الجيل التسعيني في العراق... فقر الدم الشعري

تعلموا في مدارس تحتفل كل خميس برمي إطلاقات نارية من رشاشة مدير المدرسة

أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
TT

الجيل التسعيني في العراق... فقر الدم الشعري

أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً

كثيراً ما أردد بيت المتنبي الشهير: «أتى الزمانَ بنوه في شبيبته/ فسرهم، وأتيناه على الهرم»، بوصفه مصداقاً على الجيل التسعيني الشعري في العراق، ذلك أن الأجيال الشعرية العراقية التي بدأ ترسيمها من جيل الريادة حتى نهاية القرن العشرين، كلها عاشت مراحلها الثقافية، والتعليمية، بنحوٍ أفضل بكثير مما عاشه جيل التسعينات.
إن معظم شعراء تلك الأجيال السابقة عاشوا حياتهم بشكل جيد، ما بين السفر، والتعليم، والحياة السياسية، التي تعلو وتهبط في الوقت نفسه، ولكنها بالنتيجة حياة سياسية لم تُطبع بسمة الأخ الأكبر كما عرفها الجيل التسعيني، وربما كان الجيل الثمانيني حطباً للمعارك المتهورة، لذلك كتب عنهم محمد مظلوم كتاباً سماه بـ«حطب إبراهيم»، وحين نعود إلى جيلنا التسعيني، فإن شعراءه ولدوا ما بين بداية العقد السابع ونهايته من القرن الماضي، بمعنى أن هؤلاء الشباب دخلوا مدارسهم تحت صفارات الإنذار، التي كانت تطلقها السلطات لحظة القصف الجوي، وأنهم تعلموا في مدارس تحتفل كل خميس برمي إطلاقات نارية من رشاشة مدير المدرسة، وإن الكتب التي تعلموا من خلالها هي الكتب التي تدفع باتجاه الزخم القومي وتعبئته، كما أنها كتب مفخخة بالتعالي، ومشككة بالآخر، فكل آخر هو عدو، يجب الاقتصاص منه، وحتى أمثلة الإعراب في القواعد التي كنا ندرسها، فإننا كنا نتعلم الإعراب بجمل مثل «انتصر جيشنا الباسل على أعدائه» اعرب «الجيش الباسل»، أو «الخائن عدو لا يستحق العيش» اعرب «الخائن»، إن هذه الشواهد ــ ومثلها العشرات ــ تسربت لعقل الطالب ووجدانه دون وعيه طبعاً، وحين كبر أبناء هذا الجيل قليلاً، وبدأوا يدخلون مرحلة المراهقة، فإذا بهم يخرجون من حرب طاحنة، ويدخلون بغزو لدولة جارة، بعدها يدخلون حصاراً اقتصادياً مريراً، وحين نتحدث عن وعي الجيل التسعيني، بشعرائه، ومثقفيه، أبناء هذه المرحلة، فإن مرحلة الحصار الاقتصادي هي مرحلة التكون الأولى التي نشأ عليها هذا الجيل، ذلك أن منسوب التعليم في بداية انحداره، والكتاب في بداية احتجابه، وأصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً، ولا يحظى به إلا ذو حظ عظيم، أما نشر قصيدة خارج العراق فهو حلم وطموح لكل شاعر عراقي في تلك الأيام، وحين تحضر مجلة عربية في بعض محلات بيع الكتب في شارع المتنبي، أو باب المعظم، فإن حضورها يمثل احتفالاً عظيماً، أما حين نتحدث عن السفر، فإن أبناء هذا الجيل لم يستطعوا أن يسافروا حتى خارج محافظاتهم، ومن سافر منهم خارج العراق، فإنه سافر ليطلب اللجوء هرباً من الوضع الداخلي.
لم يتعلم معظم أبناء هذا الجيل أي لغة أجنبية، ما عدا بعض الاستثناءات فيه، وبهذا فإنهم ذوو ثقافة أحادية، بخلاف الجيل الستيني ــ على سبيل المثال ــ الذي يجيد معظم شعرائه لغة أجنبية أو أكثر، بدليل عدم صدور أي مادة مترجمة لشاعر تسعيني حتى ما بعد عام 2005. هذا إذا علمنا أن معظم شعراء الجيل الستيني أيام الستينات والسبعينات، وحتى ما قبل الحصار بقليل كان قد سافروا إلى معظم دول العالم، بل إنهم تعبوا من التجوال، وبعضهم عملوا ملحقين ثقافيين، ومديرين لمراكز ثقافية خارج العراق ولسنوات طويلة، مما أكسبهم معرفة ولغة ثانية، فضلاً عن أفق العلاقات المفتوح لدى شريحة كبيرة من أبناء الجيل الستيني.
إن كل هذا الأمور التي ذكرتُها، وأخرى ــ ربما ــ مسكوت عنها، شكلت ملامح الجيل التسعيني الشعري على وجه التحديد، لذلك هو جيل غير محظوظ في الزمان الذي جيء فيه، وانطلق منه، ذلك أن معظم الظروف هي ظروف موضوعية، لم يكن له يدٌ بها، إنما فُرضت عليه، وأثرت ــ بالنتيجة ــ على وعيه الثقافي، ونتاجه الشعري.
كيف لنا أنْ نفحص ثقافة جيل من الأجيال الشعرية؟ هل نأخذ عينة من كل شاعر؟ بيتاً أو مقطعاً شعرياً، ونحلله كما يحلل طبيب المختبر قطرة الدم للإنسان، فيكتشف أمراضه أو عافيته، كما يقول صلاح فضل، إذن ليس لنا إلا نصوص الشعراء التسعينيين، فضلاً عن حواراتهم التي أجروها، أو المقالات التي كتبها البعض منهم، كل تلك الأشياء هي عينات لمعرفة ثقافة أبناء ذلك الجيل الذي أنا واحد منه، وأزعم أن ثقافة جيلنا هي ثقافة بسيطة، لم تحظ بمعرفة عالية تنافس بقية الأجيال.
إن إحدى أدوات معرفة ثقافة الجيل الشعري هي فحص تناصات الشعراء، والبحث عن الأقنعة التي استعملوها في نصوصهم، وتحولات تلك الأقنعة، كما يشمل أيضاً البحث عن قدرة الشعراء على تطويع الأسطورة والرمز والميثولوجيا والدين والحكايات الشعبية والخرافات والأمثال في نصوصهم، وامتصاص كل تلك المعرفة، وطرحها مهضومة على بشرة القصيدة، كل ذلك إشارات إنْ وجدت في نص ما فإنها تدل على حجم ثقافة الشاعر وقدرته على ضخ قصيدته بتلك الثقافات، ذلك أن القصيدة عبارة عن جنين في رحم الأم، إذ كلما كان غذاء الأم جيداً، فإن الجنين سيكون بصحة موفورة، كذلك القصيدة كلما كان شاعرها ممتلئاً بالمعرفة، والثقافة، كانت قصيدته انعكاساً لتلك المعرفة، بتنوع الموضوعات التي أشرت لها قبل قليل.
من خلال هذه الفرضية التي أظنها ناجعة لفحص ثقافة شعراء أي مرحلة من المراحل، فإني وجدتُ معظم شعراء الجيل التسعيني يتكئون على ذواتهم في صناعة القصيدة، والاتكاء على الذات ضروري ومهم، ولكنه قصير الأمد، لأن الذات بئرٌ تنفد إنْ لم تسعفه المياه الجوفية المجاورة، لهذا لجأ معظم أبناء ذلك الجيل إلى اللعب اللغوي، وجعلوه عمادهم الشعري، وتفننوا بصناعة عددٍ من النصوص التي قد تكون مفاجئة أول الأمر، لكنها في المرة الثانية والثالثة تُصبح لعبة سمجة، ولا معنى لها، والغريب أننا قد نتسامح مع الشاعر في بداياته، حين يلجأ إلى اللعب اللغوي، ولكن الإصرار عليه بعد سنوات طوال هو جفاف شعري لا أكثر.
ومثلما شكل اللعب اللغوي، وأنا أصر على أنه لعب لغوي، لأن اللغة ــ وحدها ــ قد تصنع شعراً عظيماً، ولكن اللعب داخل اللغة يحول النصوص إلى جثث هامدة، وركام من المفردات لا طاقة فيها، ولا فائدة منها، أقول مثلما شكل اللعب اللغوي جانباً مهماً من اهتمام الشعراء، أخذ «التناص الديني» مساحة كبيرة من اشتغالهم أيضاً، وقد عملتُ جرداً لأغلب الشعراء الذين كتبوا في الموزون تحديداً، وبحثتُ عن تناصاتهم الشعرية وجدتُ نسبة عالية منها تناصات دينية، ونسبة أعلى منها تتناص مع قصة «يوسف الصديق» وإخوته، والذئب، ثم وجدتُ إن الأثر السياسي أيام التسعينات واضحٌ ــ وبدون وعي ــ على نتاجات أبناء الجيل بحدود تناصاتهم، ذلك أن الخطاب السياسي في تلك الأيام كان يشير بوضوح إلى أن العراق تُرك وحيداً، وقد تركه إخوته العرب الذين شبهتهم السلطة بإخوة يوسف، وإن العراق هو «يوسف العصر الحديث»، ومن خلال هذا الضخ الإعلامي ترسخ مفهوم يوسف في الشعر العراقي، وأصبح أيقونة الجيل التسعيني، إذ لا يكاد يخلو شاعر من شعراء الجيل التسعيني إلا وقد تناص مع قصة يوسف، وهذا الأمر كما ذكرت ربما بأثر سياسي دون وعي، أو بجدب ثقافي يكتفي بقصص دينية مشهورة، تُسمع يومياً حتى في مجالس العزاء، وبهذا شكل يوسف وقصته أكثر التناصات التي أخذت مساحة من قصائد ذلك الجيل، فيما افتقروا إلى تناصات مع أي شعر مترجم، مما يعني ندرة القراءات الأجنبية، أو تناصات مع أعمال روائية كبرى، أو اختفاء الرمز، والأسطورة من جل أعمالهم.
أظن أن تلك الإشارات تدل بوضوح إلى ثقافة شعراء الجيل التسعيني الذي أزعم أنه لم يكن جيلاً مثقفاً للأسباب الموضوعية التي ذكرتُها، وهي معظمها أسباب سياسية، واجتماعية، أسهمت بخنق تطلعات ذلك الجيل، فدرس ابتدائيته في الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم المتوسطة في غزو الكويت، ومن ثم الحصار الذي رافق الجيل حتى تخرج من الجامعة، والحصار جاثم على صدورهم، بينما شبابهم تفتح في وقت انهيار الدولة العراقية في التسعينات أيام الكذب السياسي على العراق، والعالم كله، وتحول النظام إلى نمر من كارتون.
الجيل التسعيني شعرياً هو يشبه العراق في تطرفه، ذلك أن الشكل الشعري في أعلى صراعاته، فإما شاعر يكتب العمود، أو شاعر يكتب قصيدة النثر، فيما ندر شعراء التفعيلة الذين يشكلون المنطقة الأخف توتراً من تلك المنطقتين.
قد يكون في هذا الكلام بعض العموميات التي يزعل منها البعض، ولكن في الحقيقة هو عبارة عن جرد لخصتُه في بحث طويل درست فيه تناصات الشعراء، فخرجت بهذه الرؤية التي استطاع البعض من شعراء ذلك الجيل تجاوز هذا التوصيف، ورفد نصوصهم بثقافات متعددة، أسهمت في أن تكون نصوص البعض منهم نصوصاً كبيرة ومهمة لحجم المعرفة والفكر الذي تطعمت به تلك النصوص، فيما بقي الكثير منهم مخموراً باللعب اللغوي، ومسحوراً بالمفارقات اللغوية، التي لا تغني القصيدة، بل أصبحت ورماً كبيراً منع القصيدة وصاحبها من التحليق عالياً.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.