الجيل التسعيني في العراق... فقر الدم الشعري

تعلموا في مدارس تحتفل كل خميس برمي إطلاقات نارية من رشاشة مدير المدرسة

أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
TT

الجيل التسعيني في العراق... فقر الدم الشعري

أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً
أصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً

كثيراً ما أردد بيت المتنبي الشهير: «أتى الزمانَ بنوه في شبيبته/ فسرهم، وأتيناه على الهرم»، بوصفه مصداقاً على الجيل التسعيني الشعري في العراق، ذلك أن الأجيال الشعرية العراقية التي بدأ ترسيمها من جيل الريادة حتى نهاية القرن العشرين، كلها عاشت مراحلها الثقافية، والتعليمية، بنحوٍ أفضل بكثير مما عاشه جيل التسعينات.
إن معظم شعراء تلك الأجيال السابقة عاشوا حياتهم بشكل جيد، ما بين السفر، والتعليم، والحياة السياسية، التي تعلو وتهبط في الوقت نفسه، ولكنها بالنتيجة حياة سياسية لم تُطبع بسمة الأخ الأكبر كما عرفها الجيل التسعيني، وربما كان الجيل الثمانيني حطباً للمعارك المتهورة، لذلك كتب عنهم محمد مظلوم كتاباً سماه بـ«حطب إبراهيم»، وحين نعود إلى جيلنا التسعيني، فإن شعراءه ولدوا ما بين بداية العقد السابع ونهايته من القرن الماضي، بمعنى أن هؤلاء الشباب دخلوا مدارسهم تحت صفارات الإنذار، التي كانت تطلقها السلطات لحظة القصف الجوي، وأنهم تعلموا في مدارس تحتفل كل خميس برمي إطلاقات نارية من رشاشة مدير المدرسة، وإن الكتب التي تعلموا من خلالها هي الكتب التي تدفع باتجاه الزخم القومي وتعبئته، كما أنها كتب مفخخة بالتعالي، ومشككة بالآخر، فكل آخر هو عدو، يجب الاقتصاص منه، وحتى أمثلة الإعراب في القواعد التي كنا ندرسها، فإننا كنا نتعلم الإعراب بجمل مثل «انتصر جيشنا الباسل على أعدائه» اعرب «الجيش الباسل»، أو «الخائن عدو لا يستحق العيش» اعرب «الخائن»، إن هذه الشواهد ــ ومثلها العشرات ــ تسربت لعقل الطالب ووجدانه دون وعيه طبعاً، وحين كبر أبناء هذا الجيل قليلاً، وبدأوا يدخلون مرحلة المراهقة، فإذا بهم يخرجون من حرب طاحنة، ويدخلون بغزو لدولة جارة، بعدها يدخلون حصاراً اقتصادياً مريراً، وحين نتحدث عن وعي الجيل التسعيني، بشعرائه، ومثقفيه، أبناء هذه المرحلة، فإن مرحلة الحصار الاقتصادي هي مرحلة التكون الأولى التي نشأ عليها هذا الجيل، ذلك أن منسوب التعليم في بداية انحداره، والكتاب في بداية احتجابه، وأصبح حضور الكتاب العربي في شارع المتنبي أيام التسعينات نادراً جداً، ولا يحظى به إلا ذو حظ عظيم، أما نشر قصيدة خارج العراق فهو حلم وطموح لكل شاعر عراقي في تلك الأيام، وحين تحضر مجلة عربية في بعض محلات بيع الكتب في شارع المتنبي، أو باب المعظم، فإن حضورها يمثل احتفالاً عظيماً، أما حين نتحدث عن السفر، فإن أبناء هذا الجيل لم يستطعوا أن يسافروا حتى خارج محافظاتهم، ومن سافر منهم خارج العراق، فإنه سافر ليطلب اللجوء هرباً من الوضع الداخلي.
