من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية
TT

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

لقد كان المشهد العسكري دمويا في الحرب الأهلية الأميركية بحلول عام 1863، حيث ظلت الجيوش الاتحادية تحت قيادة الرئيس لنكون على قوتها المترامية من خلال رصيد لا ينتهي من العدة والعتاد والجنود، بينما ظلت جيوش الكونفدرالية تحت القيادة العسكرية للجنرال ليي تعاني من مشكلات جمة على رأسها الندرة النسبية للجنود بسبب النقص العددي لهذه الولايات الجنوبية، وعدم وجود قاعدة صناعية بهذه الولايات مقارنة بالشمال، فضلا عن الحصار البحري المفروض علي موانئها من قبل البحرية الاتحادية، وهو ما أثر على تجارتها بما فيها وارداتها من السلاح، وظلت كل مساعي الكونفدرالية لإيجاد حلفاء في فرنسا وبريطانيا تذهب أدراج الريح، وقد انعكست كل هذه الحقائق على المسرح العسكري والذي ظل بدرجة أو بأخرى متكافئا بشكل نسبي من خلال معارك متفرقة في الشرق والغرب لم تحسم لصالح أي من الطرفين، ولكن الملاحظ خلال هذه الفترة أن جيوش الاتحاد كانت لها سيطرة ملحوظة بسبب الميزة النسبية لها رغم أنها مُنيت في الكثير من الأحيان بانتكاسات عسكرية، وهو ما دفعها إلى محاولة التركيز على الاستيلاء على النقاط الاستراتيجية لدى الكونفدرالية والدخول في معارك استنزاف واسعة النطاق، التي لم تحقق مكاسب عسكرية كبرى ولكنها كانت تستهلك قوة الجيوش الكونفدرالية، والتي كانت قيادتها العسكرية أفضل نسبيا من قيادة جيوش الاتحاد.
لقد ظل هذا الوضع حتى يوليو (تموز) 1863، وهو الشهر الذي يمكن القول إن جيوش الاتحاد حسمت فيه الحرب الأهلية لصالحها من خلال معركتين شهيرتين، الأولى في الأول من يوليو والمعروفة باسم فيكسبورغ (Vicksburg) والثانية معروفة باسم جيتيسبورج (Gettysburg)، فلقد أدرك الاتحاديون أن الحرب لن تحسم إلا من خلال الاستيلاء على مدينة فيكسبورغ الواقعة على نهر الميسيسيبي التي كانت مركزا للتجمع العسكري والتجارة وملتقى استراتيجي هام يكاد يكون أهم مركز للجنوب، ولو استولى عليه الاتحاديون لشطروا الكونفدرالية إلى نصفين، وقد سعت جيوش الاتحاد للسيطرة على هذه المدينة بأي ثمن بلا جدوى، فلقد استمرت المحاولات للاستيلاء على هذه المدينة لمدة أشهر، خصوصا من خلال البحرية الاتحادية، ولكن المدينة لم تستسلم بسبب موقعها الحصين المرتفع عن النهر، ولكن سقوط ولاية لويزيانا ساهم بشكل كبير في نقل مشاة الجيوش الاتحادية إلى هذه المنطقة، وقد كانت قيادة الجنرال يوليسيس غرانت والجنرال شيرمان حاسمة في هذا الأمر، فبعد محاولات كثيرة فاشلة للهجوم المباشر بثمن عالٍ للغاية، قرر غرانت أن يفرض الحصار على المدينة من كل الاتجاهات تاركا عاملَي الجوع ونفاد الذخيرة ليحسما الأمر، وبالفعل بعد 46 يوما من الحصار استسلمت المدينة في عيد الاستقلال (4 يوليو) وأصبحت الكونفدرالية منقسمة إلى شطرين وجيوش الاتحاد تستعد للتحرك غربا للقضاء على جيوش الكونفدرالية بعد أن حرمتها من أحد مراكزها الأساسية.
أما على المسرح الغربي فإن جيوش الاتحاد لم تكن في أحسن أحوالها، فلقد قرر الجنرال ليي أن يغامر بكل ما لديه من أجل الاستيلاء على العاصمة واشنطن ونقل الحرب إلى عقر دار الشمال، ولو نجحت جيوش الكونفدرالية في ذلك لأصبح وضع الاتحاد سيئا للغاية ولامتدت الحرب الأهلية لسنوات إضافية بالاستيلاء على عاصمتها وشرخ كيانها السياسي، وقد تحرك هذا الجيش الذي كان أكبر الجيوش الكونفدرالية نحو الشمال في مدينة جيتيزبورغ في ولاية بنسلفانيا، ودارت معركة قوية في المدينة فلم يستطع جيش الاتحاد الصمود طويلا أمام جحافل الخصم، وبدأ يتراجع صوب المرتفعات القريبة من المدينة، وهنا برزت عبقرية مييد (Meade) قائد الجيش الاتحادي، حيث جمع قواته في المرتفعات الجنوبية للمدينة ووضعها صفا مستقيما لمسافة 3 أميال ينزوي هذا الصف شمالا نحو اليمين في زاوية شبه مستقيمة لحماية ميمنة الجيش من أية التفافات للعدو، وقد كان مييد قائدا بارعا ذا خلفية هندسية وأدرك أن المرتفعات تمثل له وسيلة دفاعية جيدة أمام القوة الغالية للكونفدرالية، وكانت تعليماته واضحة، وهي أن المعركة ستكون دفاعية بالنسبة إلى جيشه، ولن يخطو نحو الهجوم إلا بعد كسر موجات هجومه واستنزافه، وكان المبدأ الأساسي الذي ذرعه لقادته هو عدم التنازل تحت أي ظرف عن المواقع المرتفعة والتحصينات.
