مرت قبل أيام الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الأديب المفكر السياسي الليبي الصادق النيهوم، 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1994.
وبهذه المناسبة، أصدرت «مجموعة الوسط للإعلام» التي تتخذ من القاهرة مقراً لها كتاباً بعنوان «الصادق النيهوم... جامع المختلف عليه»، قام بتحريره الروائي الناقد الليبي أحمد الفيتوري، وتضمن مقالات ودراسات بعضها ناقش أفكار النيهوم واحتفى به، وبعضها حاوره واختلف معه. وسعى الفيتوري من خلال الكتاب إلى منح القارئ «شيئاً من المعرفة بالصادق النيهوم».
علاقة المثقف بالسياسي
في مقدمته للمختارات التي انقسمت لأربعة أقسام: «في البدء»، و«دراسات في الأدب والفكر»، و«مقالات»، و«وثائق»، يقول الفيتوري إن «القارئ الحصيف سوف يدرك أن الكتاب يجمع وثائق تدل على الصادق النيهوم، وتؤشر إلى أنه مبدع ومفكر إشكالي، مثير للاختلاف حول شخصه كما حول أطروحاته، وقد شغل نفسه بالمختلف عليه منذ نعومة فكره، وبدء إبداعه... إن النيهوم طالته الكثير من الشائعات، منها أنه هو الذي ألف الكتاب الأخضر، لكنه نفى ذلك في حضور معمر القذافي نفسه، وكوكبة من الكتاب والمبدعين الليبيين، كان من ضمنهم الفيتوري، والكاتبة فوزية شلابي وزيرة الثقافة الليبية في عهد القذافي».
قصة هذه الواقعة حكاها الفيتوري في مقال بعنوان «الهيبي والعقيد»، وذكر أن النيهوم كان في صدارة الجلسة، ما يؤشر لأريحية واضحة كان يتمتع بها في حضرة القذافي، ويشير لمكانته الخاصة التي كان يحظى بها لديه. وقد تبين للفيتوري من سياق الجلسة، رغم نفي النيهوم، أن له دوراً رئيسياً في الكتابة والأفكار، لكن مسودة «الكتاب الأخضر» قد أُعيدت صياغتها دون رضى النيهوم.
وقد كان وراء علاقة النيهوم بالقذافي -كما يرى الفيتوري- كثير من «الطموحات التي رغب أن تقوده للسلطة، لكنه لم يصل إليها لأن العسكر ذهبوا لها من أقصر الطرق. أما هو، فقد سعى إليها من طريق طويل، فخسرها». وقد بدأت علاقة النيهوم المميزة بالقذافي عقب استيلائه على السُلطة بانقلابه العسكري في سبتمبر (أيلول) 1969. ففي تلك الفترة، عقد لقاءً موسعاً بالمثقفين الليبيين، توطدت خلاله العلاقة بينهما، وأصبح أمين «لجنة الدعوة والفكر في الاتحاد الاشتراكي»، لكن ذلك لم يُرضِ النيهوم، فسافر لبيروت، وهناك كتب خُطاطة فكرية نظرية، تمثل حلاً للمشكل السياسي الاجتماعي، قدمها في كُتيب تحت عنوان «نقاش» للاتحاد الاشتراكي. ولم يتم تداول الكتيب بشكلٍ عامٍ، لكن اعتمده القذافي فيما سماها «النظرية العالمية الثالثة»، مستفيداً فيه أيضاً من آراء الدكتور عصمت سيف الدولة، والكاتب السوداني بابكر كرار.
وفي مقال بعنوان «أو ليس الذي تنتظره بنيلوب» الذي جاء بمثابة مرثية للصادق النيهوم، تحدث الروائي إبراهيم الكوني عن تاريخ علاقته معه، ذاكراً أنها تعود إلى عام 1968، إبان انعقاد مؤتمر الأدباء الليبيين الأول، حيث «كان النيهوم نجمه بلا منازع»، ثم أشار إلى لقاء جمعه في مؤتمر أدباء المغرب العربي في مارس (آذار) عام 1969م، تعرف فيه أكثر على «شخصيته الأسطورية المشبعة بالروح البروتستانتية، وثقافته الموسوعية، وروح السخرية التي لم يفقدها إلى آخر يوم في حياته». وأشار الكوني لعلاقة الصادق النيهوم الملتبسة بزملائه الأدباء، خاصة بعد المناقشة العاصفة التي درات بينه وبين الكاتب عبد الله القويري عام 1973، في أثناء مؤتمر الأدباء الليبيين الثاني، وقال إنها خلقت جواً من سوء الفهم بينه وبين الوسط الثقافي في بلاده، استمر حتى بعد أن تخلى النيهوم عن مهامه بصفته أميناً لـ«لجنة الدعوة والفكر في الاتحاد الاشتراكي»، وانتقاله للإقامة في بيروت؛ وقد ألقى ذلك بظلاله الثقيلة على علاقته بزملائه حتى ساعة رحيله.
تجربة فكرية ملتبسة
أما الكاتب أحمد الماقني، فقد خصص مقاله عن التجربة الفكرية المُلتبسة للصادق النيهوم. وتحدث في هذا المقال عن بروز النيهوم في بداية الستينيات، ضمن وسط فكري تسيطر عليه المدارس التقليدية في الأدب والفكر، مشيراً إلى أن ذلك جاء نتيجة طبيعية لـ«سيادة الطبقة الليبرالية التي اعتمد عليها في تسويق أفكاره، وتحرير المقالة الليبية من جمود بنيويتها، ووضعها في إطار جديد، تتداخل فيه الرؤى والمرامي والأبعاد والصور».
أما الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، فقدم صورة قلمية للنيهوم، قال فيها إن «دخوله لمعترك الحياة الثقافية والأدبية في بلاده كان عاصفاً، أزال جزءاً من البلادة التي كانت تغلف الناس والأشياء، وأنشأ ضجيجاً وصخباً، وأعاد الحياة للساحة الثقافية الخاملة. أما مقالاته، فلم تكن تقليدية لأن مشروعه كان منذ اللحظات الأولى معادياً للتقليد والتكرار والروتين».
وتضمن القسم الثاني من الكتاب مجموعة من الدراسات الأدبية حول إبداعات الصادق النيهوم، منها «في مشروع الصادق النيهوم الروائي» لرمزي الزايري، و«الخرافي في الرواية المغاربية المعاصرة: رواية (الحيوانات) للصادق النيهوم - نموذجاً» لحميد الجراري. كما كتبت هاجر العبيد دراسة حول «فن الأدب ومفهومه عند الصادق النيهوم». أما علي حرب، فقد تحدث عن «الفكر، ومسألة الصادق النيهوم من يأسر من؟»، وقدم حسن حنفي مقالاً بعنوان «الثورة من جنيف»، وعبد الباسط سيدا «الصادق النيهوم تشخيص شجاع لواقع مضطرب»، ولطيف الحبيب «الصادق النيهوم دفاعاً عن كارل ماركس»، وفيصل عبد الحسن «مفهوما المقدس والتنوير في فكر الصادق النيهوم»، ومحمد جلال كشك حول «الديمقراطية التي يبشرون بها» و«النيهوم عندما لا يكفي التمرد» طارق القزيري.
ومن المقالات الأخرى: «في نقد الفكر الإصلاحي - نموذج الصادق النيهوم» لإبراهيم أزروال، و«تنوير الصادق النيهوم - جدلية الواقع والفكرة» لأسامة آغي، و«في نقد الصادق النيهوم: تنويري أم محافظ؟» لضو الصغير، و«قضية المرأة... رجعية الصادق النيهوم وحداثة يوسف القويري» لأحمد البخاري.
وتضمن قسم «مقالات»: «ربع قرن على رحيل الصادق» لتركي الدخيل، و«تحية إلى الصادق النيهوم» للشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم. وتضمن قسم «وثائق» مقالات لرياض الريس بعنوان «قبل الرحيل، بعد الرحيل» و«أول مقابلة أجريت مع الصادق النيهوم»، حاوره خلالها إبراهيم الكوني، ومقال «الظاهرة النيهومية» لعلي فهمي خشيم، و«الصادق النيهوم رساماً» لفتحي العريبي، و«في الذكرى العشرين لرحيل الصادق النيهوم» لمحمد الأصفر، ثم «رسائل متبادلة» لصديق رشاد الهوني، فضلاً عن أول مقال كتبه النيهوم بعنوان «شعب يكتب تاريخه بالأغنية»، وآخر مقال بعنوان «الطفل المسحور».