هما الكاتالوني جوان ماغاريت، وشاعرة الأوروغواي الأولى إيدا فيتالي.
يعتبر برينيس واحداً من أهم الشعراء الإسبان في النصف الثاني من القرن الماضي، وخاتمة «جيل الخمسين» الشهير الذي أنتج كوكبة من كبار الشعراء الإسبان بين المولودين خلال الحرب الأهلية مثل خوسيه مانويل كابايّرو بونالد وكارلوس بارّال وخايمي خيل بيدما أو كلاوديو رودريغيز، الذين ذكرهم جميعاً في تصريحاته الأولى بعد نيل الجائزة فقال: «الشعر أهداني أجمل الصداقات التي كانت أذرعي مفتوحة دائماً لها. أنا مدين للشعر، وممتنّ له، لأنه دفعني إلى قول ما كنت عاجزاً عن قوله من دونه، ولأنه تدفّق من حيث أراد وتركته يحملني معه».
من دواوينه البارزة التي نال عليها أيضاً الجائزة الوطنية للآداب في عام 1986، «خريف الورد»، و«الشيء الأخير»، و«أنا أستريح في النور»، و«بين عدَمَين».
لا يخفي برينيس سعادته بالحصول على الجائزة، لكنه يقول إن كثيرين غيره يستحقونها، وربما عن جدارة أكثر، ويضيف: «أعتقد أني شاعر حقيقي، أي أن الشعر يولد في داخلي بشكل عفوي وطبيعي، وهذا مهم جداً بالنسبة إليّ. إنه كمثل نعمة تهبط من السماء، ولا تنتظر شيئاً فيما نرى إلى أعالي الدنيا، وأيضاً إلى أسافلها، لأن الأرض سماء وبينهما الهواء مسكننا جميعاً».
شغفه بالحضارات المتوسطية، خصوصاً الحضارة الإغريقية، يلمع كخيوط الذهب في كل أعماله، يقول: «...الرحلة إلى اليونان هي بوابة الدخول إلى مرحلة الاكتمال في الشعر. وهي ليست مجرّد رحلة مليئة بالمفاجآت والاكتشافات، بل هي أيضاً رحلة لنتعرّف على ما لا نعرفه في ذاتنا».
وكما أن الشعر لا ينمو في التربة المزروعة باليقين، يرتمي برينيس دائماً في أحضان القلق، يستسلم إلى التوق لكشف المعارف المموّهة والذات المحجّبة. إنه، كما يقول، لم يبذل أي جهد أبداً من أجل التمايز أو التفرّد: «.. لا بل إني سعيت دائماً للابتعاد عنه. لكني حاولت البحث في ذاتي، وقاسيت لكشف شخصيتي. أعتقد أن الشخصية القوية تقتضي قدراً كبيراً من الكثافة ولا تحتاج للتمايز أو للتفرّد».
الحب عند برينيس من المطارح البعيدة والعميقة التي لا تتسّع بسهولة للآخر «.. إلا عندما تغمرها غبطة الجسد ويعبرها التواصل الكامل، عندئذ يبلغ الإنسان ذروة السعادة التي تبرّر له كل الكوارث اللاحقة».
من السمات التي يتميّز بها برينيس قدرته الخارقة على احتواء الأماكن والمواقع في شعره، والتحرّك بسهولة وارتياح في غرفة تطلّ على المغيب في قريته أو أمام البحر، أو في مدريد على أعتاب الليل، أو في قارب يتهادى فوق مياه النيل أو على هضبة في ربوع توسكانة. وغالباً ما تتعاقب قصائده فيما يشبه المطارح الثابتة خارج الزمن، مطارح التأمل والرغبة المكتملة، أو مطارح الحنين المنزّه عن المرارة والحزن. يرسم المشهد بوضوح ساطع، لكنه يترك دائماً نافذة للشك أو طاقة مفتوحة على الأسئلة.
قصائد الحب عنده تذكّر بأشعار لوركا الأخيرة، حيث النهايات بعد الفراق لا تمحو الوعد بالعذاب، لأن في مجد اللحظة الراهنة تنبض بذور الزمن اللاهث الذي يحمل معه كل شيء، ولأن كل لقاء ليس سوى بداية لفراق محتوم.
ثمّة سخاء في الفرح عند برينيس، وسكون في الحزن، ولا ضغينة أو حقد في الخسارة أو الفقدان، بل امتنان للحياة يعبر قصائده كمثل خيط رفيع، يزنرّها ويزيّنها، ويشدّه إلى مهبّ الأنفاس الأولى. وإذا كنّا جميعاً نُطرد من الجنة عندما نخرج من الطفولة، فإن برينيس لم يوصد أبداً باب جنّته التي عاد إليها بين كروم البرتقال عند أقدام البحر، يافعاً ثم ناضجاً، وإلى اليوم حيث يعيش ما تبقّى له من أحلام وأيام في المكان الذي لم يفارقه أبداً لا في حلّه ولا في ترحاله.
وثمّة محطتان أساسيتان ومكملتان إحداهما للأخرى في مسيرة برينيس الشعرية والحياتية: فقدان الجنّة التي ولد فيها، والبحث عنها عبر قصائد انطوائية يتساقط فيها على نفسه كأزاميل النحّاتين بلغة متواضعة لا تبهر بقدر ما تعبر إلى الأعماق، وتنداح فيها بعذوبة الماء المصفّى، حاملة تلك الرغبة الدفينة التي عبّر عنها يوماً بقوله: «أتمنى أن أكتب قصيدة، من ثلاثة أبيات لا أكثر، يقرأها بتأثر أولاد أحفادي».



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.