بدأت المعركة بمناوشات على خطوط الجيش الاتحادي، وفي يوم 2 يوليو أمر ليي بهجوم على ميسرة الجيش الاتحادي في محاولة للالتفاف حوله، وقد كادت المحاولة تنجح لولا أن سلاح الفرسان فقد بوصلته العسكرية بسبب كثافة الأشجار، ولكن المعركة استمرت بشكل قوي للغاية خلال الساعات التالية على الجبهة كلها، ومع ذلك فقد كانت دفاعات جيش الاتحاد حصينة، إلى أن حدث بها شرخ قوي بسبب خروج أحد قواده ويدعى سيكلز (Sickles) عن تعليمات القيادة في محاولة عنترية حمقاء لنيل الشرف، فتقدم بلوائه من قلب الجيش ونزل عن المرتفعات العالية لمواجهة العدو تاركا هوة واسعة بينه وبين باقي الجيش، وهو ما دفع الجيش الكونفدرالي للهجوم عليه والسعي لحصاره بمعزل عن باقي الجيش. لو نجحت هذه العملية لأصبح الجيش الاتحادي منقسما إلى ميمنة وميسرة وبلا قوة تذكر في القلب، ولكن سرعان ما تدارك القائد مييد الموقف على الفور حيث ركز مدفعيته لضرب الجيش الكونفدرالي والدفع بالاحتياطي لتغطية الفجوة الناجمة عن هذا التحرك الأحمق لسيكلز فأرسل له المدد من الجيش، وجمع ما تيسر له من المدفعية نحو القلب لتوفير الحماية اللازمة لهذا اللواء المنشق، وعلى الرغم من سحق الهجوم الكونفدرالي المضاد، إلا أن هذا الخطأ التكتيكي أدى إلى استغلال القائد ليي للتحركات المختلفة للخصم لسد الفجوة في الوسط على حساب الميسرة التي بدأت تضعف، وهو ما دفعه إلى تجهيز هجوم خاطف على ميسرة جيش الاتحاد في جنح الليل، الذي كانت تحرسه قوات من 1400 جندي مقابل 4500 جندي كونفدرالي، ولكن استبسال المدافعين والظلام الدامس منع نجاح هذه المحاولة التي لو نجحت لأصبح وضع جيش الاتحاد شبه ميؤوس منه، حيث كان سيتم تطويقه على الفور، وهنا أدرك مييد انكشاف الميسرة فأرسل التعزيزات على الفور لردع أي هجوم جديد بحلول الصباح.
وعندما فشلت كل المناورات أمام جيش الكونفدرالية، فكر ليي في أن يدفع جنوده بهجوم مباشر على طول الجبهة مركزا على القلب مرة أخرى، لا سيما أن فرص التطويق باتت مستبعدة، وهنا يمكن القول إن ليي «اقترف» خطأ استراتيجيا بشنه هجوما مباشرا في الوقت الذي كان من المفترض ضرورة الانتظار لفتح ثغرة أخرى في دفاعات الاتحاديين، كذلك فقد كان يجب عليه أن يدرك أن جيشه كان مطالبا بتخطي ما يقرب من كيلومترين من المسافة قبل الوصول إلى الخصم، وهي مسافة كبيرة للغاية، خصوصا أن الخصم كان على تبة عالية، ومن ثم استحالة نجاح هذه المحاولة اليائسة، وقد دفع ليي ثمنا باهظا لهذا الخطأ التكتيكي، فقبل إدراك قواته لدفاعات الخصم للاشتباك معه كانت مدفعية الاتحاد من أعلى التبة قد أحاطت بقوات ليي المهاجمة، وهذه كانت العملية الفاصلة التي حسمت المعركة لصالح الاتحاديين وأدت إلى انسحاب فلول الكونفدرالية بعدما فقدوا القدرة على التجمع والسيطرة الميدانية، وتبع ذلك هجوم الجيش الاتحادي بكل قوته ودحر قوات الخصم، الذي فر تاركا مدينة جيتيزبورغ تحت رحمة الاتحاديين والذين استولوا عليها.
لقد أدت معركة جيتيزبورغ إلى هزيمة الجنرال ليي فكان لها أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية لجيوش الاتحاديين في كل مسرح العمليات، كما أنها قوضت أية فرصة للكونفدرالية لنقل القتال إلى الشمال، وباتت هزيمة الكونفدرالية في شهر يوليو 1863 مسألة وقت لا غير، رغم استمرار جيوشها شرقا وغربا، ومن هذه الخطوة بدأت قواتها تتراجع أمام جيوش الاتحاد بشكل غير منظم، وأصبح الأمل في انتصار الكونفدرالية أمرا ميؤوسا منه مع مرور الوقت، خصوصا عندما أعلن الاتحاد إلغاء الرق وفتح المجال أمام انضمام الرقيق إلى الجيش الأميركي، وهي الخطوة التي ساهمت في تدمير القدرة الكونفدرالية على الصمود طويلا كما سنرى.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.