كثيرة الملفات الخلافية التي برزت في المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أول من أمس في باريس مع نظيره جان إيف لو دريان، وبعدها مع الرئيس إيمانويل ماكرون، ومنها ثلاثة رئيسية: الأول، يتناول انسحاب القوات الأميركية، قبل نهاية العام، من أفغانستان. وترى باريس في ذلك «هدية» تقدم لـ«طالبان» للهيمنة على البلاد وتحويل أفغانستان إلى بؤرة ناسفة للاستقرار. والثاني، الانسحاب من العراق. ووفق القراءة الفرنسية، فإن المستفيد الأول منه ستكون إيران التي ستتمكن عندها من فرض «هيمنتها» على هذا البلد الذي كرر قادتها تأكيداتهم أنهم يعملون على «طرد» أميركا منه. والثالث، عزم الإدارة الأميركية على تشديد سياسة «الضغوط القصوى» على طهران بفرض عقوبات إضافية، وربما القيام بعمليات سيبرانية هجومية لتعطيل برنامجها النووي وحتى مهاجمة بعض منشآته، وفق ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز». وأتيحت لباريس الفرصة للتعبير مباشرة لبومبيو عن «مخاوفها» مما ستقدم عليه إدارة الرئيس دونالد ترمب في الأيام المتبقية لها في البيت الأبيض (حتى 20 يناير/كانون الثاني).
بيد أنه في خضم المقاربات المتناقضة، ثمة ملف لا شك أنه أثلج صدر الجانب الفرنسي ويتناول الملف التركي وأداء أنقرة في سوريا والعراق وليبيا ومياه المتوسط الشرقي وداخل الحلف الأطلسي. ومنذ قمة الحلف في لندن أواخر العام الماضي، صوّب ماكرون سهامه ضد الرئيس رجب طيب إردوغان، معتبراً أن الحلف في حالة «موت سريري»، والدليل على ذلك أن تركيا تقوم بمبادرات «أحادية»، ومن غير تشاور مع أحد تُربك الحلف وتدخله في نزاعات هو في غنى عنها. وخلال الأشهر الـ11 المنقضية، تكثفت «مضبطة» الاتهامات الفرنسية المباشرة لأنقرة مقرونة بظنون فرنسية أن غياب ردة الفعل الأميركية تشجع إردوغان على الاستمرار في سياساته؛ لأنه «يستفيد من الفراغ الأميركي»؛ ولأن ترمب مرتبط بعلاقة «غامضة» مع إردوغان الذي يروج مثلاً لتدخله في ليبيا أو لما يقوم به في المتوسط على أنه «احتواء» للتغلغل الروسي. وباختصار، كان هناك نوع من العتب الفرنسي على واشنطن، وأبرز دلائله أن الجانب الأميركي لم يعر أي اهتمام للحادثة البحرية التي حصلت في 10 يونيو (حزيران) الماضي بين فرقاطة فرنسية كانت في مهمة أطلسية وبين قطع بحرية تركية سلطت عليها رادارات التصويب الناري بسبب سعيها لتفتيش سفينة مشبوهة تنقل أسلحة إلى ليبيا في مخالفة واضحة لقرارات مجلس الأمن. عقبها، وبعد تقرير «مائع» للحلف حول الحادثة كونه لم يحمّل أنقرة أي مسؤولية بشأن افتعال الحادثة التي كادت أن تفضي إلى اشتباك بحري بين عضوين في الحلف، قررت باريس «تجميد» أنشطتها.
كانت هذه الخلفية حاضرة في مناقشات الإليزيه الفرنسية - الأميركية. ويبدو أن بومبيو سعى إلى تبديد «التباعد» مع باريس؛ الأمر الذي انعكس في تصريحات لا سابق لها لجهة حدة الهجوم على أنقرة، وقد جاءت في إطار حديث أدلى به لصحيفة «لو فيغارو» ونشر في عددها ليوم أمس. ويبدو أن الوزير الأميركي الذي انطلق، بعد محادثاته في قصر الإليزيه، من باريس مباشرة إلى تركيا، أراد بشكل ما «تصفية حساب» مع تركيا. وقال بومبيو «لقد أمضينا أنا والرئيس ماكرون وقتاً طويلاً في مناقشة الإجراءات التركية الأخيرة، واتفقنا على أنها عدوانية للغاية، أكان ذلك الدعم الذي تقدمه إلى أذربيجان، وحقيقة أنها زرعت قوات سورية في المنطقة أيضاً». وأضاف «بحثنا أيضاً ما تقوم به تركيا في ليبيا، حيث أدخلت قوات من دول ثالثة»، في إشارة إلى مرتزقة سوريين من المعارضة التي تهيمن عليها أنقرة «وأفعالها في شرق البحر المتوسط، والقائمة تطول والموقف الأميركي هو أنّ تدويل هذه الصراعات مؤذٍ ويضرّ بكل الدول المعنية؛ لذلك طالبنا كلّ الدول بوقف تدخّلها في ليبيا، سواء أكانت روسيا أم تركيا أم سواهما، والشيء نفسه في أذربيجان».
يرى الوزير الأميركي، أن تسوية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا بشأن قره باغ كان يجب أن تتم في إطار ما يسمى «مجموعة مينسك»، التي تضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا. إلا أن هذه المجموعة أثبتت عجزها عن تحقيق أي إنجاز. وجلّ ما قامت به هو إصدار بيان جماعي من الدول الثلاث المعنية إضافة إلى بيانات «فردية». لكن الجهتين الفاعلتين كانتا، بلا شك، تركيا وروسيا. ذلك أن المحادثات بين الطرفين الأرميني والأذربيجاني التي أفضت إلى اتفاق لوضع حد للحرب في قره باغ حصلت برعاية روسية - تركية. وخلاصة بومبيو التي يمكن اعتبارها بمثابة «إنذار» لتركيا، أن «الاستخدام المتزايد للقدرات العسكرية التركية مصدر قلق لنا». لذا؛ فإنه اعتبر أنه «يتعين على أوروبا والولايات المتحدة العمل معاً من أجل إقناع إردوغان أن مثل هذه الأعمال لا تصب في مصلحة شعبه». ولا تبدو واشنطن مرتاحة لاتفاق وقف النار الأخير؛ إذ نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن مصدر أميركي مرافق لبومبيو قوله، إنه «لا تزال هناك أسئلة كثيرة تتطلّب توضيحاً من الروس فيما يتعلق بمعايير هذه المعاهدة، ولا سيّما بشأن الدور الممنوح للأتراك فيها».
السؤال المطروح الآن هو معرفة ما إذا كانت الإدارة الأميركية الحالية ستعمد حقيقة لـ«هز العصا» للطرف التركي في الوقت القصير المتبقي لها، علماً بأن الرئيس التركي لم يتردد يوماً في تحدي واشطن، أكان فيما خص إبرام صفقة الصواريخ أرض - جو من طراز «إس - 400» روسية الصنع، أو بشأن الملفات الخلافية الأخرى المشار إليها، أم أن بومبيو سيترك الأمور على حالها بانتظار مجيء إدارة ديمقراطية جديدة مع تسلم الرئيس المنتخب جو بايدن مسؤولياته الدستورية بحيث يتم رسم سياسة جديدة للتعاطي مع أنقرة ومع طموحات رئيسها ولجوئه المتكرر للقوة العسكرية وسيلةً لفرض أمر واقع جديد؟
توافق فرنسي ـ أميركي على التنديد بسياسة إردوغان
بومبيو: سياسة تركيا عدوانية للغاية ويتعين على الأوروبيين والأميركيين العمل على لجمها
توافق فرنسي ـ أميركي على التنديد بسياسة إردوغان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة