فيروس كورونا قد يكون خطيراً وقد يكون مميتاً في بعض الحالات، ولكن الأخطر اليوم هي الأمراض النفسية والعقلية الناتجة عن تداعيات هذه الجائحة.
بريطانيا تعيش اليوم الحجر المنزلي الثاني، وأثبت الإغلاق التام الذي بدأ في المرة الأولى في الثالث والعشرين من مارس (آذار) الماضي بأنه وضع ثقلاً غير معهود على الصحة العقلية للبريطانيين، لا سيما المسنين والذين يعيشون بمفردهم في المنازل والصغار في السن الذين ترسخت في أذهانهم صورة مرعبة للمرض.
أكثر ما نسمع عنه في بريطانيا اليوم، ونحن في انتظار اللقاح المخلص من هذا الوباء، هو زيادة المشاكل النفسية والتفكير في الانتحار الناتجة عن الوحدة والمشاكل المادية والعزلة وعن عدم الخروج من المنزل والمخالطة.
قامت جامعة «غلاسكو» دراسة على أكثر من 3 آلاف بريطاني وتبين بأن واحداً من بين كل عشرة أشخاص راودته فكرة الانتحار ما بين شهري مارس (آذار) ومايو (أيار) الماضي، وبحسب وحدة الإسعاف في لندن، تم استدعاء المسعفين أكثر من 800 ألف مرة لإسعاف أشخاص يعانون من مشاكل عقلية ونفسية في الفترة المرافقة لانتشار فيروس كورونا والإعلان عن الحالات المصابة به الآخذة في الارتفاع.
الأمراض النفسية والتفكير أو الإقدام على الانتحار لا يقتصر على شريحة أو جنس واحد من الناس أو سن محددة، وهذا ما جاء في البيان الذي أصدرته الجامعة المذكورة، فالرجال والنساء والأطفال يعانون من مشاكل نفسية قد تودي بهم لإنهاء حياتهم ولكن لأسباب مختلفة نتيجة الخوف من الفيروس والقلق الزائد والوحدة التي تؤدي إلى الكآبة وفي حال لم تعالج فتكون عواقبها وخيمة.
للاستطلاع عن الأمر والغوص في عالم علم النفس وتبعاته، قامت «الشرق الأوسط» بمقابلة الدكتورة اللبنانية ميراي نعمة الاختصاصية في علم النفس والتوحد والمقيمة في لندن، والسؤال الأول كان عن السبب الذي يجعل المرء يفكر في وضع حد لحياته، فأجابت د. نعمة بأن الانتحار يأتي بعد معاناة الشخص من مشاكل نفسية عميقة لا يجد لها حلاً. وفي الوضع الحالي والإقفال التام والحجر المنزلي زادت نسبة الكآبة والتعاسة والشعور بالوحدة، وأدى الخوف إلى تفاقم المشاكل النفسية ليس فقط بالنسبة للأشخاص الذين يعانون أصلاً من مشاكل نفسية، إنما بالنسبة لغالبية الناس الذين يعيشون في ظل ظروف معيشية صعبة لا تشبه حياتهم السابقة، إن كان من حيث العمل من المنزل، إلى حالة فقدان العمل، وحالة الوحدة وعدم السماح بالتفاعل ولقاء الأصدقاء. وتابعت د. نعمة بأن هناك إشارات يجب على الشخص التنبه إليها التي تنذر بمشكلة كبيرة قد تكون نهايتها صعبة جداً.
الاقتصاد يلعب دوراً مهماً في الصحة العقلية والتأثير عليها، ففي ظل المرحلة الراهنة يعاني كثيرون من مشاكل مادية، وهذا سبب كافٍ للشعور بالإحباط والكآبة، لا سيما لدى الرجل الذي يشعر بالمسؤولية تجاه عائلته وأطفاله، وبحسب د. نعمة يتم تسمية هؤلاء في علم النفس العيادي بالـtriggers وهذا يعني أن المشاكل النفسية تكون موجودة أصلاً، ولكن طارئاً يؤججها ويجعلها تتفاقم، وفي حال لم يلجأ الشخص لطبيب مختص فقد يصل الأمر لحد الانتحار، وهذا ما يحصل حالياً وما يراه الفريق الطبي المتخصص بالأمراض النفسية من حالات تجعل الطبيب مسؤولاً عن الوضع في حال التماس خطورة ما.
