«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

رئيس تحرير مجلة «شارلي إيبدو» وضع على قوائم الاغتيال لتنظيم القاعدة في عام 2013

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين
TT

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

«11 سبتمبر» الصحافة.. تداخل أجيال المتطرفين

تظهر العملية الإرهابية التي نفذها الأخوان شريف وسعيد كواشي، المشتبه بهما في الاعتداء الدامي على المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» (التي عُرفت بنقدها اللاذع للأديان الرئيسية في العالم والسياسيين والمشاهير) نوعا من التقارب بين جيل متطرف وآخر، وبين تأثيرات متشددة مختلفة.
يعبّر النائب في البرلمان الفرنسي ألان مارسو في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن ذهوله من العنف المستخدم لتنفيذ هذه الجريمة، وأيضا من الهدف المختار، قائلا: «لقد سبق لي أن نبهت في مجلس النواب إلى أننا سنكون عرضة لهجمات، نتيجة انخراطنا في أفريقيا (في محاربة مختلف المجموعات الإرهابية)، وأيضا انضمامنا إلى التحالف الدولي (في العراق). فحسب تقديرات وزارة الداخلية الفرنسية، يزيد عدد الفرنسيين المشاركين في القتال في العراق وسوريا عن ألف شخص، ولا نعرف الشيء الكثير عنهم. أضف إليهم مجموعة من المتعصبين المتطرفين الذين لديهم ماضٍ متطرف حافل، مما يزيد الأمور تعقيدا».

تم التعرف سريعا على الأخوين كواشي، مرتكبي مجزرة «شارلي إيبدو»، بعد العثور على بطاقة هوية أحدهما في مسرح الجريمة، وهما معروفان جيدا من أجهزة مكافحة الإرهاب في فرنسا. ففي عام 2008، حوكم شريف كواشي الذي كان ملقبا بـ«أبو حسن» في قضية «الخلية العراقية في الدائرة الـ19 من باريس»، وحُكم عليه في 14 مايو 2008 بالسجن لمدة 3 سنوات. واتهمت هذه الخلية حينها بتحريض مجموعة من الشباب الفرنسيين كلهم ما دون الـ25 عاما، والقاطنين بالدائرة الـ19 في باريس، للسفر للقتال في العراق بين عامي 2003 و2005.
من جهته، يعتبر الباحث كريم إميل بيطار بدوره، في مداخلته مع «الشرق الأوسط» أن نقطة التحول التي أدت إلى تطرف هؤلاء الشباب هي غزو العراق عام 2003: «فهم كانوا متطرفين قبل أن يجري نشر الرسوم الكاريكاتيرية (للنبي محمد)، وحرب العراق هي الدافع المحرك لتطرفهم. أما حادثة (شارلي إيبدو)، فتشير إلى بعدين متداخلين: البعد الأول جيوسياسي، والبعد الثاني له علاقة بحرب ثقافية وبحرية التعبير»، على حد تعبيره.
ضمت «الخلية العراقية في الدائرة 19» 7 متهمين، أبرزهم ثامر بوشناق وشريف كواشي ومحمد عيوني وبوبكر الحكيم، واتهموا حينها «بالتآمر من أجل التحضير لأعمال إرهابية».
وعلى غرار المتهمين الآخرين، تعرف شريف كواشي على «التطرف»، بعد أن راح يتردد في عام 2003 على مسجد «الدعوة» في منطقة ستالينغراد في باريس، حيث التقى الداعية فريد بن ييتو.

* من هو بن ييتو؟
* وُلد بن ييتو في باريس عام 1981. وعاش منذ سن الـ16 مع زوج أخته، يوسف زموري، وهو جزائري أصولي اتهمته الشرطة بانتمائه إلى الجماعة الجزائرية السلفية للدعوة والقتال (GSPC)، واعتُقل وسُجن مع 5 نشطاء آخرين في مايو (أيار) 1998 بعدما قاموا بالإعداد «لهجوم إرهابي» خلال مباريات كأس العالم، متأثرا بالداعية بن ييتو، بدأ المراهق كواشي أولى خطواته في درب التطرف من خلال مشاهدة أشرطة فيديو وتصفح مواقع إسلامية متطرفة. أغضبته صور التعذيب في سجن أبو غريب، كما التدخل الأميركي والبريطاني في مارس (آذار) 2003 في العراق، وفقا لصحيفة «لوموند» الفرنسية.
لم يتمكن ثامر بوشناق وشريف كواشي من تحقيق مخططهما المتطرف في ذلك الوقت، حيث قبضت الشرطة عليهما في باريس في يناير (كانون الثاني) من عام 2005، وهما في طريقهما ليستقلا طائرة إلى دمشق. في حين تمكن باقي أعضاء الخلية، مثل «عيوني» من الوصول إلى العراق، والالتحاق في منطقة الفلوجة الواقعة غرب بغداد بمجموعة «جيش محمد» التابعة لأبو مصعب الزرقاوي، زعيم القاعدة في العراق وقتها. أما بوبكر الحكيم، فقد تمكن من دخول العراق والمكوث فيه لفترات متلاحقة قبل أن يدان في قضية «خلية الدائرة 19» في 2008، وتنزل به العقوبات الأشد مقارنة بأعضاء الخلية الباقين.
وخلال السنة ونصف السنة التي قضاها كواشي في سجن فلوري - ميروجيس (إيسون) من يناير (كانون الثاني) 2005 إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2006، تعرف على جميل بيغال الذي بات مرشده الجديد. وكان بيغال الذي يطلق على نفسه اسم «أبو حمزة» يقضي عقوبة السجن لمدة 10 سنوات بتهمة تدبير هجوم إرهابي في عام 2001، على السفارة الأميركية في باريس. اعتقل بقال في يوليو (تموز) 2001 أثناء عودته إلى فرنسا من دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن قضى فترة طويلة في باكستان وأفغانستان، حيث توجد معسكرات تدريب تنظيم القاعدة.
عاود شريف كواشي نشاطه الإرهابي، بعد خروجه من السجن. إذ ورد اسمه مع أعضاء آخرين ضمن «خلية الدائرة الـ19»، أو خلية «بوت شومون»، حين حاول تهريب إسماعيل عيط علي بلقاسم من السجن، وهو أحد أبرز المخططين للاعتداء الذي نُفذ عام 1995على محطة ميترو في باريس (موزيه دورساي) وأسفر عن 30 جريحا.
وعليه، أدخل كواشي السجن مجددا في 25 مايو (أيار) 2010، غير أنه سرعان ما أُخلي سبيله في 11 أكتوبر، من العام نفسه، لعدم توافر الأدلة، وفي 26 يوليو (تموز) 2013 أصدرت النيابة العامة في باريس قرارا بحفظ الشكوى. كما استُجوب بيغال في هذا الإطار، فمن مكان إقامته الخاضع للرقابة في «كانتال»، كان جميل بيغال يشرف على التحضيرات لعملية هروب إسماعيل عيط علي بلقاسم من السجن، وفق ما حوت لائحة الاتهام النهائي التي أصدرتها النيابة العامة في 26 يوليو 2003، ونشرتها الصحيفة الفرنسية «لوموند». ورد في هذه القضية أيضا اسم الشقيق الأكبر سعيد كواشي، إنما لم تتم محاكمته لعدم توفر أدلة كافية.

* سليم بن غالم.. جلاد «داعش»
* والمثير للاهتمام في هذه القضية هو تورط شخصية أخرى سليم بن غالم؛ رجل كان قد قضى عقوبة السجن في فرنسا «لمحاولة القتل». «وبن غالم» مصنف اليوم من قبل الولايات المتحدة كأحد أبرز «الجلادين» في تنظيم «داعش» في سوريا، وتم إدراج اسمه في أواخر سبتمبر (أيلول) 2014 على القائمة السوداء لوزارة الخارجية الأميركية مع 9 إرهابيين آخرين اعتُبروا شديدي الخطورة.
تردد اسم شخص ثالث، حمدي كوليبالي، في الحوادث التي وقعت الأسبوع الماضي في فرنسا، وأعلنت الشرطة الفرنسية أن كوليبالي هو المسؤول عن إطلاق النار في منطقة «مونت روج» يوم الخميس 8 يناير (كانون الثاني)، وقتل شرطية، ومن ثم اختطاف رهائن في متجر في «بورت فينسن». وعلى غرار الأخوين كواشي، ارتبط اسم كوليبالي بمحاولة تهريب إسماعيل عيط علي بلقاسم، وبجميل بيغال.
من ناحية ثانية، أوردت محطة CNN الأميركية هذا الأسبوع، نقلا عن مصدر مسؤول أميركي، أن سعيد كواشي كان قد تدرب مع تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في عام 2011 لعدة أشهر. غير أن وزارة الداخلية الفرنسية وفي اتصال مع صحيفة «إكسبرس» الفرنسية لم تؤكد حتى الآن هذه المعلومات، واكتفت بالتأكيد أن سعيد كواشي سبق له أن زار عُمان (البلد المتاخم لليمن).
إلى ذلك، يعتبر الخبير فابريس بالانش، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «الأجيال من المتطرفين تتداخل فيما بينها، وأن علاقة وثيقة تربطها، فمتطرفو أفغانستان القدامى دربوا المتطرفين في البوسنة والجزائر في التسعينات، ومن ثم قام المقاتلون الذين شاركوا في حرب العراق عامي 2003 و2004 بتدريب جماعات العنف المسلح الدينية الموجودين اليوم في سوريا. وليس ما هو مفاجئ في هذه الظاهرة، إذ من الواضح أن المتطرفين القدامى يتمكنون بكل سهولة من العودة إلى فرنسا، من دون أن يقلقوا من الأجهزة الأمنية، بما أن سر انخراطهم في هذه النشاطات هو في مأمن، وبما أنهم يستفيدون من دعم لوجيستي في فرنسا عبر جماعات متطرفة تغذيهم وتحميهم»، على حد قوله.

* الخلايا الإرهابية المتقاطعة
* عاد الحديث عن «الخلية العراقية في الدائرة 19»، مجددا عام 2013 حين اشتُبه بأنها استأنفت نشاطها الإرهابي في تونس، إثر اغتيال اثنين من المعارضين السياسيين؛ شكري بلعيد والنائب محمد براهمي في 6 فبراير (شباط) و25 يوليو من العام نفسه. وقد تبنى هذه الجرائم أعضاء «أنصار الشريعة» وهي جماعة سلفية راديكالية تم إنشاؤها في مايو 2011 أقسمت الولاء لـ«داعش»، وشارك معهم العضو الرابع في «خلية الدائرة الـ19» الفرنسي التونسي بوبكر الحكيم المعروف أيضا باسم «أبو مقاتل»، والمقرب من شريف كواشي.
ووفقا لوزارة الداخلية التونسية، فإن «أبو مقاتل هو عنصر إرهابي من بين الأكثر خطورة، وهو ملاحق دوليا» لمشاركته بتهريب الأسلحة في تونس، بحسب صحيفة «لوموند».
من ناحية ثانية، وبالنسبة إلى الجريمة الدامية التي هزت العاصمة الفرنسية، لا يمكن إبعاد أصابع الاتهام عن «تنظيم القاعدة في اليمن»، أولا بسبب الإشاعات حول خضوع سعيد كواشي لتدريبات في اليمن، وأيضا نتيجة تهديدات «القاعدة» لأعضاء فريق تحرير «شارلي إيبدو». ففي شهر مايو من عام 2013، أدرج اسم رئيس تحرير المجلة الساخرة الفرنسية على قائمة الشخصيات المستهدفة من «القاعدة». وفي العدد السادس من المجلة الفصلية الصادرة باللغة الإنجليزية «إنسباير» (Inspire) والمخصصة للمتطرفين، برز اسم ستيفان شاربونيه من بين 10 شخصيات أخرى تحت عنوان «مطلوب حيا أو ميتا لارتكابه جرائم ضد الإسلام».
وقد أهدر دمه إلى جانب الرسام الكاريكاتيري الدنماركي كورت ويستيرغارد، الذي رسم كاريكاتيريا للنبي محمد عام 2005، والمفكر البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي.
وبعد أسبوع من الهجوم المروع الذي نفذه الأخوان كواشي على مكاتب «شارلي إيبدو»، من الحري أن نتساءل عن الصلات التي قد تكون قائمة بين جميع المستفيدين من هذه العملية، بما في ذلك الأخوان كواشي في فرنسا، وبن غالم في سوريا، والحكيم في تونس، وأيضا ما مدى تأثير «داعش» في العراق وسوريا، أو «أنصار الشريعة» في تونس، أو تنظيم القاعدة في اليمن، على المجزرة التي وقعت في مكاتب «شارلي إيبدو».
وفي هذا السياق، يشير بيطار إلى أن «هذه الحادثة سلطت الضوء على شكل جديد من التطرف، فهؤلاء الأشخاص يستلهمون تطرفهم من أسباب مختلفة، ويقيمون علاقات مع جماعات متنوعة، كما أن انتماءاتهم باتت متعددة، بحيث نرى بعضا من المتطرفين ينتقلون من النصرة إلى (داعش). ولا بد أيضا من التأكد ما إذا كان للجماعات التونسية أو اليمنية دور في هذه الحادثة». وذلك رغم التبني لهجوم «شارلي إيبدو» المزدوج لـ«القاعدة في اليمن» على لسان المسؤول الشرعي في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب حارث النظاري، الذي هدد فرنسا بهجمات جديدة.
أما بالانش، فيرى أن العلاقات التي لا شك كانت قائمة بين المشتبه بهما مع شبكات في العراق وسوريا، هي «علاقات غير رسمية تربط جماعات مستقلة تتشارك فيما بينها آيديولوجيا التطرف فحسب، من دون أن تتمتع بتنظيم ممنهج على غرار الأحزاب البلشيفية، مما يزيد من صعوبة القضاء عليها. فأفعالها ليست منسقة أو مخططة بعناية، بل هي فوضوية وعشوائية، إنما فعالة بما أن هدفها الأول والأخير هو الإرهاب».
منذ بداية الأزمة السورية، عبرت أجهزة الاستخبارات عن خشيتها من أن ينفِّذ الإرهابيون الشباب الذين تدربوا على الأراضي السورية هجمات إرهابية في فرنسا. غير أن الهجوم المروع لم يأتِ هذه المرة من الجيل الشاب، إنما من الجيل الأقدم، الذي تركت حرب العراق وتنامي التطرف في الشرق الأوسط بعد «الربيع العربي»، تأثيرا كبيرا عليه.

* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.