«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

رئيس تحرير مجلة «شارلي إيبدو» وضع على قوائم الاغتيال لتنظيم القاعدة في عام 2013

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين
TT

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

تظهر العملية الإرهابية التي نفذها الأخوان شريف وسعيد كواشي، المشتبه بهما في الاعتداء الدامي على المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» (التي عُرفت بنقدها اللاذع للأديان الرئيسية في العالم والسياسيين والمشاهير) نوعا من التقارب بين جيل متطرف وآخر، وبين تأثيرات متشددة مختلفة.
يعبّر النائب في البرلمان الفرنسي ألان مارسو في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن ذهوله من العنف المستخدم لتنفيذ هذه الجريمة، وأيضا من الهدف المختار، قائلا: «لقد سبق لي أن نبهت في مجلس النواب إلى أننا سنكون عرضة لهجمات، نتيجة انخراطنا في أفريقيا (في محاربة مختلف المجموعات الإرهابية)، وأيضا انضمامنا إلى التحالف الدولي (في العراق). فحسب تقديرات وزارة الداخلية الفرنسية، يزيد عدد الفرنسيين المشاركين في القتال في العراق وسوريا عن ألف شخص، ولا نعرف الشيء الكثير عنهم. أضف إليهم مجموعة من المتعصبين المتطرفين الذين لديهم ماضٍ متطرف حافل، مما يزيد الأمور تعقيدا».

تم التعرف سريعا على الأخوين كواشي، مرتكبي مجزرة «شارلي إيبدو»، بعد العثور على بطاقة هوية أحدهما في مسرح الجريمة، وهما معروفان جيدا من أجهزة مكافحة الإرهاب في فرنسا. ففي عام 2008، حوكم شريف كواشي الذي كان ملقبا بـ«أبو حسن» في قضية «الخلية العراقية في الدائرة الـ19 من باريس»، وحُكم عليه في 14 مايو 2008 بالسجن لمدة 3 سنوات. واتهمت هذه الخلية حينها بتحريض مجموعة من الشباب الفرنسيين كلهم ما دون الـ25 عاما، والقاطنين بالدائرة الـ19 في باريس، للسفر للقتال في العراق بين عامي 2003 و2005.
من جهته، يعتبر الباحث كريم إميل بيطار بدوره، في مداخلته مع «الشرق الأوسط» أن نقطة التحول التي أدت إلى تطرف هؤلاء الشباب هي غزو العراق عام 2003: «فهم كانوا متطرفين قبل أن يجري نشر الرسوم الكاريكاتيرية (للنبي محمد)، وحرب العراق هي الدافع المحرك لتطرفهم. أما حادثة (شارلي إيبدو)، فتشير إلى بعدين متداخلين: البعد الأول جيوسياسي، والبعد الثاني له علاقة بحرب ثقافية وبحرية التعبير»، على حد تعبيره.
ضمت «الخلية العراقية في الدائرة 19» 7 متهمين، أبرزهم ثامر بوشناق وشريف كواشي ومحمد عيوني وبوبكر الحكيم، واتهموا حينها «بالتآمر من أجل التحضير لأعمال إرهابية».
وعلى غرار المتهمين الآخرين، تعرف شريف كواشي على «التطرف»، بعد أن راح يتردد في عام 2003 على مسجد «الدعوة» في منطقة ستالينغراد في باريس، حيث التقى الداعية فريد بن ييتو.

