من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية
TT

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

لقد كان المشهد العسكري دمويا في الحرب الأهلية الأميركية بحلول عام 1863، حيث ظلت الجيوش الاتحادية تحت قيادة الرئيس لنكون على قوتها المترامية من خلال رصيد لا ينتهي من العدة والعتاد والجنود، بينما ظلت جيوش الكونفدرالية تحت القيادة العسكرية للجنرال ليي تعاني من مشكلات جمة على رأسها الندرة النسبية للجنود بسبب النقص العددي لهذه الولايات الجنوبية، وعدم وجود قاعدة صناعية بهذه الولايات مقارنة بالشمال، فضلا عن الحصار البحري المفروض علي موانئها من قبل البحرية الاتحادية، وهو ما أثر على تجارتها بما فيها وارداتها من السلاح، وظلت كل مساعي الكونفدرالية لإيجاد حلفاء في فرنسا وبريطانيا تذهب أدراج الريح، وقد انعكست كل هذه الحقائق على المسرح العسكري والذي ظل بدرجة أو بأخرى متكافئا بشكل نسبي من خلال معارك متفرقة في الشرق والغرب لم تحسم لصالح أي من الطرفين، ولكن الملاحظ خلال هذه الفترة أن جيوش الاتحاد كانت لها سيطرة ملحوظة بسبب الميزة النسبية لها رغم أنها مُنيت في الكثير من الأحيان بانتكاسات عسكرية، وهو ما دفعها إلى محاولة التركيز على الاستيلاء على النقاط الاستراتيجية لدى الكونفدرالية والدخول في معارك استنزاف واسعة النطاق، التي لم تحقق مكاسب عسكرية كبرى ولكنها كانت تستهلك قوة الجيوش الكونفدرالية، والتي كانت قيادتها العسكرية أفضل نسبيا من قيادة جيوش الاتحاد.
لقد ظل هذا الوضع حتى يوليو (تموز) 1863، وهو الشهر الذي يمكن القول إن جيوش الاتحاد حسمت فيه الحرب الأهلية لصالحها من خلال معركتين شهيرتين، الأولى في الأول من يوليو والمعروفة باسم فيكسبورغ (Vicksburg) والثانية معروفة باسم جيتيسبورج (Gettysburg)، فلقد أدرك الاتحاديون أن الحرب لن تحسم إلا من خلال الاستيلاء على مدينة فيكسبورغ الواقعة على نهر الميسيسيبي التي كانت مركزا للتجمع العسكري والتجارة وملتقى استراتيجي هام يكاد يكون أهم مركز للجنوب، ولو استولى عليه الاتحاديون لشطروا الكونفدرالية إلى نصفين، وقد سعت جيوش الاتحاد للسيطرة على هذه المدينة بأي ثمن بلا جدوى، فلقد استمرت المحاولات للاستيلاء على هذه المدينة لمدة أشهر، خصوصا من خلال البحرية الاتحادية، ولكن المدينة لم تستسلم بسبب موقعها الحصين المرتفع عن النهر، ولكن سقوط ولاية لويزيانا ساهم بشكل كبير في نقل مشاة الجيوش الاتحادية إلى هذه المنطقة، وقد كانت قيادة الجنرال يوليسيس غرانت والجنرال شيرمان حاسمة في هذا الأمر، فبعد محاولات كثيرة فاشلة للهجوم المباشر بثمن عالٍ للغاية، قرر غرانت أن يفرض الحصار على المدينة من كل الاتجاهات تاركا عاملَي الجوع ونفاد الذخيرة ليحسما الأمر، وبالفعل بعد 46 يوما من الحصار استسلمت المدينة في عيد الاستقلال (4 يوليو) وأصبحت الكونفدرالية منقسمة إلى شطرين وجيوش الاتحاد تستعد للتحرك غربا للقضاء على جيوش الكونفدرالية بعد أن حرمتها من أحد مراكزها الأساسية.
أما على المسرح الغربي فإن جيوش الاتحاد لم تكن في أحسن أحوالها، فلقد قرر الجنرال ليي أن يغامر بكل ما لديه من أجل الاستيلاء على العاصمة واشنطن ونقل الحرب إلى عقر دار الشمال، ولو نجحت جيوش الكونفدرالية في ذلك لأصبح وضع الاتحاد سيئا للغاية ولامتدت الحرب الأهلية لسنوات إضافية بالاستيلاء على عاصمتها وشرخ كيانها السياسي، وقد تحرك هذا الجيش الذي كان أكبر الجيوش الكونفدرالية نحو الشمال في مدينة جيتيزبورغ في ولاية بنسلفانيا، ودارت معركة قوية في المدينة فلم يستطع جيش الاتحاد الصمود طويلا أمام جحافل الخصم، وبدأ يتراجع صوب المرتفعات القريبة من المدينة، وهنا برزت عبقرية مييد (Meade) قائد الجيش الاتحادي، حيث جمع قواته في المرتفعات الجنوبية للمدينة ووضعها صفا مستقيما لمسافة 3 أميال ينزوي هذا الصف شمالا نحو اليمين في زاوية شبه مستقيمة لحماية ميمنة الجيش من أية التفافات للعدو، وقد كان مييد قائدا بارعا ذا خلفية هندسية وأدرك أن المرتفعات تمثل له وسيلة دفاعية جيدة أمام القوة الغالية للكونفدرالية، وكانت تعليماته واضحة، وهي أن المعركة ستكون دفاعية بالنسبة إلى جيشه، ولن يخطو نحو الهجوم إلا بعد كسر موجات هجومه واستنزافه، وكان المبدأ الأساسي الذي ذرعه لقادته هو عدم التنازل تحت أي ظرف عن المواقع المرتفعة والتحصينات.
