«اختلاف» تعكس مفردات البيئة المصرية وتناقضات الحياة

الحضارة الفرعونية تفرض نفسها على منحوتات المعرض

الفنان محمود الدويحي أثناء عمله (الشرق الأوسط)
الفنان محمود الدويحي أثناء عمله (الشرق الأوسط)
TT

«اختلاف» تعكس مفردات البيئة المصرية وتناقضات الحياة

الفنان محمود الدويحي أثناء عمله (الشرق الأوسط)
الفنان محمود الدويحي أثناء عمله (الشرق الأوسط)

كان فن النحت من أبرز فنون الحضارة المصرية القديمة، التي تركت إرثاً كبيراً من الأعمال النحتية الصخرية في مختلف أنحاء مصر، والآن لدى مصر جيل من التشكيليين يتمتع بقدرات إبداعية تتميز بتقديم صيغ ورؤى جديدة عبر هذا الفن، ومنهم النحات الجنوبي محمود الدويحي، الذي يعمل على إعادة إحياء النحت باستخدام خامة الغرانيت، وفي معرضه المقام بغاليري «آرت موشن» بالزمالك تحت عنوان «اختلاف»، يقدم مجموعة جديدة من أعماله التي تعكس مفردات البيئة وتناقضات الحياة.
يركز الدويحي على الجوهر ولا يقدم سوى كتل «صافية» هادئة تتضمن لمحات ولمسات فائقة البساطة، وكأنها مجموعة خطوط يحيطها الفراغ بنعومة ورفق في حركة حرة تجتذب العين والوجدان وتدفع إلى التأمل والتفكير؛ ولذلك على الرغم من تجسيده الأفكار والفلسفة التي يقوم عليها فنه بأقل التفاصيل الممكنة، إلا أن منحوتاته تقدم للمتلقي معاني لا حصر لها حول فكرة الاختلاف، وتأخذنا إلى معطيات فلسفية وجمالية عالية.
يقول الدويحي لـ«الشرق الأوسط»، «نَبَعت فكرة الاختلاف داخلي من تأملي للطبيعة والحياة، وتأثرت كثيراً بأن كل شيء يختلف عن الآخر، الناس والحيوانات والطيور والجماد، بل إن الكائن الواحد يختلف من وقت إلى آخر باختلاف الزمن والظروف، فقررت أن أعبّر عن ذلك أيضاً بأسلوب فني مختلف عبر هذا المعرض الذي بدأت فيه منذ نحو سنتين ونصف السنة».
يلتقي المشاهد في منحوتات الدويحي بشخوص يحملون قدراً واضحاً من الاختلاف، فهم ليسوا شخصيات عادية، إنما لكل منهم سماته المميزة بالثراء والتنوع والطاقة الداخلية المستمدة من مدينته أسوان (جنوب مصر)، ففي تجسيده المرأة نرى منظوراً مختلفاً، يقول «هي ما نطلق عليه في جنوب مصر اسم (المرأة الكبيرة)، أي ذات الشخصية القوية، وهي ذات كلمة وهيبة في البيت، تتمتع بالشموخ والرؤية الثاقبة، ويحترمها الجميع الزوج والأبناء».
ومن المرأة إلى الرجل نشاهد عملاً نحتياً تعبيرياً يوحي بالشّموخ والهيبة والوقار عبر طول الجسد واستقامته ونظرته إلى الخيال الطّليق. وهكذا سائر الشخوص.
أما الطيور التي يحتفي بها بشكل خاص في معرضه المستمر حتى منتصف الشهر الحالي، فإنها تعبّر عن تأثره ببيئته وحضارته التي تعظّم قيمة الطائر فهي بمثابة رمز للحياة والاحتواء والسلام، ويأتي تمثال الطائر الذي يفتح جناحيه بقوة وثقة كأنه يحتضن جميع المنحوتات، كأيقونة المعرض لا سيما أنه برع في اختيار مكانه وأسلوب عرضه حين وضعه في نهاية القاعة، بحيث يرى الزائر كل الأعمال في معيته وفي كنفه، ويُعد ذلك تأثراً بالحضارة المصرية القديمة.
ويبرّر الدويحي ذلك قائلاً «لطالما كان للطيور مكانة ومنزلة كبيرتان عند المصريين القدماء منذ فجر التاريخ، فقد تأثر المصري القديم بالطيور، وحرص على تصويرها على جدران المعابد والمقابر لما لها من دلالات دينية مقدسة، وقد وصل الأمر إلى أن أجساد بعضها كانت تُحنّط بعد الممات وتكفّن، كما كان يكفن البشر بلفائف الكتان، من ثمّ توضع داخل توابيت من الحجر أو الفخار، والأكثر من ذلك أنه كان يُنفذ حكم الإعدام ضد كل من يتعدى بالسوء على بعض هذه الطيور؛ لذلك أردت التأكيد على أن مصر وناسها وكل الموجودات على أرضها في أمان وسلام من خلال هذا الطائر».
تشرّب الدويحي الحضارة الفرعونية منذ الطفولة وعاش في مناخاتها عبر زياراته المتكررة للمناطق الأثرية بأسوان والأقصر «عشت إحساس الأبدية والخلود، والهيبة والقوة، وأدركت أن لي جذوراً قوية وصلبة، وانعكس ذلك على منحوتاتي»، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك؛ فقد تخلص الفنان عبر تأمل الفنون المصرية في مسقط رأسه ومهد الحضارات من أي تفاصيل أو انتماء لمدرسة فنية دون أخرى، مؤكداً «تأثرت بملامح الفن الفرعوني مرتين، الأولى من نشأتي والأخرى عبر تعلمي في مدرسة الفنان الرائد آدم حنين، حيث عملت معه 15 عاماً متصلة، ومن المعروف أنه تأثر بالتلخيص والتجريد والانسيابية والأسطح الملساء من حضارتنا العظيمة».
يطوع الدويحي خامة الغرانيت التي لا يرضى بغيرها بديلاً، على الرغم من أنها أصعب وأكثر أنواع النحت قسوة، ويرجع ذلك إلى كثافة الصخور وصعوبة التحكم فيها، لا سيما أنه يستخدم التقنيات اليدوية القديمة الأصيلة، استلهاماً من منحوتات أجداده «إن الفنان الجنوبي لا سيما من أسوان لديه تواصل خاص ومختلف مع خامة الغرانيت، كلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر، وكأن هذه الخامة لا تبوح بكل أسرارها إلا له وحده»، على حد تعبيره.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.