مدرسة الشعراء التي هدمتها الجرافات

مدرسة الشعراء التي هدمتها الجرافات
TT

مدرسة الشعراء التي هدمتها الجرافات

مدرسة الشعراء التي هدمتها الجرافات

صدر للكاتبة همسة محمد علي عملها الأدبي الموسوم «حنين» عن مطبعة البصرة – التحسينية، وضم 263 صفحة من القطع الكبير. والمؤلفة ابنة الشاعر محمد علي إسماعيل، صديق الشاعر بدر شاكر السياب، وشيّعه إلى مثواه الأخير مع الشاعر علي السبتي.
الكتاب هو سيرة ذاتية عن ذكريات الكاتبة، طفولتها وشبابها، في المكان الذي أحبته وعاشت أجمل أيامها فيه، وهو قضاء أبي الخصيب في البصرة، حيث تعلق قلبها بالنخلة وبشجرة المانغو التي نقلتهما من هناك إلى بغداد، حيث استقرت في الثمانينات:
هنا مقتطفات منه:

سحّارة جدتي

فجأة دون سبب ومضت في مخيلتي صورة من الماضي... وانبعثت رائحة حبيبة من سحارة جدتي... هي نفحة من البخور الهندية وعلك البستج... والحناء... والطين خاوة... والنمنمات الخبيئة التي تفاجئنا كلما قسا الوالد علينا... أو حين ترسلنا في مهمة إلى بيت عمنا أو الجيران.
صندوقها السحري المعطر ذاك – ولا أدري لماذا تسميه سحارة – كم تمنيت أن أدفن رأسي فيه... لأرى ما يحتويه! مشطها الخشبي... هداياها... ذكرياتها المعتقة منذ سنين... ثيابها الملونة، بأسمائها الغريبة، الشذري.. النامرد... الكلبدون... عباءتها ذات الحافات المطرزة... صندلها الصغير بلون الجوز... فوطتها السوداء الناعمة.

وكم أسعدتنا «الشيونة»! تدفنها في حضننا... خلسة... كل منا يظن أنه المفضل والمدلل لديها...! إخوتي الأحبة.... أتساءل كيف استطاعت أن تقنعنا بتلك الفكرة؟
وحين نصاب بالصداع والحمى كانت تضع على جبيننا لبخات الطين خاوة، فكأنها تمتص الألم والحرارة فنشفى!
أما فراشها الرائع... فلا مثيل لبرودته في أيام القيظ الحارة.. لا أدري أي نسمة ربيعية حملت إلى تلك الرائحة الآن فانتعشت روحي وذاكرتي لتصحو جدتي النائمة في أعماق قلبي!
حدثني والدي عنها ذات مرة فقال: كنت في الخامسة عشرة من عمري حين أحببت لأول مرة... وفي لحظة من الانفعال واشتعال الشوق إلى الحبيبة سألت أمي وأنا أنتظر جواباً مهماً شافياً لما حلّ بي... أمي ما رأيك في الحب؟ وبقيت أنظر إلى وجهها... فأجابتني بكل ثقة وبساطة بصوتها الجميل: الحب أحسن من الكره يا وليدي!
وكانت إذا سمعت صوت القصف المدفعي تقول لأبي: اخرج لهم وقل لهم عندنا مريضة تريد أن تنام فلا تلقوا بالطشوت من السطوح وتقلقوا راحتها (كانت تظن أنهم الجيران).

مدرسة المتميزين

في عام 1911 تبرع الحاج محمود باشا العبد الواحد، وهو أحد وجهاء ابي الخصيب، ببناء مدرسة من الطابق في منطقة (جلاب). وافتتحت المدرسة في عام 1912، وقد جمع أهالي أبي الخصيب ألف بلبل من جنات بساتينها في أقفاص... تم إطلاقها عند الافتتاح ابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة. وقد سميت باسم «المدرسة المحمودية» تكريماً للمتبرع ببنائها.
وبسبب زيادة عدد طلابها وعدم كفاية الصفوف، انتقلت المدرسة في عام 1929 إلى بناية ديوان الحاج محمود باشا. لقد تخرج فيها والدي، وكذلك الشاعر بدر شاكر السياب، والشعراء صالح فاضل الخصيبي، وعبد الباقي لفتة، وسعدي يوسف، ومصطفى عبد الله، والملحن ياسين الراوي، والفنان منقذ الشريدة، والدكتور عبد الأمير دكسن، والدكتور محمد ناصر العثمان العضو المؤسس لجامعة بغداد، والكثير غيرهم.
هذه البناية التراثية الجميلة، ملهمة الشعراء لها مكانة غالية في قلوب أبي الخصيب حتى أن المديرية العامة لتربية البصرة أرادت أن تعيد ترميمها وجعلها بناية تاريخية ورمزاً ثقافياً وتربوياً، لكن الجميع فوجئ عام 1993 بقيام الجرافات بهدم هذا الصرح الثقافي بهمجية بعد أن قام الورثة ببيعها سراً دون إبلاغ أحد! ولكن سرباً من البلابل الشادية سيبقى يغرد هناك إلى الأبد.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!