الإعلام الأميركي يمنح بايدن الفوز... و{أسوشييتد برس» المرجع منذ 1848

من المفارقات التي شهدتها الانتخابات الأميركية عام 2020 أن كبريات الصحف الأميركية ومحطات التلفزيون، منحت تأييدها للرئيس المنتخب جو بايدن، ثم اعتبرته فائزا قبل أن تعلن الهيئات الرسمية النتيجة النهائية. هذا كان الوضع العام باستثناء صحيفة «نيويورك بوست» اليمينية الشعبية، التي منحت تأييدها للرئيس دونالد ترمب. وكانت الصحيفة نفسها قد تعرضت قبل أسبوع واحد من الانتخابات لإزالة تحقيق نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي يتعلق بمزاعم عن فساد هانتر بايدن، ابن المرشح الديمقراطي.
بمقاييس عادية وطبيعية، يمكن القول إن «الحرب الشعواء» التي خاضها ترمب ضد ما يصفه بـ«الإعلام المزيف» على مدى 4 سنوات من حكمه، انتهت بخسارته للمعركة مع اصطفاف غير مسبوق لهذا الإعلام ضده.
حتى قناة «فوكس نيوز» اليمينية المحافظة، تمسكت ولا تزال بنتيجة عد الأصوات التي منحت بايدن الفوز، وهذا رغم الهجمات والانتقادات التي تعرّضت لها، سواء من ترمب - الذي هدّد بتأسيس محطة منافسة لها - أو من أنصاره الذين هتفوا ضدها في مظاهرة أمام مركز لإحصاء الأصوات في ولاية أريزونا.
في إحصاء أجرته مؤسسة «برس غازيت» حصل بايدن على تأييد 16 من كبريات الصحف الأميركية، بما فيها «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«شيكاغو تريبيون» و«لوس أنجليس تايمز»، وكذلك صحيفة «يو إس توداي» المعروفة برصانتها وتحفظها عن التأييد الفوري لمخرجات التصويت.
لم يكن هذا التأييد فريدا، إذ سبق أن حصلت عليه هيلاري كلينتون عام 2016، ورغم ذلك خسرت الانتخابات أمام ترمب. إلا أنه يؤكد أن ميول الإعلام الأميركي أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالمتغيّرات التي طرأت على تصنيف الولايات بين جمهورية «حمراء» وديمقراطية «زرقاء»، في ظل تصاعد الحديث عن ضرورة تغيير النظام الانتخابي لمصلحة التصويت الشعبي... متوازيا مع التغير السكاني الذي تشهده الولايات المتحدة وتأثيره على التأييد الشعبي الذي بات يمنح المرشح الديمقراطي تفوقا كبيرا على المرشح الجمهوري.
وهذا العام، حقق بايدن أيضا رقما تاريخيا بلغ نحو 76 مليون صوت، متفوقا على الرئيس الحالي ترمب بنحو 6 ملايين صوت، أي أكثر بنحو 3 ملايين صوت إضافي على الملايين الثلاثة التي نالتها كلينتون زيادة عن ترمب عام 2016، رغم خسارتها الانتخابات أمامه لتخلفها عنه بالأصوات الانتخابية.
رغم قلة وضوح «الانحياز» الحزبي، ومحاولة الإعلام الأميركي الظهور بمظهر المحايد، فإنه ما عاد ممكنا ملاحظة نفوره من ترمب، الذي تسبب أسلوبه الشخصي وهجماته التي تستهدف الكتاب والمحرّرين والمراسلين ومحطات التلفزيون والصحف على حد سواء، في تعميق حالة العداء معه. بل حتى وكالات الأنباء المرموقة، التي لا تزال مصدرا أساسيا للأخبار مثل وكالتي «رويترز» و«أسوشييتد برس»، أشارت إلى تأثير هذا المناخ على عمل مراسليها. وقال رئيس تحرير «رويترز» إن مراسلي الوكالة باتوا يضطرون لارتداء سترات واقية وخوذات وأقنعة واقية من الغاز، في كل مرة يغطون فيها الاحتجاجات التي تندلع في المدن الأميركية، بسبب الخوف على سلامتهم.
في المقابل، ومع أن الدستور الأميركي منح الحماية لحرية الصحافة والتعبير باعتبارها حجر زاوية الديمقراطية الأميركية، فقد دأب الرئيس ترمب على اتهام الأعلام بأنه «يمارس الكثير من السلطة على العملية السياسية في أميركا». كذلك زعم أن معاداة الإعلام له «نابعة من سيطرة الطبقة السياسية على هذا الإعلام ورفضها له، وهو الآتي من خارجها». وحقا، منذ ترشح ترمب للمرة الأولى، عام 2015، بنى رجل الأعمال الثري سيرته السياسية بأنه آتٍ لمواجهة «الفساد المستوطن» في واشنطن.