* من هو بن ييتو؟
* وُلد بن ييتو في باريس عام 1981. وعاش منذ سن الـ16 مع زوج أخته، يوسف زموري، وهو جزائري أصولي اتهمته الشرطة بانتمائه إلى الجماعة الجزائرية السلفية للدعوة والقتال (GSPC)، واعتُقل وسُجن مع 5 نشطاء آخرين في مايو (أيار) 1998 بعدما قاموا بالإعداد «لهجوم إرهابي» خلال مباريات كأس العالم، متأثرا بالداعية بن ييتو، بدأ المراهق كواشي أولى خطواته في درب التطرف من خلال مشاهدة أشرطة فيديو وتصفح مواقع إسلامية متطرفة. أغضبته صور التعذيب في سجن أبو غريب، كما التدخل الأميركي والبريطاني في مارس (آذار) 2003 في العراق، وفقا لصحيفة «لوموند» الفرنسية.
لم يتمكن ثامر بوشناق وشريف كواشي من تحقيق مخططهما المتطرف في ذلك الوقت، حيث قبضت الشرطة عليهما في باريس في يناير (كانون الثاني) من عام 2005، وهما في طريقهما ليستقلا طائرة إلى دمشق. في حين تمكن باقي أعضاء الخلية، مثل «عيوني» من الوصول إلى العراق، والالتحاق في منطقة الفلوجة الواقعة غرب بغداد بمجموعة «جيش محمد» التابعة لأبو مصعب الزرقاوي، زعيم القاعدة في العراق وقتها. أما بوبكر الحكيم، فقد تمكن من دخول العراق والمكوث فيه لفترات متلاحقة قبل أن يدان في قضية «خلية الدائرة 19» في 2008، وتنزل به العقوبات الأشد مقارنة بأعضاء الخلية الباقين.
وخلال السنة ونصف السنة التي قضاها كواشي في سجن فلوري - ميروجيس (إيسون) من يناير (كانون الثاني) 2005 إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2006، تعرف على جميل بيغال الذي بات مرشده الجديد. وكان بيغال الذي يطلق على نفسه اسم «أبو حمزة» يقضي عقوبة السجن لمدة 10 سنوات بتهمة تدبير هجوم إرهابي في عام 2001، على السفارة الأميركية في باريس. اعتقل بقال في يوليو (تموز) 2001 أثناء عودته إلى فرنسا من دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن قضى فترة طويلة في باكستان وأفغانستان، حيث توجد معسكرات تدريب تنظيم القاعدة.
عاود شريف كواشي نشاطه الإرهابي، بعد خروجه من السجن. إذ ورد اسمه مع أعضاء آخرين ضمن «خلية الدائرة الـ19»، أو خلية «بوت شومون»، حين حاول تهريب إسماعيل عيط علي بلقاسم من السجن، وهو أحد أبرز المخططين للاعتداء الذي نُفذ عام 1995على محطة ميترو في باريس (موزيه دورساي) وأسفر عن 30 جريحا.
وعليه، أدخل كواشي السجن مجددا في 25 مايو (أيار) 2010، غير أنه سرعان ما أُخلي سبيله في 11 أكتوبر، من العام نفسه، لعدم توافر الأدلة، وفي 26 يوليو (تموز) 2013 أصدرت النيابة العامة في باريس قرارا بحفظ الشكوى. كما استُجوب بيغال في هذا الإطار، فمن مكان إقامته الخاضع للرقابة في «كانتال»، كان جميل بيغال يشرف على التحضيرات لعملية هروب إسماعيل عيط علي بلقاسم من السجن، وفق ما حوت لائحة الاتهام النهائي التي أصدرتها النيابة العامة في 26 يوليو 2003، ونشرتها الصحيفة الفرنسية «لوموند». ورد في هذه القضية أيضا اسم الشقيق الأكبر سعيد كواشي، إنما لم تتم محاكمته لعدم توفر أدلة كافية.

* سليم بن غالم.. جلاد «داعش»
* والمثير للاهتمام في هذه القضية هو تورط شخصية أخرى سليم بن غالم؛ رجل كان قد قضى عقوبة السجن في فرنسا «لمحاولة القتل». «وبن غالم» مصنف اليوم من قبل الولايات المتحدة كأحد أبرز «الجلادين» في تنظيم «داعش» في سوريا، وتم إدراج اسمه في أواخر سبتمبر (أيلول) 2014 على القائمة السوداء لوزارة الخارجية الأميركية مع 9 إرهابيين آخرين اعتُبروا شديدي الخطورة.
تردد اسم شخص ثالث، حمدي كوليبالي، في الحوادث التي وقعت الأسبوع الماضي في فرنسا، وأعلنت الشرطة الفرنسية أن كوليبالي هو المسؤول عن إطلاق النار في منطقة «مونت روج» يوم الخميس 8 يناير (كانون الثاني)، وقتل شرطية، ومن ثم اختطاف رهائن في متجر في «بورت فينسن». وعلى غرار الأخوين كواشي، ارتبط اسم كوليبالي بمحاولة تهريب إسماعيل عيط علي بلقاسم، وبجميل بيغال.
من ناحية ثانية، أوردت محطة CNN الأميركية هذا الأسبوع، نقلا عن مصدر مسؤول أميركي، أن سعيد كواشي كان قد تدرب مع تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في عام 2011 لعدة أشهر. غير أن وزارة الداخلية الفرنسية وفي اتصال مع صحيفة «إكسبرس» الفرنسية لم تؤكد حتى الآن هذه المعلومات، واكتفت بالتأكيد أن سعيد كواشي سبق له أن زار عُمان (البلد المتاخم لليمن).
إلى ذلك، يعتبر الخبير فابريس بالانش، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «الأجيال من المتطرفين تتداخل فيما بينها، وأن علاقة وثيقة تربطها، فمتطرفو أفغانستان القدامى دربوا المتطرفين في البوسنة والجزائر في التسعينات، ومن ثم قام المقاتلون الذين شاركوا في حرب العراق عامي 2003 و2004 بتدريب جماعات العنف المسلح الدينية الموجودين اليوم في سوريا. وليس ما هو مفاجئ في هذه الظاهرة، إذ من الواضح أن المتطرفين القدامى يتمكنون بكل سهولة من العودة إلى فرنسا، من دون أن يقلقوا من الأجهزة الأمنية، بما أن سر انخراطهم في هذه النشاطات هو في مأمن، وبما أنهم يستفيدون من دعم لوجيستي في فرنسا عبر جماعات متطرفة تغذيهم وتحميهم»، على حد قوله.