بدأت المعركة بمناوشات على خطوط الجيش الاتحادي، وفي يوم 2 يوليو أمر ليي بهجوم على ميسرة الجيش الاتحادي في محاولة للالتفاف حوله، وقد كادت المحاولة تنجح لولا أن سلاح الفرسان فقد بوصلته العسكرية بسبب كثافة الأشجار، ولكن المعركة استمرت بشكل قوي للغاية خلال الساعات التالية على الجبهة كلها، ومع ذلك فقد كانت دفاعات جيش الاتحاد حصينة، إلى أن حدث بها شرخ قوي بسبب خروج أحد قواده ويدعى سيكلز (Sickles) عن تعليمات القيادة في محاولة عنترية حمقاء لنيل الشرف، فتقدم بلوائه من قلب الجيش ونزل عن المرتفعات العالية لمواجهة العدو تاركا هوة واسعة بينه وبين باقي الجيش، وهو ما دفع الجيش الكونفدرالي للهجوم عليه والسعي لحصاره بمعزل عن باقي الجيش. لو نجحت هذه العملية لأصبح الجيش الاتحادي منقسما إلى ميمنة وميسرة وبلا قوة تذكر في القلب، ولكن سرعان ما تدارك القائد مييد الموقف على الفور حيث ركز مدفعيته لضرب الجيش الكونفدرالي والدفع بالاحتياطي لتغطية الفجوة الناجمة عن هذا التحرك الأحمق لسيكلز فأرسل له المدد من الجيش، وجمع ما تيسر له من المدفعية نحو القلب لتوفير الحماية اللازمة لهذا اللواء المنشق، وعلى الرغم من سحق الهجوم الكونفدرالي المضاد، إلا أن هذا الخطأ التكتيكي أدى إلى استغلال القائد ليي للتحركات المختلفة للخصم لسد الفجوة في الوسط على حساب الميسرة التي بدأت تضعف، وهو ما دفعه إلى تجهيز هجوم خاطف على ميسرة جيش الاتحاد في جنح الليل، الذي كانت تحرسه قوات من 1400 جندي مقابل 4500 جندي كونفدرالي، ولكن استبسال المدافعين والظلام الدامس منع نجاح هذه المحاولة التي لو نجحت لأصبح وضع جيش الاتحاد شبه ميؤوس منه، حيث كان سيتم تطويقه على الفور، وهنا أدرك مييد انكشاف الميسرة فأرسل التعزيزات على الفور لردع أي هجوم جديد بحلول الصباح.
وعندما فشلت كل المناورات أمام جيش الكونفدرالية، فكر ليي في أن يدفع جنوده بهجوم مباشر على طول الجبهة مركزا على القلب مرة أخرى، لا سيما أن فرص التطويق باتت مستبعدة، وهنا يمكن القول إن ليي «اقترف» خطأ استراتيجيا بشنه هجوما مباشرا في الوقت الذي كان من المفترض ضرورة الانتظار لفتح ثغرة أخرى في دفاعات الاتحاديين، كذلك فقد كان يجب عليه أن يدرك أن جيشه كان مطالبا بتخطي ما يقرب من كيلومترين من المسافة قبل الوصول إلى الخصم، وهي مسافة كبيرة للغاية، خصوصا أن الخصم كان على تبة عالية، ومن ثم استحالة نجاح هذه المحاولة اليائسة، وقد دفع ليي ثمنا باهظا لهذا الخطأ التكتيكي، فقبل إدراك قواته لدفاعات الخصم للاشتباك معه كانت مدفعية الاتحاد من أعلى التبة قد أحاطت بقوات ليي المهاجمة، وهذه كانت العملية الفاصلة التي حسمت المعركة لصالح الاتحاديين وأدت إلى انسحاب فلول الكونفدرالية بعدما فقدوا القدرة على التجمع والسيطرة الميدانية، وتبع ذلك هجوم الجيش الاتحادي بكل قوته ودحر قوات الخصم، الذي فر تاركا مدينة جيتيزبورغ تحت رحمة الاتحاديين والذين استولوا عليها.
لقد أدت معركة جيتيزبورغ إلى هزيمة الجنرال ليي فكان لها أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية لجيوش الاتحاديين في كل مسرح العمليات، كما أنها قوضت أية فرصة للكونفدرالية لنقل القتال إلى الشمال، وباتت هزيمة الكونفدرالية في شهر يوليو 1863 مسألة وقت لا غير، رغم استمرار جيوشها شرقا وغربا، ومن هذه الخطوة بدأت قواتها تتراجع أمام جيوش الاتحاد بشكل غير منظم، وأصبح الأمل في انتصار الكونفدرالية أمرا ميؤوسا منه مع مرور الوقت، خصوصا عندما أعلن الاتحاد إلغاء الرق وفتح المجال أمام انضمام الرقيق إلى الجيش الأميركي، وهي الخطوة التي ساهمت في تدمير القدرة الكونفدرالية على الصمود طويلا كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.