صحيح أن وسائل الإعلام لعبت دورا مهما في السياسة، ويحتاجها الناخبون لتحديد خيارات واضحة، لكن هل تستطيع هذه الوسائل، فعليا، أن تغيّر نتائج الانتخابات؟
يتفق معظم المحللين والخبراء في كل التجارب الانتخابية الأميركية على أن تزوير أصوات الناخبين بشكل واسع النطاق أمر مستحيل الحدوث. ولكن، في المقابل، يصرّ الرئيس ترمب على الزعم بأن الانتخابات قد زُوّرت، من خلال التغطية الإعلامية المنحازة ضده. ولكن لا شك في أن صدقية الإعلام تعرّضت للاهتزاز جرّاء التوقّعات الخاطئة التي نُشرت عن اتجاهات التصويت، سواء عام 2016، أو اليوم - ولو بشكل نسبي وأقل -، مع فشل التوقع بحصول «موجة زرقاء» تعطي الديمقراطيين الغالبية من الرئاسة إلى مجلسي الشيوخ والنواب. ورغم نمو الاشتراكات الإلكترونية مقابل تراجع توزيع الاشتراكات الورقية بنحو 30 في المائة منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، يسود إجماع على أن تأثير الصحف بات أقل أهمية في صناديق الاقتراع.
وفي تقرير لجامعة أوريغون (في غرب الولايات المتحدة) يقترح 3 من أساتذة كلية الصحافة والاتصالات 6 عناصر لمعرفة دور الإعلام الحديث وتأثيره على الانتخابات، هي:
أولا، اختيار الصحافيين للمرشحين الذين يقرّرون تغطية أخبارهم ومقدار هذه التغطية، التي يمكن أن تؤدي إلى تأثير كبير على تصورات الناخبين.
ثانيا، النصوص وعناصر الاستقطاب، بعدما تبين أن غالبية المؤسسات الإعلامية اختارت جذب شريحة «حزبية» معينة، في ظل معرفتها بأن الناخب بات بإمكانه الوصول إلى معلومته عبر الإنترنت. وهو ما فرض تحول نشرات الأخبار المباشرة إلى برامج تحليل وإقناع.
ثالثا، تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أظهرت دراسة لمركز «بيو» للأبحاث أن 62 في المائة من الأميركيين يحصلون على أخبارهم من منصات التواصل الاجتماعي، علما بأنهم لا يدركون أن تلك المعلومات تُصفّى وتُبوّب بآلية تخفض مستوى الاستماع إلى وجهات النظر، لمصلحة أخبار منتقاة.
رابعا، تأثير الصورة، حيث تبين الأبحاث أن العناصر المرئية تتمتع بتأثير أقوى من الكلمات المنشورة، وخصوصا صور المرشحين التي تنقل مشاعرهم وأفعالهم بصورة تنطبع في ذهن الجمهور.
خامسا، بيانات الاستطلاعات التي أصبحت جزءا أساسيا من عمل مؤسسات الإعلام، مع أن الدراسات أظهرت أن طرح الأسئلة على المستطلعين لا يغيّر في قناعاتهم.
سادسا، مراقبة وسائل الإعلام للعملية الديمقراطية. ومع أن النتائج الرسمية للانتخابات ودور الإعلام فيها لم تظهر بعد، إلّا أن مراقبة الصحافة لعمليات التصويت بات شديد الأهمية في ظل الاتهامات التي تطلق عن التزوير.
لهذا، ورغم أن النتائج الموثوقة هي تلك التي تصدر عن الهيئات الرسمية، فإن الناخبين يفضلون معرفة النتائج خلال وقت قصير وليس بعد شهر. لذلك، مثلا، لا تزال وكالة أسوشييتد برس هي المرجع الرئيسي الموثوق في إعلان النتائج، وهو دور لا تزال تقوم به منذ عام 1848، ومن ثم تحولت الوكالة الوقورة إلى مقياس أساسي ومرجع يعتمد عليه، من خلال اعتمادها شبكة ضخمة ومترامية من المراسلين، واستخدامها برامج رياضيات وتحليلات وأدوات وآليات منهجية صارمة في عملية رصد النتائج. ويقول مسؤول كبير في الوكالة، التي منحت الفوز لبايدن هذا العام، إن تلك الأدوات والآليات منحتها القدرة على تحديد الفائز بمجرد إغلاق مركز الاقتراع. وتابع، أنها لم تخطئ في توقعاتها أبدا، من خلال تحليلها لاتجاهات التصويت المبكّر والاتجاهات السياسية طويلة الأمد في هذه الولاية أو تلك.
من جهة أخرى، حظي عدد من الصحافيين هذا العام باهتمام ومتابعة خاصة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من المشاهدين الذين تابعوا تحليل الانتخابات وسير إعلان النتائج. ولعل أبرز هؤلاء على الإطلاق الصحافي جون كينغ الذي لا يزال يدير «الجدار السحري» على محطة «سي إن إن». منذ سنوات. ولقد اكتسب كينغ أكثر من كل أقرانه، خبرة مذهلة في تصغير الشاشة وتكبيرها وإدارة البيانات على «شاشته السحرية»، وبات مرجعا تحليليا في قراءة الأرقام ومقارنتها، فأثار إعجاب المشاهدين من كل الانتماءات الذين باتوا يتابعونه على «تويتر» بشكل خاص.