* الخلايا الإرهابية المتقاطعة
* عاد الحديث عن «الخلية العراقية في الدائرة 19»، مجددا عام 2013 حين اشتُبه بأنها استأنفت نشاطها الإرهابي في تونس، إثر اغتيال اثنين من المعارضين السياسيين؛ شكري بلعيد والنائب محمد براهمي في 6 فبراير (شباط) و25 يوليو من العام نفسه. وقد تبنى هذه الجرائم أعضاء «أنصار الشريعة» وهي جماعة سلفية راديكالية تم إنشاؤها في مايو 2011 أقسمت الولاء لـ«داعش»، وشارك معهم العضو الرابع في «خلية الدائرة الـ19» الفرنسي التونسي بوبكر الحكيم المعروف أيضا باسم «أبو مقاتل»، والمقرب من شريف كواشي.
ووفقا لوزارة الداخلية التونسية، فإن «أبو مقاتل هو عنصر إرهابي من بين الأكثر خطورة، وهو ملاحق دوليا» لمشاركته بتهريب الأسلحة في تونس، بحسب صحيفة «لوموند».
من ناحية ثانية، وبالنسبة إلى الجريمة الدامية التي هزت العاصمة الفرنسية، لا يمكن إبعاد أصابع الاتهام عن «تنظيم القاعدة في اليمن»، أولا بسبب الإشاعات حول خضوع سعيد كواشي لتدريبات في اليمن، وأيضا نتيجة تهديدات «القاعدة» لأعضاء فريق تحرير «شارلي إيبدو». ففي شهر مايو من عام 2013، أدرج اسم رئيس تحرير المجلة الساخرة الفرنسية على قائمة الشخصيات المستهدفة من «القاعدة». وفي العدد السادس من المجلة الفصلية الصادرة باللغة الإنجليزية «إنسباير» (Inspire) والمخصصة للمتطرفين، برز اسم ستيفان شاربونيه من بين 10 شخصيات أخرى تحت عنوان «مطلوب حيا أو ميتا لارتكابه جرائم ضد الإسلام».
وقد أهدر دمه إلى جانب الرسام الكاريكاتيري الدنماركي كورت ويستيرغارد، الذي رسم كاريكاتيريا للنبي محمد عام 2005، والمفكر البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي.
وبعد أسبوع من الهجوم المروع الذي نفذه الأخوان كواشي على مكاتب «شارلي إيبدو»، من الحري أن نتساءل عن الصلات التي قد تكون قائمة بين جميع المستفيدين من هذه العملية، بما في ذلك الأخوان كواشي في فرنسا، وبن غالم في سوريا، والحكيم في تونس، وأيضا ما مدى تأثير «داعش» في العراق وسوريا، أو «أنصار الشريعة» في تونس، أو تنظيم القاعدة في اليمن، على المجزرة التي وقعت في مكاتب «شارلي إيبدو».
وفي هذا السياق، يشير بيطار إلى أن «هذه الحادثة سلطت الضوء على شكل جديد من التطرف، فهؤلاء الأشخاص يستلهمون تطرفهم من أسباب مختلفة، ويقيمون علاقات مع جماعات متنوعة، كما أن انتماءاتهم باتت متعددة، بحيث نرى بعضا من المتطرفين ينتقلون من النصرة إلى (داعش). ولا بد أيضا من التأكد ما إذا كان للجماعات التونسية أو اليمنية دور في هذه الحادثة». وذلك رغم التبني لهجوم «شارلي إيبدو» المزدوج لـ«القاعدة في اليمن» على لسان المسؤول الشرعي في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب حارث النظاري، الذي هدد فرنسا بهجمات جديدة.
أما بالانش، فيرى أن العلاقات التي لا شك كانت قائمة بين المشتبه بهما مع شبكات في العراق وسوريا، هي «علاقات غير رسمية تربط جماعات مستقلة تتشارك فيما بينها آيديولوجيا التطرف فحسب، من دون أن تتمتع بتنظيم ممنهج على غرار الأحزاب البلشيفية، مما يزيد من صعوبة القضاء عليها. فأفعالها ليست منسقة أو مخططة بعناية، بل هي فوضوية وعشوائية، إنما فعالة بما أن هدفها الأول والأخير هو الإرهاب».
منذ بداية الأزمة السورية، عبرت أجهزة الاستخبارات عن خشيتها من أن ينفِّذ الإرهابيون الشباب الذين تدربوا على الأراضي السورية هجمات إرهابية في فرنسا. غير أن الهجوم المروع لم يأتِ هذه المرة من الجيل الشاب، إنما من الجيل الأقدم، الذي تركت حرب العراق وتنامي التطرف في الشرق الأوسط بعد «الربيع العربي»، تأثيرا كبيرا عليه.

* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.