لم يتعلم معظم أبناء هذا الجيل أي لغة أجنبية، ما عدا بعض الاستثناءات فيه، وبهذا فإنهم ذوو ثقافة أحادية، بخلاف الجيل الستيني ــ على سبيل المثال ــ الذي يجيد معظم شعرائه لغة أجنبية أو أكثر، بدليل عدم صدور أي مادة مترجمة لشاعر تسعيني حتى ما بعد عام 2005. هذا إذا علمنا أن معظم شعراء الجيل الستيني أيام الستينات والسبعينات، وحتى ما قبل الحصار بقليل كان قد سافروا إلى معظم دول العالم، بل إنهم تعبوا من التجوال، وبعضهم عملوا ملحقين ثقافيين، ومديرين لمراكز ثقافية خارج العراق ولسنوات طويلة، مما أكسبهم معرفة ولغة ثانية، فضلاً عن أفق العلاقات المفتوح لدى شريحة كبيرة من أبناء الجيل الستيني.
إن كل هذا الأمور التي ذكرتُها، وأخرى ــ ربما ــ مسكوت عنها، شكلت ملامح الجيل التسعيني الشعري على وجه التحديد، لذلك هو جيل غير محظوظ في الزمان الذي جيء فيه، وانطلق منه، ذلك أن معظم الظروف هي ظروف موضوعية، لم يكن له يدٌ بها، إنما فُرضت عليه، وأثرت ــ بالنتيجة ــ على وعيه الثقافي، ونتاجه الشعري.
كيف لنا أنْ نفحص ثقافة جيل من الأجيال الشعرية؟ هل نأخذ عينة من كل شاعر؟ بيتاً أو مقطعاً شعرياً، ونحلله كما يحلل طبيب المختبر قطرة الدم للإنسان، فيكتشف أمراضه أو عافيته، كما يقول صلاح فضل، إذن ليس لنا إلا نصوص الشعراء التسعينيين، فضلاً عن حواراتهم التي أجروها، أو المقالات التي كتبها البعض منهم، كل تلك الأشياء هي عينات لمعرفة ثقافة أبناء ذلك الجيل الذي أنا واحد منه، وأزعم أن ثقافة جيلنا هي ثقافة بسيطة، لم تحظ بمعرفة عالية تنافس بقية الأجيال.
إن إحدى أدوات معرفة ثقافة الجيل الشعري هي فحص تناصات الشعراء، والبحث عن الأقنعة التي استعملوها في نصوصهم، وتحولات تلك الأقنعة، كما يشمل أيضاً البحث عن قدرة الشعراء على تطويع الأسطورة والرمز والميثولوجيا والدين والحكايات الشعبية والخرافات والأمثال في نصوصهم، وامتصاص كل تلك المعرفة، وطرحها مهضومة على بشرة القصيدة، كل ذلك إشارات إنْ وجدت في نص ما فإنها تدل على حجم ثقافة الشاعر وقدرته على ضخ قصيدته بتلك الثقافات، ذلك أن القصيدة عبارة عن جنين في رحم الأم، إذ كلما كان غذاء الأم جيداً، فإن الجنين سيكون بصحة موفورة، كذلك القصيدة كلما كان شاعرها ممتلئاً بالمعرفة، والثقافة، كانت قصيدته انعكاساً لتلك المعرفة، بتنوع الموضوعات التي أشرت لها قبل قليل.
من خلال هذه الفرضية التي أظنها ناجعة لفحص ثقافة شعراء أي مرحلة من المراحل، فإني وجدتُ معظم شعراء الجيل التسعيني يتكئون على ذواتهم في صناعة القصيدة، والاتكاء على الذات ضروري ومهم، ولكنه قصير الأمد، لأن الذات بئرٌ تنفد إنْ لم تسعفه المياه الجوفية المجاورة، لهذا لجأ معظم أبناء ذلك الجيل إلى اللعب اللغوي، وجعلوه عمادهم الشعري، وتفننوا بصناعة عددٍ من النصوص التي قد تكون مفاجئة أول الأمر، لكنها في المرة الثانية والثالثة تُصبح لعبة سمجة، ولا معنى لها، والغريب أننا قد نتسامح مع الشاعر في بداياته، حين يلجأ إلى اللعب اللغوي، ولكن الإصرار عليه بعد سنوات طوال هو جفاف شعري لا أكثر.
ومثلما شكل اللعب اللغوي، وأنا أصر على أنه لعب لغوي، لأن اللغة ــ وحدها ــ قد تصنع شعراً عظيماً، ولكن اللعب داخل اللغة يحول النصوص إلى جثث هامدة، وركام من المفردات لا طاقة فيها، ولا فائدة منها، أقول مثلما شكل اللعب اللغوي جانباً مهماً من اهتمام الشعراء، أخذ «التناص الديني» مساحة كبيرة من اشتغالهم أيضاً، وقد عملتُ جرداً لأغلب الشعراء الذين كتبوا في الموزون تحديداً، وبحثتُ عن تناصاتهم الشعرية وجدتُ نسبة عالية منها تناصات دينية، ونسبة أعلى منها تتناص مع قصة «يوسف الصديق» وإخوته، والذئب، ثم وجدتُ إن الأثر السياسي أيام التسعينات واضحٌ ــ وبدون وعي ــ على نتاجات أبناء الجيل بحدود تناصاتهم، ذلك أن الخطاب السياسي في تلك الأيام كان يشير بوضوح إلى أن العراق تُرك وحيداً، وقد تركه إخوته العرب الذين شبهتهم السلطة بإخوة يوسف، وإن العراق هو «يوسف العصر الحديث»، ومن خلال هذا الضخ الإعلامي ترسخ مفهوم يوسف في الشعر العراقي، وأصبح أيقونة الجيل التسعيني، إذ لا يكاد يخلو شاعر من شعراء الجيل التسعيني إلا وقد تناص مع قصة يوسف، وهذا الأمر كما ذكرت ربما بأثر سياسي دون وعي، أو بجدب ثقافي يكتفي بقصص دينية مشهورة، تُسمع يومياً حتى في مجالس العزاء، وبهذا شكل يوسف وقصته أكثر التناصات التي أخذت مساحة من قصائد ذلك الجيل، فيما افتقروا إلى تناصات مع أي شعر مترجم، مما يعني ندرة القراءات الأجنبية، أو تناصات مع أعمال روائية كبرى، أو اختفاء الرمز، والأسطورة من جل أعمالهم.
أظن أن تلك الإشارات تدل بوضوح إلى ثقافة شعراء الجيل التسعيني الذي أزعم أنه لم يكن جيلاً مثقفاً للأسباب الموضوعية التي ذكرتُها، وهي معظمها أسباب سياسية، واجتماعية، أسهمت بخنق تطلعات ذلك الجيل، فدرس ابتدائيته في الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم المتوسطة في غزو الكويت، ومن ثم الحصار الذي رافق الجيل حتى تخرج من الجامعة، والحصار جاثم على صدورهم، بينما شبابهم تفتح في وقت انهيار الدولة العراقية في التسعينات أيام الكذب السياسي على العراق، والعالم كله، وتحول النظام إلى نمر من كارتون.
الجيل التسعيني شعرياً هو يشبه العراق في تطرفه، ذلك أن الشكل الشعري في أعلى صراعاته، فإما شاعر يكتب العمود، أو شاعر يكتب قصيدة النثر، فيما ندر شعراء التفعيلة الذين يشكلون المنطقة الأخف توتراً من تلك المنطقتين.
قد يكون في هذا الكلام بعض العموميات التي يزعل منها البعض، ولكن في الحقيقة هو عبارة عن جرد لخصتُه في بحث طويل درست فيه تناصات الشعراء، فخرجت بهذه الرؤية التي استطاع البعض من شعراء ذلك الجيل تجاوز هذا التوصيف، ورفد نصوصهم بثقافات متعددة، أسهمت في أن تكون نصوص البعض منهم نصوصاً كبيرة ومهمة لحجم المعرفة والفكر الذي تطعمت به تلك النصوص، فيما بقي الكثير منهم مخموراً باللعب اللغوي، ومسحوراً بالمفارقات اللغوية، التي لا تغني القصيدة، بل أصبحت ورماً كبيراً منع القصيدة وصاحبها من التحليق عالياً.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!