وشددت د. نعمة على أهمية التكلم والإفصاح عن خوالجنا وما يدور في أذهاننا، وقالت إن الانتحار حالة مأساوية تشبه الحلم يقدم عليه شخص وقع تحت واجس القلق الزائد والاكتئاب، ويكفي أن يغط في نوم عميق في ثوانٍ من ذلك الحلم لكي يأخذ حياته ويضع لها حداً برضاه.
ومن المهم أيضاً عدم تغليف المشاكل النفسية فتكون هناك لاحقاً مشاكل أفظع مثل الاعتماد على الكحول الذي قد يتحول إلى إدمان، وأهمية مقاومة الأفكار السلبية بممارسة نشاطات بدنية، كما يجب أن نكون واقعيين بالنسبة للوضع الاقتصادي، ففي بريطانيا على سبيل المثال من الممكن الحصول على مساعدات مالية من الحكومة أو طلب المعونة من الغير، ولا عيب في ذلك في ظل الظروف الراهنة.
وتقول د. نعمة بأن نسبة الذين يقبلون على الانتحار هم من الرجال، والسبب هو أن المرأة مبرمجة بطريقة مختلفة وتستطيع التنفيس والتكلم إلى شخص آخر، في حين يجد الرجل نفسه وحيداً وأسيراً في زنزانة أفكاره السوداوية، كما أن الأطباء معرضون أيضاً للانتحار خاصة أطباء علم النفس والجراحون.
في الماضي كان يخجل المرضى من التكلم في مشاكلهم الخاصة، ولكن في زمن «كورونا» انفتح الناس على التكلم ومشاركة الغير لأن الجائحة تطال الجميع، وعمل الاختصاصي النفسي صعب ولا يجوز التقليل منه، فمهمته تقييم حالة المريض والغوص في أفكاره التي لا يفهم إشاراتها إلا الاختصاصي، ومن بعدها يمكن تحويل المريض لطبيب آخر متخصص بحالته، فالعمل في طبق الصحة العقلية لا يعتمد على طبيب واحد إنما على فريق عمل كامل. وبحسب د. نعمة، نسبة الانتحار في بريطانيا زادت عن فترة ما قبل «كورونا»، والمشكلة هي أنه في ظل الأوضاع الراهنة هناك عدد كبير من مرضى السرطان لا يستطيعون إجراء علاجاتهم، بالإضافة إلى ارتفاع عدد الذين يكتشفون وجود السرطان في وقت متأخر بسبب «كورونا» وتعثر رؤية الأطباء وإجراء التشخيصات اللازمة في المستشفيات.
في البلدان العربية توجد نسبة انتحار عالية، ولكن الوضع يختلف لأن وسائل الإعلام لا تتكلم كثيراً في الموضوع ولا توجد شفافية في نشر الأرقام الحقيقية، ولو أن نسب الانتحار أقل بالمقارنة مع تلك التي نجدها في الغرب والسبب هو الروادع الاجتماعية والدينية في البلدان العربية التي تحول دون الإقبال على الانتحار.
وبرأي د. نعمة، المشاكل النفسية تبدأ من سن مبكرة من 8 سنوات إلى 14 عاماً، علاقة الطفل مع أهله تتأثر علاقة الطفل مع المعلمين تتأثر وتبدو المشكلة في عمر متأخرة في بعض الأحيان في سن السابعة والعشرين، وهذا ما يجب التنبه إليه، وأضافت: «حتى الطلاق فقد يكون أسهل وأقل وقعاً على الأطفال عندما يكونون في سن صغيرة على عكس ما يظنه البعض».
وختمت حديثها بالقول: «من المهم جداً أن يقوم الطبيب المعالج بإجراء تحاليل تبين سبب المشاكل التي تلعب الهرمونات المختلة مشكلة كبيرة فيها».
كما يجب التمييز ما بين LIFE COACHES والطبيب النفسي، وقالت: «لا أقلل من شأن وأهمية عملهم، ولكن المقارنة تكون أشبه بطبيب التجميل الذي يحقن الوجه بمواد خطرة مع اختصاصية تجميل تقوم بنفس العمل ولكن بمهارات أقل».
«زمن كورونا»... مشكلات بالجملة والفيروس واحد
«زمن كورونا»... مشكلات بالجملة والفيروس واحد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة