كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

«القارئ الأخير» لريكاردو بيجيليا

دوستويفسكي
دوستويفسكي
TT

كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

دوستويفسكي
دوستويفسكي

من عنوانه يبدو كتاب الأرجنتيني ريكاردو بيجيليا «القارئ الأخير» نصاً آخر حول القراءة التي باتت باباً جذاباً من التأليف، لكنه أوسع من ذلك. هو في الحقيقة عن الكتابة، عن ماهية الأدب، يتوقف فيه مطولاً أمام نصوص تولستوي، وجيمس جويس، وكافكا، وإدغار آلان بو، وسرفانتيس بالطبع. وضمن هذه الوقفات المطولة، يستشهد بكثير من النصوص الأخرى. وهو بالقدر نفسه كتاب عن قارئ الأدب في ظروفه المختلفة، وعن القارئ داخل الرواية.
صدر الكتاب هذا الشهر عن منشورات المتوسط، في ترجمة عن الإسبانية أنجزها الروائي المصري أحمد عبد اللطيف.
وفي واحدة من أعلى مطالع الكتب، يبدأ بيجيليا بحكاية عن مصور فوتوغرافي يحتفظ بنموذج مصغر لمدينة شيده بطريقته الخاصة لكي تبدو مدينته قريبة متعددة، بعيدة هائمة، تبدو فيها الميادين والشوارع والضاحية التي تتلاشى وتضيع في الحقول؛ المدينة الصغيرة هي بوينس آيرس معدلة ومصابة بالجنون، وخاضعة لرؤية بانيها.
يعيش الرجل من التصوير، أي من مهنة تمثيل واختزال للواقع، ويخرج من بيته نادراً، ويعمل دورياً على إعادة تشييد الجهة الجنوبية من مدينته بعد أن يطمسها الفيضان في كل خريف، وبهذا يتجاوز نموذجه علاقات «التمثيل» بين بوينس آيرس الواقعية ونموذجها المصغر، لتبدو المدينة الحقيقية هي المختبئة في بيته، وتبدو الأخرى مجرد سراب أو ذكرى!
يسمح المصور للراغبين برؤية مدينته الصغيرة، لكنه لا يسمح إلا بزائر وحيد في كل مرة، وهكذا خلق الرجل عالماً موازياً يتطابق مع مفهوم عزرا باوند عن الكتابة، ومفهوم كلود ليفي شتراوس عن الفن بصفته نموذجاً معقداً عن الواقع، يختلف عنه بأنه يعمل على نطاق صغير.
وبعد أن يضعنا بيجيليا أمام شرط العزلة الضروري لدخول نطاق القراءة الصغير، يسأل: ما القارئ؟ في صورة فوتوغرافية يجلس بورخيس مقرفصاً في دهليز، وفوق عينيه كتاب يحاول فك رموز حروفه. هو القارئ الأخير الذي واصل القراءة حتى فقد نور عينيه.
مدمن القراءة والقارئ المتيقظ دائماً يعدهما الكاتب تمثيلين متطرفين لما تعنيه قراءة نص، ويمثلان تجسيدات سردية لحضور القارئ المعقد في الأدب. هذا النوع يستحق أن نسميهم القراء الأنقياء، حيث لا تكون القراءة مجرد ممارسة لنشاط، بل أسلوب حياة. وبالتركيز على أشكال ولحظات التلقي، يحدد ريكاردو بيجيليا مشروعه بصفته كتابة عن القارئ، لا القراءة.

قارئ القارئ
أصل القارئ المنعزل هو بورخيس الذي سيعود إليه الكاتب دائماً، وهذا طبيعي، فذلك هو الرجل الذي وحَّد بين فعلي القراءة والكتابة، حيث يقوم مشروعه على قصص كانت موجودة من قبل، تدخل إلى بورخيس القارئ بشكل وتخرج من بورخيس الكاتب بتضعيفات لعبة المرايا التي يلعبها جيداً.
القارئ بورخيس والقارئ الذي اخترعه يقيمان في النص انطلاقاً من الفضاء الذي يفتحه بين الكلمة والحياة. بورخيس هو القارئ الأكثر إبداعاً منذ دون كيخوتة، وهو القارئ الأكثر تراجيدية، ليس كقارئ كافكا الذي يجلس في غرفة تطل على جسور براغ في ظلام الليل، لكنه قارئ في تيه مكتبة، يقرأ سلسلة من الكتب، وليس كتاباً معزولاً، قارئ مبعثر في اقتفاء الأثر داخل نص. وثمة شيء مفقود أو مستبعد يقطع انسجام النص، وفي ذلك الغامض تكمن الفنتازيا، ويجد القارئ نفسه في مواجهة التكاثر واللانهائية. من هذا التوليد الذي يقوم به القارئ، نشأ رفض بورخيس للاعتقاد بانغلاق فرصة الكتابة أمام الأجيال: «اليقين بأن كل شيء قد كُتب يلغينا، ويحولنا إلى أشباح»، لهذا كان حريق المكتبة في نصوصه هاجساً براحة مستحيلة.

كافكا والناسخة
في يومياته، يصف كافكا الآنسة فيليس باور التي التقى بها في بيت صديقه ماكس برود عندما ذهب ليُسلمه مخطوط كتابه الأول عام 1912: «بدت لي خادمة. لم أشعر بأدنى حد من الفضول لأعرف من هي، لكني في الحال تفاهمت معها». يبدأ في مراسلتها. هكذا يحافظ على عزلته، ويستحضر المرأة إلى تلك العزلة بالصفة التي يريدها هو: المرأة القارئة. يختبرها بقراءة الخطابات أولاً، بعد ذلك تصبح قارئة للمخطوطات. القارئة الخادمة التي يجب أن تظل مقيدة إلى كتابته. وهكذا تصبح المرأة الصورة العاطفية التي تسمح بتوحيد الكتابة مع الحياة.
وفي ليلة اللقاء الأولى، يتلقى كافكا هدية أخرى عندما يكتشف أن الآنسة ناسخة، فتتحول من صورة المرأة التي تقرأ إلى صورة المرأة التي تنسخ النصوص على الآلة الكاتبة التي شاعت في ذلك الوقت، ولا يستطيع أن يستعملها بنفسه، لأن ضرباتها تقطع خط إلهامه؛ المرأة صارت آلة نسخ.
ثمة صور للمرأة بصفتها آلة نسخ قبل كافكا. آنا غريغوري سنيتكينا، ناسخة الاختزال التي التقى بها دوستويفسكي في أكتوبر (تشرين الأول) 1866 ليملي عليها رواية المقامر، وبعد شهر طلب يدها ثم تزوجها في فبراير (شباط) من العام التالي. وفيرا نابوكوف، المرأة التي تمشي بمسدس لتحمي زوجها، وتساعده في دروسه، وهي قبل كل شيء ناسخة نصوصه. ثمة علاقة شبيهة تربط بورخيس بالنساء، قارئات وناسخات، ومن ملاحظة أن بورخيس كان أعمى، ينتهي بيجيليا إلى الخلاصة: كل الكُتّاب عميان، تعوزهم نظرة شخص آخر، نظرة امرأة عاشقة تقرأ.

القراءة والجريمة
أحدث تمثيل لصورة القارئ هو المتحري السري، ليس بصفته الرمزية قارئ بصمات، بل لأن هذا النوع الأدبي ولد في مكتبة. المشهد الأول في رواية إدغار آلان بو «جرائم شارع مورج - 1841» التي أسست لرواية الجريمة يجري في مكتبة بشارع مونمارتر، حيث يتعرف الراوي مصادفة على أوجست دوبين، كلاهما يبحث عن كتاب نادر رفيع، لا نعرف ما هو مثلما لا نعرف الكتاب الذي كان هاملت يقرأه حين زاره شبح أبيه.
دوبين رجل أدب مهووس بالكتب، معزول اجتماعياً. وهذا شرط يميز رجل التحري عن البشر العاديين، شخص لا يقيم علاقات مع المجتمع، وليست لديه أسرة، وهذه صورة كافكا المنعزل. هي صورة العازب في فضاء استقلال متطرف، شرط لامتلاك رجل التحري القدرة على القراءة والتحليل. ويتابع بيجيليا حضور الأدب والقراءة في الرواية البوليسية لدى كثير من الكتاب بعد بو.

القراءة باب الموت
القراءة في أوقات الخطر. القراءة المتطرفة، خارج المكان، في ظروف الخسارة، ظروف الموت، أو أياً كان التهديد بالتدمير. القراءة تعارض عالماً كريهاً، مثل مخلفات حياة أخرى وذكرياتها. وهناك صورة فريدة لجيفارا في بوليفيا كان يقرأ فوق شجرة، وسط تجربة الفرقة المحاربة المطاردة. وقد ظل جيفارا حتى موته وفياً لما قرأه، وربما كانت حياته ذاتها إعادةً وتكراراً لنموذج تعلق به من القراءة. يكتب تشي في مشاهد من الحرب الثورية: «سريعاً ما فكّرتُ في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة، وقد بدا أن كل شيء قد ضاع. تذكرتُ قصة قديمة لـجاك لندن، حيث يستعد البطل المتكئ إلى جذع شجرة لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمداً في المناطق المثلجة بـألاسكا».
يعثر جيفارا في القراءة على النموذج المناسب لموته، وقد مات بكرامة مثل شخصية في قصة منسية بتاريخ الكتابة، مثلما عثر دون كيخوته في روايات الفروسية عن نموذج الحياة التي يريد أن يعيشها؛ إنها الثقافة التي تقولب التجربة.
ويتوقف بيجيليا أمام المشهد الشهير لآنا كارنينا وهي تقرأ كتاباً في القطار. ثمة رغبة من الرواية في تثبيت صورة المرأة بصفتها مستهلكاً لفن السرد. كان تولستوي مثل أدباء عصره منبهراً بالقطار، لكن هناك معنى أبعد للقراءة في القطار؛ معنى الرحلة داخل رحلة. في أي ظرف آخر، يتوغل القارئ، ويكتشف التوازي بين رحلته ورحلة البطل في العمل الذي يقرأ.
وترسم رواية تولستوي صورة لقارئة تفك شفرة حياتها من خلال الروايات الخيالية، هكذا يتجلى التوتر بين التجربة الحياتية المملة وتجربة القراءة العظيمة. وحينئذ تظهر البوفارية (نسبة إلى مدام بوفاري) الحلم بحياة الرواية بصفتها طموحاً لما نفتقده في الحياة الواقعية. أنا وبوفاري محاولتان للهروب من الحياة إلى الرواية قادتهما إلى الموت، وثمة تجارب تفعل العكس. ينقلب الخيالي إلى واقعي.

القراءة الأصعب
ينتهي بيجليو بتأمل متأنٍ طويلٍ لـعوليس، رواية جيمس جويس؛ النص الروائي الأصعب. ويعنون الفصل بـ«كيف صُنعت عوليس»، في نوع من التحية للروسي فيكتور سيكلوفسكي، صاحب دراسة «كيف صُنعت دون كيخوته»، مثنياً على تفرد طريقة الروس في قراءة الأدب، حيث يبحثون عن المعنى من خلال الشكل والبناء. ويقتبس كذلك عن نابوكوف قوله «القارئ الجيد، القارئ المثير للإعجاب، لا يتماهى مع شخصيات الكتاب، إنما مع الكاتب الذي ركب الكتاب». هذه الطريقة الروسية لامتلاك النصوص يراها ملائمة للاقتراب من رواية جويس الذي قال رداً عن سؤال حول عنوان روايته، والعلاقة مع نص هوميروس عن عوليس الأصلي، فقال إنه النظام الذي أعمل به. هكذا، علينا أن نبحث عن الأوديسة في البنية المختبئة والممحوة في عوليس جويس.
وحتى نهاية الكتاب، يؤرقنا العنوان: لماذا القارئ الأخير؟ لا يضع بيجيليا نقطة الختام قبل أن يريحنا، مستنداً إلى مقولة فيتغنشتاين: «في طريق الفلسفة، يربح من يستطيع الركض بتأنٍ، أو ذاك الذي يصل الأخير إلى هدفه». والقارئ الأخير يستجيب ضمنياً لهذا البرنامج.



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».