ساركوزي أمام القضاء بتهمة الفساد

المحاكمة الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة

هناك دعوات لساركوزي للعودة إلى الميدان السياسي في المعركة الانتخابية التي ستحصل في 2022 (أ.ف.ب)
هناك دعوات لساركوزي للعودة إلى الميدان السياسي في المعركة الانتخابية التي ستحصل في 2022 (أ.ف.ب)
TT

ساركوزي أمام القضاء بتهمة الفساد

هناك دعوات لساركوزي للعودة إلى الميدان السياسي في المعركة الانتخابية التي ستحصل في 2022 (أ.ف.ب)
هناك دعوات لساركوزي للعودة إلى الميدان السياسي في المعركة الانتخابية التي ستحصل في 2022 (أ.ف.ب)

قبل ثماني سنوات، خرج نيكولا ساركوزي، رئيس الجمهورية الفرنسية اليميني ما بين عام 2007 وعام 2012 من قصر الإليزيه بعد أن خسر الانتخابات الرئاسية في وجه منافسه المرشح الاشتراكي فرنسوا أولاند. ومنذ ذلك التاريخ، تلاحق هذا السياسي المحنك، الذي يدين بصعوده السياسي للرئيس الأسبق جاك شيراك، سلسلة من فضائح الفساد قلما عرف مثلها أي مسؤول رفيع في الجمهورية الخامسة. وستذكر كتب التاريخ أن ساركوزي كان أول رئيس للجمهورية يمثل أمام قوس المحكمة للدفاع عن نفسه في قضية فساد هي واحدة من جملة قضايا ينتظر أن تنظر بها المحكمة حتى العاشر من الشهر المقبل. ومهما يكون الحكم الذي سيصدر بحقه وبحق المتهمين الآخرين في القضية نفسها، وهما صديقه ومحاميه تييري هرتزوغ، وأحد كبار القضاة واسمه جيلبير أزيبير، فإن محاكمة أخرى في قضية أخرى، تنتظر الرئيس الأسبق في شهر مارس (آذار) المقبل.
منذ أن خسر المنافسة الداخلية للترشح باسم حزب «الجمهوريون» الذي كان يترأسه للانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2017، تخلى ساركوزي عن أي عمل سياسي مباشر. غير أنه بقي «مرجعاً» لليمين الكلاسيكي الذي سارع قادته للتعبير عن دعمهم غير المحدود في هذا المخاض القانوني. وثمة أصوات تسمع من داخل الحزب، تدعو ساركوزي للعودة إلى الميدان السياسي في المعركة الانتخابية المقبلة التي ستحصل في ربيع عام 2022، التي من المؤكد أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون سيخوض غمارها. والمدهش أن الأخير يستشير الرئيس الأسبق في الملمات، وبين الرئيسين الحالي والسابق علاقات ود، وبين فترة وأخرى يدعو ماكرون وعقيلته بريجيت ساركوزي وزوجته إلى العشاء في قصر الإليزيه. لكن الثابت أن المخاض القضائي الحالي والاستحقاقات المقبلة ستكون هي الفيصل بالنسبة لمستقبل ساركوزي السياسي، إذ في حال إدانته بالقضية الراهنة، أو بأي قضية لاحقة، سيعني انتهاء طموحاته السياسية.
ما كادت محاكمة ساركوزي والمتهمين الآخرين هيرتزوغ وأزيبير تبدأ أمس في باريس حتى تم تأجيلها ليوم الخميس المقبل، ذلك أن الأخير لم يحضر بسبب إفادة مرضية لمعاناته من مشكلات قلبية، والتخوف من إصابته بوباء «كوفيد - 19». وستكلف هيئة المحكمة هيئة طبية لزيارته في مدينة بوردو، حيث يسكن، للتحقق من الموانع الصحية التي يتذرع بها.
بيد أن هذا الأمر لم يخفف من الإثارة التي تحيط بالمحاكمة، حيث كرست الوسائل الإعلامية الفرنسية المرئية والمسموعة والمكتوبة مساحات واسعة لتغطية الحدث. ولعل أبرز دليل على ذلك غابة كاميرات التلفزة والتصوير التي كانت بانتظار وصوله قبيل بعد ظهر أمس إلى موقع المحكمة من أجل «تخليد» هذه اللحظة التي لم تعرفها الجمهورية الخامسة أبداً. صحيح أن الرئيس الأسبق جاك شيراك وجهت له تهمة الفساد وجرت محاكمته في عام 2011. إلا أنه لم يحضر شخصياً فصولها ومثله فيها محاموه، التي انتهت بصدور حكم بسجنه لعامين مع وقف التنفيذ، وبتغريمه دفع مبلغ مالي كبير تكفل به حزب «الجمهوريون». لكن ساركوزي الذي يعتبر أن قضيته «مسيسة»، وأنها «فضيحة ستسجل في التاريخ» مشدداً على براءتها التامة، أصر على حضور الجلسات لـ«الدفاع عن شرفه»، ولـ«دحض المزاعم والاتهامات التي تساق بحقه»، فيما محاميه يعتبر أن ملفه «فارغ» والاتهامات «باطلة». يواجه ساركوزي، في حال إدانته، احتمال السجن لعشر سنوات وغرامة بقيمة مليون يورو بتهم الفساد واستغلال النفوذ. ويحاكم أيضاً، كما هيرتزوغ وإيزيبير، بتهمة انتهاك السرية المهنية.
في هذه القضية التي تعود جذورها للعامين 2013 - 2014، يواجه ساركوزي تهمة الفساد واستغلال النفوذ. وتعرف هذه القضية باسم «التنصت»، لأن جلاءها حصل بمحض الصدفة. ذلك أن قاضي التحقيق، في الفترة تلك، كان منكباً على جلاء قضية أخرى تتعلق بحصول المرشح ساركوزي على هبات مالية من عائلة «بتنكور» الضالعة في صناعة مستحضرات التجميل والعناية بالصحة. ولهذا الغرض، أمر المحقق بالتنصت القضائي على هاتف ساركوزي الجوال وهاتف محاميه آنذاك تييري هرتزوغ. وأفضت العملية إلى وجود شكوك لدى المحقق بوجود أرقام هواتف أخرى يتواصل عبرها الرجلان إلى أن اكتشف أن الرجلين حقيقة يستخدمان هواتف أخرى، وأن لساركوزي اسماً مستعاراً هو بول بيسموث وهو رفيق مدرسة لهيرتزوغ ويعيش في إسرائيل. والأهم أن التنصت كشف أن الثلاثة «مع جيلبير إيزيبير» بصدد التآمر لمساعدة الرئيس الأسبق للحصول على معلومات سرية بشأن التحقيق القائم ضده في ملف «بتنكور»، وهو لذلك يعول على القاضي إيزيبير بفضل موقعه المهني. وحسب النيابة العامة، فإن بعض محادثاتهما كشفت وجود مساع للاتفاق على القيام بعمليات فساد، إذ وعد ساركوزي، عبر محاميه، بدعم أزيبير لتعيينه في منصب مهم في إمارة موناكو «لم ينله في نهاية المطاف» مقابل توفير المعلومات السرية التي يحتاجها الرئيس الأسبق. وبالفعل، فإن إيزيبير قدم الكثير من هذه المعلومات السرية التي لا يجيز القانون الكشف عنها، لأنها تتعلق بتحقيق قضائي، كما أنه سعى مراراً للتأثير على نظرائه من القضاة المولجين النظر في دعوى لساركوزي أمام محكمة التمييز على هامش ملف «بتنكور».
وبينت التسجيلات الهاتفية أن ساركوزي تعهد بالتدخل لصالح القاضي، مؤكداً أنه سيدعمه لدى أمير موناكو. إلا أنه لاحقاً قال إنه سيحجم عن التدخل. ويفسر المحققون التبدل بأن ساركوزي ومحاميه اكتشفا أن هاتفيهما السريين قد اكتشف أمرهما. وفي مرافعات شديدة اللهجة في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، شبهت النيابة العامة المالية أساليب ساركوزي بأساليب «مجرم محنك». وبالمقابل، فإن الثلاثة ينفون قطعياً هذه التهم، وسعى ساكروزي بدعاوى متلاحقة إلى قطع الطريق على التحقيق. إلا أن محاولاته باءت بالفشل. والحجة الرئيسية التي سيلجأ إليها أن إيزيبير لم يحصل على الوظيفة التي كان يسعى إليها في موناكو، وأن المعلومات التي حصل عليها منه لم تفده بتاتاً. ما يحصل للرئيس الأسبق حالياً ليس سوى غيض من فيض. وحنفية القضاء ستفتح ولن تقفل قبل سنوات إذ هناك ملف التمويل الليبي لحملته الانتخابية في عام 2007، وهناك قضية «بيغماليون» الخاصة بمخالفات في تمويل حملته الانتخابية للعام 2012. يضاف إلى ذلك أن اسم ساركوزي وارد في ملفات إضافية منها التعويض المالي الضخم الذي حصل عليه رجل الأعمال برنار تابي من الدولة عندما كان ساركوزي في قصر الإليزيه، وقضية العمولات المرتبطة بصفقة بيع غواصات لباكستان. والحبل على الجرار.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